إن اختلاف الزمن وتبدل الأفكار، جديران بخلق مناوشات بين الأجيال، مناوشات وليس صراعًا، ونقاشًا وليس حربًا، والشائع أن نرى جدالًا محتدمًا بين أبٍ وابنه، لكن نادرًا ما نسمع عن علاقة بين الطرفين يغمرها البغض، أو ترتكز على أساس متين من الحقد!
فرانز كافكا (١٨٨٣ - ١٩٢٤) كاتب عبقري، من أسرة ألمانية يهودية، بدأت فقيرة، ثم صار لوالده متجر ضخم، يعمل فيه الوالدان لأكثر من اثنتيّ عشرة ساعة أو أكثر، ولم يكن الأب كما قال "فرانز كافكا" يعرف من اليهودية غير القشور، ولا يذهب إلى الكنس اليهودي سوى في المناسبات اليهودية الكبرى، أربع مرات في العام، وما عدا ذلك فإن الأسرة لا شأن لها باليهودية مطلقًا!
بجانب اللغة الألمانية، كان "فرانز كافكا" قادرًا على التحدث والكتابة باللغة التشيكية، التحق عام ١٨٩٣ بمدرسة ثانوية أكاديمية، وبعد ثماني سنوات تخرج ثم التحق بجامعة "شارلز فيردناند" الألمانية في براج عام ١٩٠١، حيث درس الكيمياء، وبعد أسبوعين تحول إلى دراسة القانون، ثم أتم تعليمه الجامعي، ونال درجة الدكتوراه في القانون عام ١٩٠٦.
ولولا الحزن الذي افترس هذا الكاتب الفذ، ولولا الاكتئاب الذي رافقه في وحدته، ما إستطاع أن يخرج على الورق كل هذه العبقرية، وإن كان العالم قد خسر الكثير منها، عندما قرر "كافكا" حرق كتاباته، فلم يبق منها سوى القليل الذي انفلت من بين اكتئابه وألمه، فأمر صديقه "ماكس برود" بأن ينفذ وصيته بحرق ما تبقى من مؤلفاته، وكان يومئذ مريضًا بالسل، الذي أكل جسده الهزيل، لكن صديقه الوفي لم يكن وفيًا له بالقدر اللازم، بل وفيًا للقارئ فلم ينفذ وصيته!
كتب كافكا الرواية، والقصة القصيرة والرسائل والمقالات، ورغم أنه لم ينه أيًا من رواياته التي أحرقها أصلًا كما أخبرنا صديقة ماكس، إلا أنه ترك لنا رواية المسخ، والقلعة، والمحاكمة، والمفقود، وأمريكا، وله ثلاث مجموعات قصصية هي "نأمل" و"طبيب ريفي" و"فنان جوع". ولست هنا في صدد مناقشات أو قراءات لما كتبه كافكا سواء الروايات أو المجموعات القصصية، ولكن لكي أغوص بكل عقلي داخل أعظم أثر تركه هذا الكاتب الفذ من وجهة نظري كقارئ وهو "رسالة إلى الوالد"، التي نشرها في حياته عام ١٩٢١، ولو أنه لم يترك سواها لكفته!
هذه الرسالة لابد لنا أن ننظر إليها كعمل أدبي، وفلسفي وتربوي، وقد استعمل كافكا لغة أدبية ملهمة، طعمها بقدر هائل من الصراحة ولهذا يقول عنها: " إن موضوعها يدور حول الاستقلالية، الثقة، تنفس الصعداء، الأمان، الإنقاذ، التهدئة، بل والحقيقة"، وذلك على العكس من رواياته التي كان يكتنفها الغموض، فلا يستطيع القارئ أن يلملم خيوطها بيسر، ولا أن يدرك ما يريده "فرانز كافكا" إلا بعد تخيلات وافتراضات وفك طلاسم الرموز التي كان شديد التمسك بها بلا لين أو تيسير!
