تحولات القيمة ومستقبل الإبداع
عندما نتحدث عن القيمة، فإن تصوراً مثالياً يقوم في أذهاننا على اعتبارات عقلانية مجردة، فعلى سبيل المثال: علماء الرياضة يعرّفون القيمة المطلقة بأنها، إما أن تكون موجبة أو صفراً، ولكنها أبداً، لا تكون سالبة. يعنى هذا أن القيمة، تكون دائماً تصوراً مكتملاً بذاته، يخلو من النقصان.
لكن القيمة، وإن كانت معياراً مثالياً ومطلقاً، إلا أنها تظل معنىً مجرداً غير متجسد، وهذه الصفة تجعلها قابلة للاحتمالات والتفاوت، فالقيم التي نتفق على أهميتها مثل: العدل والحرية والتسامح، قد نختلف على صورتها، ذلك لأنها لا تتجسد فى هيئة أو ممارسة إلا ضمن مواضعات ثقافية واجتماعية مرتهنة بالمكان والزمان والشخصية.
لهذا .. فالقيمة بوصفها معياراً ثقافياً قابلا للتحولات، بل ويبدو أن التحولات ـ فى حد ذاتها ـ هى الثابت الوحيد فى شأن موضوع القيمة كمعنى ثقافي، وأن هذه التحولات هى الطبيعة التي تمنح القيمة جسداً وهيئة بحيث يمكن تصورها، ومن ثم تنقذها من التجريد، بل ومن المثالية والاكتمال والأبدية التي تدفعنا إليها القيمة المطلقة في المعني العلمي.بمعنى أنها ليست مطلقة.
القيمة بالمعني الثقافي تحترم النقصان والضعف،لأنها منتج إنساني تنتخبه الشعوب عبر خبرات الحياة اليومية والممارسة، ومن ثمّ تسربها إلى فنونها وآدابها ومنتوجاتها الثقافية كافة.
الطريف، أن المعنى العلمي للقيمة، يتوافق مع المعنى الميتافيزيقي لها، كلاهما ينحو إلى الإطلاق والتأبيد، ففي التفكير الميتافيزيقي نحن لاننظر إلى الجسد ـ مثلا ـ بوصفه قيمة، إنه ـ دائما ـ الجانب المظلم من المعرفة والوعى، إنه الأرضي الفانى الناقص الشهوي الخاطئ المدنس. لقد استقر الوعى الإنساني على وضع الجسد في الجانب السلبى كنتيجة منطقية لمعادلة القيمة غير المنقوصة. من الواضح، أن نمطاً من الثنائيات الضدية، يحدد لنا ماهو قيمة.
كما إن القيمة تظل معياراً مثالياً ومجرداً تؤبد نفسها فى نسق من الثنائيات الضدية والتناقضات، وهذا النسق حفظته الحداثة ـ أيضاً ـ عبر احترامها العميق للعقلانية وتمثيلاتها فى الآداب والفنون الكتابية على نحو خاص. ففى الحداثة يبرز العقل، داعماً لكل معاني التجريد المتجاوزة للطبيعة الإنسانية، فربما، منذ أفلاطون وحتى نيتشه، يعيش العقل التحليلي في لجة من الثنائيات، من قبيل: الذات والموضوع والآنا والآخر والعقلي والحسي والواقعي والمتخيل والعميق والمسطح، ثم أنها ( الحداثة ) انحازت لتصوراتها المثالية عن الذات والأنا العليا والعقل والواقع والعمق، وجعلت من هذه التصورات معايير قيمة للإبداع الفني والأدبي.
لقد استمدت الحداثة نسقها القيمي من منطق الإثبات في مقابل المحو. ووضعت تصوراً مثالياً لما هو فن، وفرقت بين الفنون العليا الموغلة في القيمة، والفنون الدنيا التى يمارسها العامة.
