بقلم/ محمد بدوي المصدر/ أخبار الأدب
يمثل كتاب 'بين كتبة وكتاب' لريشار جاكمون أول محاولة سيوسيولوجية لدراسة المجال الأدبي في مصر المعاصرة، من وجهة نظر محددة تتكيء علي انجازات بورديو في دراسات سيوسيولوجيا الثقافة. وهو في ذلك يفتح الباب بقوة لدراسات أكثر تخصيصا لبعض ظواهر هذا المجال، ويقترح ضمنا دراسة مجالات أخري قريبة من المجال الأدبي مثل المجال الفني التشكيلي والمجال السينمائي والأكاديمي... الخ. لدي بورديو يتكون المجال في لحظة بعينها من تطور المجتمعات التقليدية، إلي الحداثة، حين تدرج السلع الرمزية (فيلم. كتاب. لوحة.. الخ) في علاقات السوق والتبادل، أي حين تنتج سلعة لها منتجوها ومستهلكوها، ومن ثم يفترض استقلالية المجال. فماذا فعل جاكمون مع مجال لاسوق فيه ولا استقلال له علي دارس سوسيولوجيا الأدب أن يدرس المجال هنا بوصفه بنية، لها سلطة (فاعلية ذاتية) علي أجزائها، ومن ثم عليه أن يدرس تاريخ تكون المجال وعلاقاته الداخلية، وآليات مراكمة رأس ماله المادي والرمزي... الخ إن دراسة المجال بهذا المعني تمثل برج مراقبة للواقعة الأدبية بما هي مجال انتاج واستهلاك ومراكمة. ومن شأن ذلك أن 'يزعج' بعض الأدباء الذين ينفرون من السوسيولوجيا التي لاتستسلم لأفكارهم عن امتياز الأديب أو دوره النبوي المسرف أو جماليات الأدب ورفعته وسموه.
جاء جاكمون إلي مصر، وانخرط في غمارها، صار مزدوج اللسان (والوطن؟) وانغمس في عالم الثقافة والحياة الأدبية بما يجعله شاهدا علي ما يجري في الكواليس، وظن كثيرون من أصدقائه ومعارفه من المنخرطين معه في علاقات العمل أو الصداقة، أنه حين يكتب، سوف يخضع لقانون هذه الحياة الثقافية، لكنه باغتهم بكتاب مسرف في سوسيولوجيته، وهكذا دخل كتابه في علاقات المجال نفسه: النميمة والتنافس والرفض. ازدهي كثيرون بورود أسمائهم فيه (تأمل سلطة الكتابة بالفرنسية)، وغضب كثيرون لتجاهلهم، وتفهم قليلون ما فعله وكتبه، فيما جاء له البعض من مواقع ايديولوجية، واستخدمه البعض في علاقات التنافس الجيلي والإيديولوجي.
يمكن طبعا أن نحول كتاب جاكمون نفسه إلي مادة للتحليل فنتأمل اختياراته لبعض النصوص وعلاقة ذلك بعلاقاته في المجال نفسه وتركيزه علي بعض القضايا دون غيرها، بل تلطفه مع بعض المكرسين الداخلين في علاقات معقدة بالمجال والمجالات الخارجية المؤثرة فيه، بل حتي دقة بعض المعلومات، وما صاحب الترجمة من ظروف (استخدام كلمة الحقل بدلا من المجال، 'شاعر الأمراء بدلا من 'شاعر الأمير، ضابط حر بدلا من أحد الضباط الأحرار... الخ) لكن هذا كله لاينفي أننا أمام كتاب بالغ الأهمية، يؤكد تلقيه الحادث الآن طبيعة اللحظة في المجال نفسه، ولو كانت اللحظة مختلفة، والمجال مستقلا نسبيا لكان الكتاب فرصة جيدة للنقاش والتطوير والإغناء.
لكل هذا ليس هذا المقال عرضا وافيا لكل ما جاء في الكتاب، إنما هي بضع ملاحظات سريعة علي بعض قضاياه. ذلك أن جاكمون الذي يدرس المجال الأدبي في مصر المعاصرة، تضطره طبيعة بحثه إلي العودة إلي ما قبل ذلك بكثير، إلي حيث بدايات القرن العشرين، اللحظة التي يقترحها كتدشين لنشوء المجال، وتوحي صياغاته أحيانا بأنه يتحدث عن المجال الأدبي الحديث برمته، ومن ثم ينزع هذا الخطاب إلي ضبط المحددات العامة لمجال شائع مليء بالتمفصلات والتعارضات، والتقطعات.