"فرانز كافكا" بجانب الوحدة والاكتئاب، كان يعاني الخوف والضعف والشعور بالذنب، وعدم الثقة بالنفس، ومصابًا بانحناء واضح في العمود الفقري، ونحافة شديدة وهزال وتساقط في الشعر! كل هذه التركيبة المعقدة -التي جمعت بين الاعتلال النفسي والجسماني- كان سببها فساد التربية، وعلاقة شاذة جمعت بين نقيضين كان من المؤكد أنهما "إلفين" أو بصورة أوضح شجرة وفرعها، فكيف تبرأ الفرع من الشجرة، وكيف لفظ الغصن زهرته؟
المثير في هذه الرسالة، ليس كل هذا البوح الصادق والكاشف الذي أبداه فرانز كافكا تجاه والده، وإنما الصادم والمخيف، أن كل ما عاناه الابن من أبيه إنما هو صورة مكرره لما يفعله الآباء مع الأبناء الآن وفي كل وقت، والكارثة أن الأبناء بكل تأكيد يعانون كما كان "كافكا" يعاني، لكن الملايين منهم لا يملك جرأته على البوح، أو يملكها لكنه لا يقدر على التعبير عنها والمواجهة!
إن الأب هو القدوة؛ والابن يقلده دون قصد، وينظر إليه على أنه كائن عملاق، جبار، قادر على فعل كل شيء، وأنه الملاذ ومصدر الرعاية والأمان. تلك النظرة كانت طاغية وأكثر حدة عند فرانز تجاه والده، وحين ذابت الأنا والأنا العليا لفرانز في المثل والقدوة وهو الأب، بدأ الإحساس بالدونية والضآلة. فقد كان الابن مفتونًا بأبيه إلى حد الإنكسار، ليس لأنه مستعد لهذا الإنكسار ومرحبًا به، وإنما نتيجة لتعامل الأب ورغبته المَرَضية في إلغاء شخصية ابنه، يقول "فرانز كافكا" في رسالته لوالده: " كان كاهلي مثقلًا تحت قوة جسدك، وأذكر على سبيل المثال كيف كنا في الغالب ننزع ملابسنا سوية في غرفة تغيير الملابس في المسبح، وكنت أنا هزيل، ضعيف، نحيل. وأنت قوي، كبير، عريض! كنت أبدو لنفسي في حالة يرثى لها، ليس أمام عينيك فحسب، وإنما أمام أعين العالم أجمع! ولكن عندما كنا نخرج من الغرفة، وأنا متعلق بيدك كهيكل عظمي صغير، أسير مرتبكًا بقدمين عاريتين، متخوف من الماء، عاجز عن تقليد حركاتك في السباحة، هذه الحركات التي كنت دائمًا تعرضها عليّ عن حسن نية، لكنها في الواقع كانت تخجلني أشد الخجل، فكنت أشعر باليأس!" ويقول: " قارن الآن بيننا، أنا إن عبرت عن نفسي باختصار شديد، ابن محدد من آل لووي (عائلة الأم) مع مكونٍ كفكاوي (عائلة الأب) إلى حد ما، لكن ابن لا تحركه إرادة حياة وأعمال وفتوحات كفكاوية، وإنما تحركه شوكة لووية تهمل بإتجاه آخر بخفاء وبحياء أكثر، وغالبًا ما يخفق هذا العمل تمامًا. أما أنت فإنك في الاتجاه الآخر كافكيًا أصيلًا، تتميز بالقوة، والصحة، والشهية، وقوة الصوت، والبلاغة، والرضا عن النفس، والخبرة بالناس، والمثابرة، وحضور البديهة، والفراسة، وشيء من السخاء، وطبعًا مع كل ما يتبع هذه المزايا من ضعف وأخطاء تدفعك إليها خليقتك وأحيانًا حِدَّتك، وعلى أي حال، كان كل منا يختلف عن الآخر، وفي هذا التباين كان كلٌ منا يشكل تهديدًا للآخر، حتى إذا حاول المرء أن يقدر سلفًا، مثلي، كيف سيتصرف الطفل المتكوّن ببطء، وأنت الرجل الكامل النمو، مع بعضهما بعضًا؟ كان من شأنه أن يفترض "أنك سوف تسحقني تحت قدمك سحقًا، حتى لا يبقى مني شيء!"... لقد كنت طفلًا عندما كنت شديد الخوف، ورغم ذلك، فقد كنت بالتأكيد عنيدًا مثلما يكون الأطفال، وكنت واثقًا بأن والدتي كانت تدللني أيضًا، لكني لا أستطيع أن أعتقد أنني كنت صعب الترويض، ولا أستطيع أن أزعم أنك لا تقدر أن تطلب مني كل ما يريده الأب بكلمة لطيفة، وبلمسة يد، أو بنظرة ودودة. إنك لم تتركني أنال أي شيء كنت أريده!".