لكن الحداثة تتعرض لهجمات من التقويض والتفكيك لمركزياتها العريقة في أفق مابعد حداثي، كما أن الكتابة ـ أيضاً ـ تتعرض لتقويض مماثل، أحدثته سيادة الصورة في وسائط التعبير والانتشار التكنولوجي، ومن ثمّ فنحن شهود على لحظة تاريخية حافلة بالتحولات المثيرة تعمل على قدم وساق في مجالات الفنون والآداب الحديثة لتعيد ترتيب ماهو قيمة جمالية.
يطرح ليوتار في (الوضع ما بعد الحداثة) المشكلة برمتها في صيغة مفارقة واضحة بين العلم وما يطلق عليه المعرفة، إذ تظهر المعرفة كنشاط إنساني عام يتجاوز حدود الطاقة العلمية ليظهر في صور أكثر انفلاتاً وفوضى، فهى تشمل مثلاً: كيف تعيش؟ كيف تسمع؟ وكيف تستخدم الأشياء؟ وما هى معايير الفعالية والعدل والسعادة والصوت واللون والألم والرغبة والإشباع ..إلخ
ثم يؤكد على قومية ومحلية المعرفة ونسبيتها. أما العلم فهو يؤسس للنظام والكلية من حيث سعيه إلى فرض نمط واحد للوعي بالعالم، ومن ناحية أخرى فهو يقوم على البرهان، ويفترض البرهان استحالة إثبات الشيء ونقيضه في نفس الوقت، وهكذا فإن معكوس هذه القاعدة العلمية يبدو ممكنا ومتاحاً في المعرفة، كذلك فالعلم يقوم على اللغة الإشارية (المحدِدة للأشياء) وهو مستوى أولى لخطاب لايمكنه احتواء الرمزى والأسطورى والشعبى والمتخيل، في حين يمكن للمعرفة التي تقوم على لغة (تقعيدية) بالإشارة إلى مجموعة القيم والمعايير التي يعجز عن تفسيرها العلم، ذلك لأن المعرفة تقوم على منطق الحكاية ومن ثم فالمعرفة أوسع نطاقاً من العلم.
والحكاية، تنحاز لمنطق مخالف لمنطقيّ: العلم والميتافيزيقا في تحديد ماهو قيمة. ولعل أول ما يمكن إدراكه في منطق الحكاية، هو مانطلق عليه الصدق الفني، وهو يعمل في اتجاه مخالف تماما لمنطق العقل، من حيث اللغة الرمزية، والخيال والأزمنة المتداخلة. وغير ذلك من القيم الجمالية للحكاية. الصدق الفني بهذا المعنى هو نوع من الحدس الذي يجد مرجعيته في وعي القارئ.
إن مخالفات على هذا النحو في معني القيمة، تظهر بوضوح في الفنون الجديدة التي وفرتها وسائط جديدة أيضا. ارتهنت بثورة التكنولوجيا. ونمت في مناخ ما بعد حداثي عمل على تقويض السرديات الكبرى فأمكن لكل إنسان ـ وحتى صغار الشأن من البشر ـ أن يخلقوا لأنفسهم وبأنفسهم سردياتهم الخاصة مهما كانت صغيرة الشأن. ومن ناحية أخرى، فإن الحكاية بوصفها قيمة مكتسبة عبر الخبرة والممارسة على تنوعهما وتعددهما، ستمنح ـ حتى البسطاء والمهمشين ـ من البشر، فرصة خلق أنساقهم القيمية الصغرى.