وهكذا يبدأ من عبارة سارد رواية 'أولاد حارتنا' لنجيب محفوظ، والتي شهرت بعد فوزه بجائزة نوبل، والخاصة بالسارد ومهنته ليلتقط أول خيوط 'قراءته' لهذا المجال. يقول محفوظ علي لسان السارد: 'شهدت العهد الأخير من حياة حارتنا، وعاصرت الأحداث التي دفع بها إلي الوجود عرفة ابن حارتنا البار. وإلي أحد أصحاب عرفة يرجع الفضل في تسجيل حكايات حارتنا علي يدي، إذ قال لي يوما: 'إنك من القلة التي تعرف الكتابة، فلماذا لاتكتب حكايات حارتنا؟ إنها تروي بغير نظام، وتخضع لأهواء الرواة وتحزباتهم، ومن المفيد أن تسجل بأمانة في وحدة متكاملة ليحسن الانتفاع بها، وسوف أمدك بما لاتعلم من الأخبار والأسرار. ونشطت إلي تنفيذ الفكرة اقتناعا بوجاهتها من ناحية، وحبا فيمن اقترحها من ناحية أخري. وكنت أول من اتخذ من الكتابة حرفة في حارتنا، علي رغم ما جره ذلك علي من تحقير وسخرية. وكانت مهمتي أن أكتب العرائض والشكاوي للمظلومين وأصحاب الحاجات. وعلي كثرة المتظلمين الذين يقصدونني فإن عملي لم يستطع أن يرفعني عن المستوي العام للمتسولين في حارتنا، إلي ما أطلعني عليه من أسرار الناس وأحزانهم حتي ضيق صدري وأشجن قلبي...'
النص ثري بالدلالات، لكن جاكمون يذهب إلي غايته فورا، فيركز علي دلالة ازدواج وصفية الراوي (كاتب المعارضات) و (سارد حكايات الحارة) أول من احترف الكتابة التي تجلب السخرية. وفي هذا فإن المؤلف، شأن السوسيولوجي يركز علي الوصفية القلقة للكاتب الذي يملك العلم ببواطن الأمور لاختلاطه بالناس، والقدرة علي إدراكها وتأملها وتأويلها، وامتياز ايصالها للسلطة. وهكذا يصبح 'كاتبنا' ابن ازدواج الهوية والدور: كاتبا بالمعني الحديث أي منتج نصوص، وكاتبا بالمعني البيروقراطي أي عرضحالجي.
هذا الاقتباس من 'أولاد حارتنا' يشير أيضا إلي المهمة الأخلاقية للأدب، فالسارد يتصور أن من شأن 'تنظيم ما يروي' وتخليصه من 'أهواء الرواة وتحزباتهم' ووصفه في 'وحدة متكاملة' أن يخلص حكايات الحارة من الشوائب ويجعلها شيئا نافعا. تلك نصيحة عرفة إليجوري المعرفة للسارد الذي ينهض لتنفيذ المهمة 'حبا في عرفة' واقتناعا بها، فهو لا يتصور الحقيقة إلا مفهوما مطلقا واحدا، وليس من شواغله أن 'تنظيم ما يروي' ووصفه في 'وحدة متكاملة' تسير إلي موقع للكلام يختلف من راو إلي آخر، وأن هذا الكلام ليس فقط بحثا عن الحقيقة، بل هو أيضا تصنيع لها. الكاتب بوصفه موجها أخلاقيا هي 'الوظيفة' التي يتصورها الكاتب المصري والعربي لعمله، فهو ضمير الأمة وصائغ أشواقها. لكن جاكمون يصوغ هذا الاستخلاص الصحيح عموما من تقصي تاريخ المجال، ومن تفكيكه لكلمة الأدب التي تشير إلي الآداب بمعناها الحديث من أجناس وأشكال، كما تشير في الوقت نفسه إلي 'مكارم الأخلاق' هناك حديث مرفوع إلي النبي يقول 'بعثت لأتمم مكارم الاخلاق'، ولم ينتبه المؤلف إلي دلالة أخري في الكلمة وهي دلالة 'المأدبة' أو السماط الذي يمد، ومنها اسم الفاعل 'الآدب' أي صاحب المأدبة ومقيمها. المأدبة هنا تعني الطعام والداعي إليه ومن يأكلونه في آن. المهم أن هذه المعاني ليست آنية فاعلة في الواقع فقط، بل فاعلة في ومتحدرة من التاريخ بوصفه نصوصا، ومن النصوص باعتبارها تاريخا.