لقد ردد الأب على مسامع ابنه -كما يفعل الآباء- كيف كافح وصمد أمام الاحتياج والعوز في سبيل أن يهيء له ولإخوته الحياة الكريمة، ويذكر عناءه ويجسد حجم تضحياته التي مازال يقدمها، لكن هذا الطفل الشديد الخجل والسريع التأثر، والفَزِع دائمًا يجادل والده بذكاء: "لكن على الأرجح أن وضعنا هو بالأحرى معادل لوضعك، غير أن حظنا العاثر يكمن في أننا لا نستطيع أن نتباهى بعوزنا، ولا أن نذل أحدًا به، كما فعلت أنت بعوزك معنا، كما أنني لا أنكر أنه كان من الممكن أن يكون من شأني التمتع بشكل صحيح حقًا بثمار عملك العظيم الناجح، لكن غربتنا عن بعضنا اعترضت سبيل ذلك، لقد استطعت أن أتمتع بما تعطيه، لكنني لم أفعل ذلك إلا وأنا أشعر بالخجل والتعب والضعف والذنب، لذا لم أستطع أن أكون شاكرًا لك كل شيء إلا مثلما يكون المتسول شاكرًا!".
طفل شديد الذكاء، قوي الحجة، متمرد، قادر على البوح وإصابة قلب خصمة بكلمات قاضية والخصم هنا هو الأب! فهو لا يترك قولًا أو فعلًا بدر من والده إلا وتناوله بالتحليل، وأثبت تأثره به، بل وجعلَه معول هدم أطاح بشخصيته، وأتى عليها من الأساس، يقول: "ولا أذكر بشكل مباشر إلا حادثة عارضة من السنوات الأولى وربما تذكرها أنت أيضًا، كنت أبكي ذات مرة في الليل، وقد توسلت من أجل جرعة ماء، ليس عطشًا بالتأكيد، وإنما على الأرجح كي أثير إزعاجًا من ناحية، وأتلهى من ناحية أخرى، وإذ أخفقت عدة تهديدات شديدة، أخذتني من السرير، وصرخت بوجهي وحملتني إلى الشرفة، وأنا أرتدي قميص النوم الداخلي، وتركتني هناك وحيدًا أمام الباب المغلق فترة قصيرة، لا أريد أن أقول أن هذا كان خطأ- فربما لم يكن حقيقة وبالإمكان فعل غير ذلك حتى يسود الهدوء في الليل بطريقة أو بأخرى- لكنني أريد بهذا أن أحدد خصائص أساليب تربيتك وتأثيرها عليّ. ولقد أصبحت بعد ذلك مطيعًا، لكنني أصبت بأذى داخلي، وطبقًا لطبيعتي لم أستطع الربط بين توسلي البديهي للحصول على الماء وبين حملي إلى الخارج بتلك الطريقة المرعبة للغاية، وحتى بعد سنوات ما زلت أعاني من التخيل المؤلم، بأنه يمكن لرجل عملاق -والدي الذي هو السلطة العليا- أن يأتي بلا سبب تقريبًا، ويحملني من فراشي، ويضعني على الشرفة، وأن أكون إذن مثل هذا اللاشيء المقلق له".. "لقد كنت دائمًا على حق! وكان النقاش بيننا صعبًا، فقد كنت أقف أمامك تحت ضغط شخصيتك القاسية، وكانت جميع أفكاري المستقلة عنك بوضوح مثقلة منذ البداية بحكمك المستبد، واحتمال تنفيذ فكرتي بشكل كامل ومستمر كان عملًا مستحيلًا، وأنا لا أتحدث هنا عن أي أفكار عظيمة، وإنما عن كل مشروع بسيط وقت الطفولة، وعندما كنت أفرح بأمر ما يملك عليّ نفسي، فأحضر إلى البيت وأتحدث عنه، يكون جوابك تنهيدة ساخرة، أو هزة رأس، أو نقرة بالإصبع على الطاولة، وقولك بازدراء تعبيرات مثل: "شاهدت أيضا شيئًا أجمل"، "ليت لي مثل همومك"، "ليس رأسي هادئًا هكذا"، "اشتر به شيئًا لنفسك"، "وهذا حدثٌ أيضًا!".. وطبعًا