لقد كان الواقع مرجعية أصيلة لمعنى الصدق الفني، لكن برامج مثل الفوتوشوب والجرافيك والــ 3d max وفرت إمكانات مثيرة لمحاكاة الواقع، وأمكنها في سنوات قليلة، أن تنتقل من الواقع الافتراضي، إلى الواقع المعزز، ثم إلى الميتافيرس. ومن ثم أسهمت في خلق واقع فائق القدرة (Hyper reality ) متجاوزاً للواقع المعيش على نحو يجعله يلهث وراء الفن ويحاكيه، ليبدو كما لو كنا نعيش صورة الواقع لا الواقع نفسه. بما يعني أن الواقعية بوصفها قيمة جمالية للعمل الفنى وجدت نفسها في مأزق. وأن الواقع ـ نفسه ـ ولأول مرة في تاريخ البشر، يمكن تجاوزه، ليس عبر التفكير أو الخيال فقط، بل وعبر الخبرة والممارسة التى يتوفر عليهما مجموعة من التقنيين، لايحترمون الإلهام والتفرد والعمق وغير ذلك من القيم المثمنة للعمل الفني أو للفنان نفسه، بقدر مايحتفون باللعب كطاقة تعكس خبراتهم الحسية وقدراتهم المهارية المكتسبة عبر المران واحترام العمل الجماعي، وتقدير إمكانات الجسد الإنساني. كما أن برامج الجرافيك أسهمت في تفعيل الخيال على نحو مفارق للواقع تماما، ومع ذلك فنحن نتعامل معه. نصدقه بل ونعيشه ونؤمن بوجوده وهو ما نلاحظه بقوة في روايات وأفلام عن تناسخ الأرواح، وتوأم الشعلة، والزومبي والفامباير والكائنات الفضائية التي تتجول بيننا بوصفها أشباحا. فإذا كانت الواقعية السحرية جمعت بين الواقع والخيال، فإن التكنولوجيا وإمكاناتها المتعدية لطبيعة الواقع تعدنا بإزاحة الواقع وربما استبداله بخيال مطلق.
غير أن الصورة تمنح الجسد مكانة مركزية في الثقافة المعاصرة ومن ثم تعكس فنونا جديدة لم تكن فى قائمة تصوراتنا عن الفنون العليا. من ذلك مثلا: عروض الأزياء ومباريات كرة القدم والمصارعة وأغانى الفديو كليب والسينما الوثائقية، وبرامج الطهي والبرامج التي تعني بالصحة الجسدية ووسائل وطرق التجميل والعناية بالجسد ورغباته وممارساته الجنسية وغير ذلك من الزخم البصرى زهيد التكاليف واسع الانتشار الذي يحتفي بالجسد الإنساني ويتخذ منه مادة ثقافية. الأمر الذى يحدث تحولات مثيرة فى ذائقة المتلقى، ويؤسس رصيدا من الخبرات الجمالية المختلفة عن خبرات الكتابة التى قامت عليها فنون الأدب الواقعية. وهذا من شأنه أن يؤسس لذاكرة معرفية مختلفة عن تلك التى تأسس عليها تاريخ الكتابة وقيمها اللغوية التي تتأنق في التعبير وتتخفى وراء البلاغة، فإذا بنا أمام نمط جديد من المعرفة أكثر دقة وأكثر وضوحا وأبلغ تعبيرا عن ذاته بدون وسيط مجازي. ومن ثم يظهر لدينا أجيال جديدة من المبدعين، يؤسسون حكاياتهم الخاصة والصغرى عبر مرجعيات معرفية تعمد إلى الوضوح وكثير من الشفافية وربما المكاشفة الجارحة التي طالما نظرنا إليها بوصفها نوعا من الابتذال الخادش للذائقة الأدبية.
ولاشك أن كل هذا تسرب إلى الفنون التقليدية، فمثلا: فى مجال الفن التشكيلى وفرت التكنولوجيا إمكانات مثيرة للفنان، مثل إمكانات الكولاج والجرافيك، ووسعت من طاقة التجريب في اللون والتشكيل إلى أقصى الحدود، كما وسعت من القدرات التخطيطية الأولى للوحة بما يمكن الفنان من وضع تصور كلى ومسبق عن عملة، ومن ثم تتوارى قيمة الحدس لصالح قيمة أدائية تعنى بالتصميم المسبق للوحة، ولكنها في نفس الوقت تفقد قيمة التفرد الذي طالما منح اللوحة قيمة مضافة.