هذه الايديولوجيا الأدبية، التي تري الكاتب ضمير الأمة والمتحدث باسم الجماعة تمنح الكاتب شعورا بالفرادة والتميز بوصفه كائنا ممتازا مختلفا عن الناس أفراد الجماعة، وتستخدم كمبرر للأدب نفسه. وقد استخدمها مؤسسو الفنون الأدبية الحديثة في تسويقها كفن المسرح وفن الرواية وحتي الكتابة التاريخية، وهي ايديولوجيا واضحة الصلة بالثقافة الاسلامية بمعناها الواسع، التي تركز علي أخلاقية الفعل الانساني. ولهذا يحسن أن نفكر في علاقة هذه الايديولوجيا بالثقافة بما هي خزانة هائلة من المعارف والرؤي والرموز، أي في علاقتها بالتراث الأدبي والديني لابما هو نصوص فقط بل أيضا بما هو حضور لايفتأ يحضر في الواقع ويفعل فيه. لكن هذه العقيدة كأي سلطة رمزية لاتعمل إلا بتواطؤ الجميع، فهي تحقق للكاتب شعورا بالفرادة علي أساس أنه كائن ممتاز وسط البشر الفانين موصول بأسلافه ومدرج في سباق يضم النبي والحكيم، وتسمح له بإشهارها كإيديولوجيا 'للإبداع' في وجه من ينتقصون من الأدب الذي يذكر بالكذب والشر ويحض عليهما، أما المستهلكون والقراءة فيربطون المكتوب 'بالكتاب' حيث الكلمة المقدسة و 'القلم' الذي يقسم به القرآن ايديولوجيا 'المكتوب'، المحرر من الشوائب تحرير تعني كتابة تفسر لماذا تملك الكتابة كل هذه السلطة، برغم أن الكاتب بلا جمهور، والكتاب لاسوق له، ولماذا تقوم الضجة تلو الضجة بسبب قصة أو قصيدة في مجتمع لايستهلكهما، ولعله يفسر أيضا هذا التباري في امتطاء الأدب لتحقيق أهداف غير أدبية، أغلبها له علاقة بما يدور في المجال العام، بل يفسر لماذا يحرص الزعماء علي أن يبدوا كتابا أو هواة كتابة. لكن علينا ألا ننخدع بهذه السلطة، فالكتابة أيضا تجر علي ممتهنها 'التحقير والسخرية' كما يقول سارد أولاد حارتنا، كأنه المكدي الجديد أو شاعر الخليفة، ذلك أن الكاتب مسود لاسائد كما يقول بورديو. بل أحيانا يأخذ هيئة المتكسب بالشعر حيث تبرز دلالة المأدبة، فيقول له الخليفة 'قل حاجتك ياشيخ فإني أجلك عن قول الشعر'، وفي سباقات أخري تبدو الكتابة مهنة لاتحظي بالاحترام حقا، ولذلك لم يضع محمد حسنين هيكل اسمه علي رواية 'زينب' ووقعها باسم مصري فلاح. بل ان كلمة كاتب تكاد تكون مساوية لكلمة 'ارتيست'، ومقترنة بحياة بوهيمية متخيلة ومنقطعة عن الحياة الصارمة التي ترضاها الثقافة المستقرة. ان مفهوم الكتابة يخضع لعوامل آتية من خارجها، أي من خارج المجال، أي من المجالات السياسية والدينية، ويختلف المفهوم باختلاف منظورات الكتاب والقراء. ولذلك يلجأ الكتاب الاخلاقيون والموظفون الثقافيون، والسياسيون والمأذون لهم بالكلام من قبل المؤسسة الدينية والسياسية إلي الرأي العام لاستفتائه حين يظهر نص يري هؤلاء أنه يخالف رؤية مؤسساتهم، معرضين الكتابة لسؤال الحلال والحرام، والخير والشر، كما تري المنظومة الثقافية هذه المطلقات.