لم يكن بالإمكان أن أطلب منك تحفيزًا لكل صغيرة وأنت تعيش في هَمٍ وعناءٍ، لقد كان لابد لك دائمًا أن تجلب للطفل مثل هذه الخيبات، بحكم طبيعتك المختلفة، وكان هذا ينطبق على الناس كما ينطبق على الكلمات، كان يكفي أن أبدي بعض الاهتمام بشخص ما -كان ذلك نادرًا نظرًا لطبيعتي، حتى تتدخل بشدة، دون مراعاة لطبيعتي، ودون احترام لحكمي- فتكيل الشتائم والافتراءات والإهانات، وكان على هؤلاء الناس الأبرياء أن يكفروا عن هذا الاقتراح، كالممثل "اليديشي لوفي" والذي دون أن تعرفه وصفته بالحشرة، وقد تكون نسيت وصفك هذا! وبالنسبة للناس الذين كنت أودّهم كنت تبادر بوصفك لهم بالكلاب والبراغيث، وهنا أتذكر الممثل بشكل خاص لأنني دونت لنفسي أقوالك عنه بالملاحظة التالية: "هكذا يتحدث أبي عن صديقي -الذي لا يعرفه أبدًا- ببساطة لا لسبب إلا لأنه صديقي. وسوف أواجهه بهذا دائمًا عندما يتهمني بنقصان حب الأبناء للآباء، ونقصان العرفان بالجميل.. لقد غرست في نفسي سوء الظن وعدم الثقة بمعظم الناس! أنا لم أستطع أبدا أن أتفهم انعدام إحساسك تمامًا إزاء ما كنت تسببه لي بكلماتك وأحكامك من ألم وعار. هكذا كانت تنشئتك كلها، وأظن أنك تملك موهبة في التربية، ولا شك أنه كان باستطاعتك أن تفيد إنسانًا من صنفك بتربيتك له، كان من شأنه أن يدرك رجاحة ما تقوله له، ولا يهتم بشيء آخر، وينفذ بكل هدوء ما يطلب منه، لكن بالنسبة لي كطفل، فقد كان كل ما كنت تصرخ به "وصية لي نزلت من السماء" وأنا لم أنس هذه الوصية يومًا، بل ظلت أهم وسيلة لي في حكمي على العالم، وقبل كل شيء في حكمي عليك. وإذا كنت في طفولتي ألتقي بك أكثر ما ألتقي معك على مائدة الطعام، فإن دروسك كانت في معظمها في آداب المائدة، وما كان يوضع على المائدة يجب أن يؤكل، ولا يجوز الحديث عن جودة الطعام -لكنك أنت كنت غالبًا ما تجد الطعام غير صالح للأكل، وتطلق عليه العلف، وتقول أن البقرة الطباخة أفسدته، ولأنك
-تبعًا لجوعك الشديد وولعك الخاص- كنت تأكل كل شيء، ساخنًا وبسرعة وبلقمات كبيرة وكان على الطفل أن يسرع ويتلقى التحذيرات بلا انقطاع: "كل أولًا ثم تحدث، أو بسرعة.. بسرعة.. بسرعة، أو انظر لقد أتيت على طعامي منذ فترة طويلة".. تقول: "العظام لا يجوز لأحد أن يمتصَّها" أما أنت فلك هذا! الخل لا يجوز لأحد أن يرتشفه، أما أنت فتستطيع! كان المهم تقطيع الخبز بشكل مستوٍ، وكنت أنت تقطعه بسكين تبلّله بالصلصة! فهذا كان سيان! وكان علينا أن نحترس من عدم سقوط بقايا طعام على الأرض، لكن تحتك كانت معظم البقايا! على المائدة لا يجوز الانشغال بغير الطعام، لكن أنت كنت تنظف وتقص أظافرك، وتبري الأقلام الرصاص، وتنظف أذنيك بنكاشة الأسنان! أرجوك، أيها الوالد، افهمني بشكل صحيح، كان من شأن هذه الأمور أن تكون تافهة، لا أهمية لها، لكنها لم تثقل على نفسي إلا لكونك أنت، وأنت الرجل القدوة لي. لم تكن نفسك لتحافظ على الوصايا التي فرضتها عليّ!".