كما اكتسب النص الكتابي قيماً مضافة بتجاوزه لأفق الكتابة، مع إمكانات (Hypertext) بإضافة تقنيات صوتية وبصرية وحركية للنص الرقمي. بما يعدد فرص التلقي ويزيد من متعتها، وهذا من شأنه أن يفعٍّل حواس المتلقي البصرية والسمعية فتمنح عملية التلقي قيمة مضافة غير تلك التى تنشأ عن التخييل الذاتى والعصف الذهنى الذى يمنحه النص الكتابى.
وقد وفّرت المدونات ـ على شبكات الأنترنت ـ فرصا مثيرة للدمج بين الكتابى والسمعي والبصري فوسعت من إمكانات المبدع والنص. ويمنح هذا قيمة مضافة للمتلقي. تغيرات على هذا النحو تدعونا إلى مراجعة كل نظريات الأدب. فإذا كان النص ـ نفسه ـ لم يعد مجرد تشكيل شفري من الكلمات الاصطلاحية فإن المبدع ـ أيضا ـ لم يعد تصورا ميتافيزيقيا مرجعه الموهبة أو الإلهام فحسب، فالمبدع الجديد عليه أن يستوعب تقنيات وإمكانات الإنتاج التي توفرها التكنولوجيا، وعلية أن يؤمن بقيمة التدريب والمران والإفادة من إمكانات الوسيط الذى يصله بالمتلقي، بما ينتهي إلى نقلة نوعية في طبيعة الخطاب الجمالي من حيث الاتصال والتواصل مع القارئ. وفي المقابل يتعين على القارئ أن يكون على نفس المهارة التقنية بما يمكنه من تعميق درجات الاتصال سواء بالمنتَج (النص) أو بالمنتِج (المبدع) إنه نوع من الاتصال التفاعلي لا يوفره الكتاب المقروء. وحيث الجهد الذي يبذله القارئ لا يقل قيمة عن الجهد الذي يبذله المبدع.
السيئ في الأمر أن هذه التحولات وضعت المنتج الأدبي والفني في نمط استهلاكي كأي سلعة قابلة للتداول وإعادة الإنتاج بل والاستنساخ بما يفقد العمل الفني قيمة التفرد. وربما يقوض سلطة المبدع نفسه. فعندما يكون المستهلك على نفس المستوى المهاري للمبدع ويستخدم نفس أدواته في التعاطي مع المنتَج فإن كثيرا من أسرار النص تصبح بين يديه. وتصبح فروق التميز موكولة إلى المهارة التقنية لا إلى الإلهام الخالص الذي كان يضع الإبداع موضع الكهانة.
وفي هذا السياق تهتز قيمة الفردية، فالمبدع الجديد يدرك أن منتجه يمر عبر وسائط متعددة، وأن هذه الوسائط ـ نفسها ـ أَنتجت عبر شراكات من آخرين، وأن فريقا من التقنيين يعملون وراء الكواليس ليصل منتجه إلى الصورة الجمالية التى يرغبها. حتي يكاد دوره يتقلص في مهارات الاستخدام التقني، وهذا الشعور، يقلل من اعتداد المبدع بذاته المفردة، ويدفعه إلى احترام قيمة العمل الجماعي للمُنتج الفني علي نحو ما يحدث فى إنتاج الفيلم السينمائي، لهذا نجده يقبل المشاركة الصريحة ـ من آخرين ـ فى منتجه.