يتقصي ريشار جاكمون تاريخ تشكل مجال الأدب في مصر الحديثة وعلاقته بالمجال العربي والدولي وكيف تكونت عقيدته الأدبية وأهم تحولاتها. ثم يصف الدور الفاعل لمؤسسات الدولة المصرية للسيطرة علي هذا المجال وضبطه ومراقبته بدءا من العصر الملكي الكلونيالي حتي اللحظة الحاضرة، مرورا بتدشين سلطة يوليو ناصر لآلية تأميم المجال وانتاج أفراده وكيف استطاعت مؤسسات الدولة الايديولوجية ضبط هذا المجال واحتواء متغيراته واستثماره سياسيا في صراعاتها مع الفرقاء السياسيين في الداخل، ومناوئي نهجها السياسي في الخارج. وفي هذا المجال يبرز الدور الحيوي لجنرال جيش الاداب يوسف السباعي وجنرال جيش الثقافة ثروت عكاشة، علي أنني لا أري ما يراه المولف من ترحيب كبار مثقفي العصر الملكي بانقلاب يوليو. الأحري أنهم أدركوا أن زمنهم انتهي، ولكنهم لم يرحبوا بالزمن الجديد، بل دربوا أنفسهم علي التعامل معه، واتقاء ضرباته بعد الغاء الأحزاب والتطهير وإنشاء وزارة الإرشاد القومي.. مهما يكن الأمر فإن جاكمون يواصل رصده لبقية عناصر المجال مثل الترجمة من العربية وإليها ليبرز وقوع المجال في مرمي سلطة المجال الدولي، وهي السلطة التي تقوي يوما وراء يوم، ويتوقف لدي تلقي النصوص العربية في المجال المهيمن متخذا من ترجمات روايات محفوظ نموذجا للتلقي في فرنسا حيث يبرز بوضوح أفق انتظار المجال المهمين لما ينتجه المجال التابع. ملاحظات المؤلف عن هذا التلقي والفصل الذي خصصه لبحث موضوعه الهوية ونزوع الكتابة العربية إلي تأصيل أشكال كتابية من خلال العودة إلي الموروث الثقافي، كلاهما يدخله في حوار أحيانا صريح وأحيانا ضمني مع منجزات حقل ما بعد الكولونيالية، وهو حوار نقدي، يحاول الوقوف في منطقة تقاطعات، ذات منظورات متعددة، فيبرز الوظائف والنتائج المتعارضة للسياج الهوياتي في المجالات الثقافية. المختلفة طبقا لموقع السائد أو المسود، نافيا وجود علاقة استبعاد بين الطليعية والتعريف الهوياتي للمشروع الأدبي، حيث تنقسم الطليعية بين اتجاهات كوزمو بوليتانية صغيرة واتجاهات قومية، أحيانا تكون متشددة.
وهكذا يتحرك المؤلف بين التحليل الأدبي (التأويل؟) وبين الوصف والإحصاء وأدوات البحث السوسيولوجي لكي ينشيء إشكاليته وليحقق النفاذ إلي نظام العلاقات الأساسي. من الحديث عن العقيدة الأدبية إلي وصف المكان و(وسط البلد) ومن تحليل الخطابات إلي التقصي التاريخي في مجالات محددة مثل الرقابة وأنواعها وانعدام الحدود بين التقويم والنقد، وممارسة الرقابة بسبب طبيعة المعيار النقدي الذي صاغته المؤسسة. وفضلا عن رصده للمؤسسات الرقابية وتعاظم رقابة الشارع، يتوقف المؤلف لدي بعض وقائع الحظر الفظ وموقف الأطراف مما يجري مثل قضية كتابات علاء حامد ونصر أبوزيد وقضية منع تدريس كتاب محمد شكري الخبز الحافي في الجامعة الامريكية، لكي يبرز دور الأفراد والمؤسسات وأشكال التنازع بين أفراد المجال، وتداخل النقد بالرقابة وبروز النخبوية الحاكمة لانتاج السلعة الأدبية، وعمليات الطرد من المجال التي تأخذ أشكالا كثيرة معقدة.