هل من الآباء أحد يستطيع تحمل مثل هذه الرسالة من ابن له؟ إن الابن يرصد كل تصرفات والده، ويسجل همساته ولمساته ونظراته ونبرات صوته التي صارت هاجسًا يؤلمه في يقظته ويفزعه في منامه! بل إن الابن صار غير قادر على الاستقلال بذاته، ويفكر في الزواج لكنه لا يجرؤ على أن يخطو أكثر من خطوة واحدة تجاه الزواج ثم ما يلبث أن يتراجع، يقول كافكا: "أصبحت محاولات الزواج أعظم محاولة للنجاة منك، وأحفلها بالأمل، لكن أيضًا كان الإخفاق عظيمًا بشكل مماثل! ولأني أخفقت في كل شيء، فإنني أحاول أن لا أخفق في توصيل محاولات الزواج هذه إليك، ومع ذلك فإن نجاح الرسالة كلها يتعلق بهذا الأمر، إذ أن في هذه المحاولات كان قد تجمع كل ما كان لدي من طاقات إيجابية، ومن ناحية أخرى تجمعت أيضًا وبغضب حقًا كل الطاقات السلبية التي وصفتها كنتيجة من نتائج تربيتك، وهي الضعف والشعور بالذنب، ونقصان الثقة بالنفس، وأقامت بكل معنى الكلمة حاجزًا بيني وبين الزواج. إن الزواج وتأسيس أسرة وقبول جميع الأولاد الذين يريدون أن يأتوا والمحافظة عليهم في هذا العالم غير الآمن وقيادتهم بعض الشيء هو حسب قناعتي أقصى ما يمكن لإنسان عليه أن ينجح فيه تمامًا".
إن كافكا فشل في الزواج رغم وجود رغبة ملحة تدفعه إليه، وما كان فشله إلا إحساسه بالدونية، وأنه ليس ندًا لوالده، وليس قادرًا مثل أبيه على تكوين أسرة، بل إن أبواب الزواج مؤصدة دائمًا، لكونه يرى أن الزواج مجال أبيه الخاص، يقول هذا الطفل الجبار: "أحيانًا أتصور خريطة العالم مفتوحة وأنت ممدد فوقها بالعرض، ومن ثم يبدو لي أنه بالنسبة لحياتي لا يدخل في الحسبان سوى المناطق التي لا تغطيها أو التي لا تقع ضمن نطاقك. وطبقًا لتصوري عن حجمك، ليست هذه المناطق كثيرة، ولا تمنح السلوى كثيرًا، والزواج بصفة خاصة ليس من هذه المناطق.. إنه من أجل تحقيق هدف الزواج، لا بد من محو كل ما حدث من صفحة الوجود، وهذا يعني شطب أنفسنا.. إن أهم عائق للزواج هو الاقتناع الثابت، الذي لا يُزال أبدًا، بأن حفظ الأسرة أو حتى القيام بشؤونها إنما يتطلب بالضرورة كل ما عرفته عنك، أي كل شيء معًا، الخير والشر كما اجتمع الحال عضويًا فيك، ومثل القوة والسخرية من الآخرين، الصحة وقدر من الشطط، موهبة في الحديث وقصور الثقة بالنفس، وعدم الرضا عن كل إنسان آخر، السيادة والطغيان، الفراسة وسوء الظن بالناس، ثم فضائل أيضًا دون مثالب، مثل الجد والمثابرة وسرعة البديهة والجسارة، ومن كل هذا لم أكن أملك شيئًا تقريبًا بالقياس إليك، أو لم أكن أملك إلا القليل القليل، وبهذا القليل أردت أن أجرؤ على الزواج، في حين كنت أرى أنك حتى أنت كان عليك أن تكافح في الحياة الزوجية كفاحًا مريرًا، وحتى أنت فشلت مع الأولاد!".
إن رسالة "فرانز كافكا" سياط من نار لا يستطيع أب في الوجود أن يتحملها، ومهما بلغ من تعاسة فلا يتخيل أن يتسلم من فلذة كبده رسالة مثل هذه الرسالة، لكن بعض الأبناء قد يجدوا شيئًا من القدرة على البوح، وبعض من القوة على نزع الفتيل وإلقاء القنبلة في وجه من كان سببًا في فساد حياتهم وجعلهم مسخًا مشوهًا لا يقدر على شيء دون رحمة ودون تردد.
لقد صدمني الكتاب، وأصابتني الرسالة بالهلع، وجعلتني أفكر ألف مرة فيما بدر مني وفي كل تصرف سوف أقدم عليه، فليس هناك أفظع من الشعور بأنك تضيع من تعول، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع مَن يعول". على كل أب أن يبحث عن هذه الرسالة ويقرأها بعناية، فالأمر ليس سهلًا قط!
المرجع
كتاب "رسالة إلى الوالد" للأديب فرانز كافكا، ترجمة الأستاذ يوسف عطا الطريفي، عن دار الأهلية للنشر والتوزيع - الأردن.