ويمثل النص التشعبي أحد صور التواصل والتشارك فى إنتاج العمل الفنى على شبكات الأنترنت، فيمكن للمبدع أن يفعّل بعض مفردات نصه المكتوب عبر تقنية الارتباط التشعبي، وسنورد هنا مثالا لذلك، فى هذا النص المقتبس من رواية (كراكيب) للروائية نهى محمود: " كنت أسير على كوبرى قصر النيل مثقلة خطواتى بكيان آخرـ دماء جنين حب فى أيامه الأولى ـ عندما عدت إلى حجرتى كنت أبكى .."
إن تفعيلا تشعبيا لـ (كوبرى قصر النيل) الذي يمثل في الواقع المصري مسرحا للعشاق يمكننا ـ بضغطة واحدة بالماوس ـ من الدخول على فضاء بصري واسع، لنرى ثنائيات العشاق تتوزع على جانبي الكوبري. وفي وقت تمرق السيارات بصخبها بين الجانبين، لا يأبه العشاق بها. بل يحدقون في مياه النيل المنسابة على مهل تحت أقدامهم. هكذا يمكن للصورة المتحركة أن تجسد مفارقة بين زمنين مختلفين، زمن العشاق الداخلي، الناعم المتمهل، وآخر هو زمن الواقع الخارجي العنيف الصاخب.
غير أننا لا نصل إلى هذه الدلالة، إلا عبر جهد تقني، وعبر وسيط آخر يعيش خارج النص المكتوب. إن النص المكتوب سوف يتوقف عند الدور الإشاري تاركا الدلالة في ذهن القارئ كنص مرجأ، وغالبا فإن القارئ الذي لا يعرف شيئا عن كوبري قصر النيل، سيغفل عن هذه الدلالة تماما. أما في حالة النص ألسينمائي مثلا فإن الدلالة سوف تحضر كنص مصاحب.
صحيح أن النص الرقمي التشعبي متعدد الأبعاد، محايد ومسالم، لا يطلب من القارئ جهدا ذهنيا لإنتاج دلالة بعيدة على هذا النحو، بل يدخرها له عندما يفكر أن يعرف ما هو كوبري قصر النيل. إن كل شيء حاضر وموجود على سطح المكتب (Desktop) بخلاف النص المكتوب الذي يفرض على القارئ املاءات فكرية مضمرة أو خفية في ثناياه. وليس معنى هذا أن النص الرقمي بلا عمق، أو مسطح الدلالة ومباشر. لأن تعددية الروابط تخلق حالة كبرى من التفاعل بين العلامات المختلفة، ليكون المنتج أكبر وأكثر تعقيدا مما نتصور وفقا لمقولة (الجشطالت) الشهيرة :إن الكل أكبر من مجموع أجزائه.
كما أن الطبيعة التفاعلية في معناها البسيط، تجسد معنى أكثر دقة للتواصل، حيث يمكن لعدد من المبدعين، وفي أماكن مختلفة من العالم، وربما فى ثقافات ولغات مختلفة، أن يشتركوا فى إنتاج نص واحد فى نفس الوقت. ويمكن تمثيل هذا بالنظر إلى صفحة من مدونة تحتوى نصا وتعقيبات عليه وكل هذا محاط بنسق من الصور والأيقونات والمصطلحات والإعلانات والتصميمات. ومن ثم فإن النص الأصلي لا يبقي في عزلة كما لو كان في كتاب ورقي، بل هو نفسه محاط بنصوص أخرى شارحة أو مفسرة أو معينة على فهمه في سياقه الكلي. وبهذا يتعرض النص الواحد لعمليات عديدة من إعادة العرض في سياقات أخري منها عمليات النقل والنسخ والاجتزاء أو الاقتباس بما يدعونا لمراجعة مفاهيم قديمة من قبيل السرقات الأدبية والمعارضة وأخرى معاصرة من قبيل التناص. ويمكن لكل معالجة جديدة أن تعطى قراءة مختلفة للموضوع الواحد. ومن ثم تتعدد وتتسع حدود النص. ليصبح الأمر هكذا: كل تفاعل جديد هو بشارة بميلاد نص جديد. فلا يمكننا غض البصر عن ظاهرة أصبحت شائعة نرى فيها روايات تتشابه في موضوعاتها وعناوينها من قبيل: الرواية التاريخية، وروايات الخيال العلمي، وروايات الرعب.. ففي الرواية التاريخية مثلا نرى:(الموريسكي، المورسكيون، سر الموريسكي، الموريسكي الأخير، المورسكية..) وليس ثمة ما يفسر مثل تلك الظواهر، سوى أن شبكة الإنترنت وفرت قدرا من الشيوع لموضوعات تحظي بإقبال وتداول لم يكن متاحا من قبل. فضلا عن توفر معلومات ومعارف يمكن توظيفها وإعادة إنتاجها فنيا. بما يؤكد تراجع االفردية الذاتية للمبدع.
كما تسهم برامج الترجمة فى تجاوز معوقات اللغة. وفي المقابل، فإن التدول الواسع للمعرفة وتوحد نمطها بفعل الفضائيات والأنترنت، يمكننا من تجاوز الخصوصيات الثقافية، ونتيجة لهذا، فإن النص المكتوب لم يعد رهنا باللغة، بل ولم تعد اللغة ـ فى حد ذاتها ـ رهانا أوليا لجماليات النص، كما لم تعد الخصوصية الثقافية حكراً على بيئة ما. حيث يتحرك النص التفاعلي فى اتجاه تداولي واسع يؤكد قيمة الانتشار (الترند) والتواصل وإن ظل تواصلاً افتراضياً، حيث لم يعد الواقع المعيش مرجعية وحيدة للروائي مثلاً، لقد أصبح الواقع ـ بوصفه مرجعية للمبدع ـ مفهوما قابلا للتغير في كل لحظة. بعد أن خلقت التكنولوجيا واقعاً افتراضياً منافساً للواقع المعيش. فأسس ذلك لذاكرة بشرية جديدة لاتعتمد كلية على خبرة المعايشة الواقعية التي أصبحت مهددة بالإزاحة.
غير أن هذا التواصل، لاينشأ بين الأفراد فحسب، بل ينشأ بين الفنون المختلفة أيضا، فحتي وقت قريب، كان الاتصال يتحرك فى اتجاه واحد من النص المكتوب إلى النص المصور، فكثير من أفلام السينما اعتمدت على روايات وقصص مكتوبة لم تكن موجهة بالأساس إلى السينما، لكننا نلاحظ ـ فى الآونة الأخيرة ـ نصوصاً كتابية تؤسس قيمها الجمالية والموضوعية على نصوص بصرية أصلا، فلدينا العديد من الروايات التى لاتكتفي بالإفادة من تقنيات السينما فحسب، بل تعتمد اعتماداً كبيراً وصريحاً على أفلام سينمائية شهيرة وربما تحاكيها أو تقتبس منها فكرتها الرئيسة، على نحو ما نجد في رواية ( قارئة القطار للروائي إبراهيم فرغلي، التي تذكرنا برواية قطار ليل لشبونة لـ (باسكال مرسييه) بالرغم من جدة المعالجة الفنية لها.
علي أيه حال، مازالت التكنولوجيا فى أول الطريق، بما يدعونا إلى توقع تحولات مثيرة مستقبلا تغير كثيرا من مفاهيم الإبداع الأدبي بل ومن القيم الجمالية له، فبوسع برنامج جديد، أن يحدث ثورة جديدة فى طرائق التعبير الإنساني، بما يمكن كل إنسان، أن يخلق لنفسه وبنفسه واقعه الفني والجمالي.
وجدير بالذكر أن التمرد على الواقعية برافديها النقدي والاشتراكي له مقدماته عند الشكلانيين الروس (جمعية دراسة اللغة الشعرية -2014م) احتجاجا على سلطة الأيديولوجيا التي أفضت إلى نوع من جفاف المتخيل البلاغي وتراجع التشكيل الشعري والجمالي نتيجة لمبدأ الالتزام بقضايا كلية مؤدلجة. فأضحت الرسالة أو وجهة النظر مقصدا رئيسا للسرد دونما التفات إلى طبيعة البناء الفني وفقا لمقولة (جاكبسون) "أن موضوع علم الأدب ليس الأدب بل الأدبية" ويقصد بها طرائق التعبير والتشكيل الفني لموضوع العمل وليس موضوع العمل ذاته. ولقد جاءت الواقعية السحرية حلا بمثابة مصالحة تجمع بين الواقع والخيال. وقد شهدت ثمانينيات القرن العشرين في مصر قناعة لدي كتاب هذه المرحلة بقيمة الخيال في مجال السرد الروائي وصفت بالواقعية الجديدة.
يشير مجدى توفيق في كتابه (الذاكرة الجديدة) إلى اتجاهين في نمط الواقعية الجديدة للرواية فى مصر: يعتبر الاتجاه الأول امتداداً لمعنى الواقعية المستند إلى الخبرة المعيشة، وإن كان يتمثل الواقع ليسخر منه ويقوضه ويكشف تناقضاته، ليجسد نوعاً من المحاكاة الساخرة (باروديا) وهو ملمح يمتثل لخطاب ما بعد حداثي ويتسم بطابع تفكيكي.
والاتجاه الثاني يستند إلى الخبرة المكتسبة من الواقع الافتراضي، حيث ينطلق ـ أساسا ـ من المتخيل والمجازى، ليخلق النص واقعه الخاص بمعزل عن تأثيرات الواقع المعيش، وحيث تظهر هذه التأثيرات كقنوات للتعذية المرتجعة، تحيل إلى متخيل آخر ثبّت نفسه فى الواقع القرائي أو البصري أوالمعرفي، الذي نجده في الصور وأفلام السينما والكتابات الأدبية واللعب والحكايات الشعبية والأساطير.
إنه نمط من الكتابة متجاوز لتصورات جوليا كريستيفا عن التناص، ليصل إلى نوع من إعادة الإنتاج أو التدوير على نحو مايستطيع برنامج الفوتوشوب أن يعيد تشكيل لوحة ما. نحن هنا لا نتكلم عن تغير في مفهوم الواقعية فحسب بل نشير ـ أيضا ـ إلى تغير في مفاهيم أخرى مثل: الأصالة والتفرد والخصوصية والأسلوبية. فبوسعنا أن نغض الطرف عن كل هذا عندما يعيد جارثيا ماركيز إنتاج رواية (الجميلات النائمات) لكاوباتا في رواية (غانياتى الحزينات) أو عندما يصدّر روائى شاب (أحمد ناجى) روايته الأولى (روجرز 2008) باعتراف شجاع أنها مبنية على مجموعة من الاستعارات يعيد إنتاجها عبر رؤية تفكيكية للواقع. فالرواية ذات نزوع تمردي بحيث لا ترفض محاكاة الواقع فحسب، بل تتجاهله تماماً. وتحاكي واقعاً افتراضياً. إنه ليس تمرداً على طريقة الكبار، أى من ذلك النوع العليم ببواطن الأمور الذي يمتلك اليقين العلمي ليطرح على الواقع أسئلته ومقترحاته، أو يبشر بيوتوبيا مستحيلة بل هو تمرد محمول عبر اللعب والخيال يجسد طاقات الغضب والعنف والخوف التي تثور في صدور الأجيال الشابة تجاه الواقع وصوره المشوهة، فليجأون إلى واقع متخيل وافتراضي يخصهم وحدهم، يشكلونه بأنفسهم على شبكات الإنترنت وشاشات الفضائيات بعيداً عن عيون الكبار المدججين بأسلحة السلطة والعلم والحكمة.
إنها رواية تتخذ اللعب والخيال وسيلة للتعبير عن رفض الأجيال الجديدة لمفهوم الواقع الذي طالما عاشت عليه رواية الحداثة. يقابلونه بواقع افتراضي متناسب مع حياتهم المترعة بالفوضى وذواتهم المكتنزة بتنقاضات لا حدود لها. تبشر أو تحلم بالخلاص من الحيتان وترحب بميلاد جديد لصغارها على نحو ما نرى في الشاهد التالي ولغته الإيحائية المميزة: "في هذه المرحلة.. بينما كان يجلس عن يميني (روجرز ووتر) يتحدث بصوت مزعج يشبه الصراخ عن العالم القبيح والشرور التي ملأت البشر. شارحا فلسفته في الحياة ورؤيته لاتجاه طريق السعادة. كان قد آن الأوان لخروج الحيتان إلى المحيط. حيث تفتح الأبواب التي تفصل مياه الحوض عن مياه المحيط ليتداخل الاثنان ويحدث تيار مائي لطيف يسحب الصغار خارج الحوض نحو... " [1]
ويبدو أن حركة الرواية الجديدة آخذة في مفارقة الواقع على نحو جاد، من حيث التأكيد على معانقة الخيال وتكثيف روح اللعب، فالروائى الجديد لايحاكى الواقع ولا يستغرق في محاولة فهمه بقدر ما يفارقه ليخلق عالمه الخاص من مادة الخيال ويعيد ترتيبه باللعب وكأن الواقع لعبة (بازل ) لها قابلية التشكيل، أو مجموعة من الرسوم والصور (كارتون ـ جرافيك) يمكن تحريكها بحرية خالصة من قوانين الواقع، لقد ظهرت هذه السمات أكثر نضجاً وتكاملا لدى كاتب شاب (طارق إمام ) قدم لنا رواية بعنوان: "شريعة القطة ـ 2004 "[2] حيث جعل من القطط والطيور وحيوانات الغابة أبطالاً لروايته، لا ليتخذ منها أمثولات داعمة للقيم التي أنتجها البشر على غرار(كليلة ودمنة) بل ليفضح تشوهات وتناقضات هذه القيم المدججة بالحكمة والعقل والتشريعات القانونية والدينية.
ويبدو أن هذا الاتجاه أصبح يمثل ظاهرة مقترنة بالأدباء الشبان خلال تسعينيات القرن الماضي. ويمكن الإشارة إلى عدد كبير منهم أمثال: محمد عبد النبي، ونهى محمود، محمد الفخرانى، الطاهر شرقاوي، نائل الطوخي، أحمد شوقي، ومازن العقاد، وأحمد عبد اللطيف... وكلهم من الروائيين الذين بدأوا تجاربهم الأولى، متزامنة مع عصر الصورة المتشظي على الفضائيات وشبكات الأنترنت في أوائل الألفية الثالثة.
وهكذا فعندما يخرج هؤلاء الأدباء الشبان من سطوة الأنساق الكلية وسردياتها الكبرى، ويتمكنوا من اختبار الواقع عبر حكاياتهم الصغري، فإنهم يخلقون ـ في نفس ـ الوقت قيمهم الخاصة، سواء كانت هذه القيم جمالية تختص بطرائق التعبير الفنى أو كانت قيماً اجتماعية تخص الواقع المعيش. لكنها ـ في النهاية ـ تعكس لنا تحولات ـ ليس فقط ـ في القيم الفنية والأدبية ـ بل تجبرنا على إعادة النظر فى أسئلة كبرى، طالما أرقنا كثيراً من مداد في محاولات الإجابة عليها، مثل: ما الفن؟ ما الأدب، ماهى وظيفة الفنون والآداب، وما معيار القيمة فيها؟.
- أحمد ناجي: روجرز – رواية – دار ملامح للنشر والتوزيع – القاهرة- 2007م[1]
2- طارق إمام: شريعة القطة، دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، الأردن، عمان، 2021م