لكن المؤلف لايدرس الأدب فقط في مجاله التقليدي، بل يدرسه في المدرسة والجامعة أيضا، وفي وسائل الميديا حيث الدراما التليفزيونية والأغاني والاحتفالات الوطنية، ويدرسه بوصفه سلعة غير رائجة في السوق. أو علي نحو أدق لايمكن القول بوجود سوق للأدب بالمعني الحقيقي الواقعي، ولدي بورديو يحقق المجال استقلاله الذاتي من خلال خضوع السلعة الرمزية لعمليات التبادل، ولذلك كان علي جاكمون أن يتوقف طويلا لدي ظاهرة تقديس الكلمة المكتوبة مع عدم وجود سوق للأدب، ليقوده هذا إلي تقرير حقيقة تبعية المجال الأدبي للسياسة وتقلباتها.
ويري المؤلف أن المجال الأدبي المعاصر في مصر ينوء بتعارضات بين الثقافة الرفيعة التي يخص أفراد المجال أنفسهم بها، والثقافة الشعبية التي ينظرون إليها بوصفها ثقافة وضيعة تفتقر إلي الأصالة والسمو. كما يتوقف المؤلف لدي ازدواج لغة الكتابة: عامية وفصحي. عربية وغير عربية علي مستوي الدال. أما علي مستوي المدلول فإنه يتوقف لدي ازدواج الكتابة بين خطاب تبريري سلطوي وخطاب نقدي، مقارنا بين كتاب 'إنسان السد العالي' لصنع الله ابراهيم وكمال القلش وبين رواية 'نجمة اغسطس' لصنع الله ابراهيم وهي ازدواجية بالغة الوضوح لدي الأدباء الذين يعملون في مهنة الصحافة في الخطاب الصحفي تبرير وتزيين وفي الخطاب الأدبي نقد واعتراض. وهو أمر ملحوظ أيضا لدي شعراء العامية الذين يحترفون كتابة الأغاني. هل أثرت مهنة كتابة الأغاني علي انتاج أصحابها من شعراء العامية تأثيرا سلبيا؟
هذا ما يراه المؤلف مستثنيا فؤاد حداد، الذي ألمح انحيازا له، يتأسس عليه حكم بالقيمة. وفي تقديري أن هذا الرأي القائل بموقع خاص لفؤاد حداد، ينبني علي عاطفة قومية مسرفة، والغريب أن يتبناه ناقد للهوية كجاكمون، فضلا عن هذا لايمكن النظر إلي الأغنية التي كتبها صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي وكأنها أقل قيمة من الشعر. ولدي أن هناك ثلاثة من شعراء الأغنية قد أحدثوا فيها تمفصلا بالغ الاهمية لايقل عن الانجاز الحادث في الشعر الذي لم يغن، وهم مرسي جميل عزيز وعبدالرحمن الأبنودي وصلاح جاهين. أقول هذا دون أن أغمض نظري عن الدور الذي لعبه الأخيران بخاصة في مجال التعبئة السياسية للجماهير، من خلال أجهزة الدولة الإيديولوجية.
اعتذر عن هذا الاستطراد، وأعود إلي حديث الكتاب عن مسألة الحماية والرعاية، ذلك أن الأديب يحب أن يتصور أن ما يمارسه من قول أو فعل مبني علي اختيار حر مبرأ من أي شوب مادي. أما دارس سوسيولوجيا الثقافة فيدرس المجال واعيا بسلطته علي أفراده، وسلطة المجالات الخارجية الضاغطة، وفي ضوء انعدام وجود سوق للسلعة الرمزية، لابد من وجود رعاية لأفراد المجال، وهو الدور الذي تقوم به الدولة المصرية الآن، برغم أن المجال يحاول أن ينفلت من هذه الرعاية. لقد كان الأديب دائما في حاجة إلي حماة ورعاة. وكان شوقي يفخر بذلك: شاعر الأمير وما بالقليل ذا اللقب ثم غيرت سلطة يوليو من نمط هذه الحماية بتحويلها إلي مؤسسات راعية للأدب تتيح للدولة ممارسة هيمنتها علي أفراد المجال من خلال الهيئة العامة لقصور الثقافة، والهيئة العامة للكتاب، والمجلس الأعلي للثقافة... الخ وعبر المنح والجوائز والخطابة من فوق منصات المؤسسات الايديولوجية. وهو ما اهتدت بخبرته دول عربية أخري وأفراد منها فخصصوا جوائز كبيرة، تخصص بعضها في مكافأة كتاب يساريين (العويس مثلا..) وبعضها يمنح لغيرهم (جائزة الفيصل والبابطين... الخ. كأننا أمام نوع من تقسيم العمل والأجور، بحيث يصبح كل أفراد المجال تحت مظلة واحدة، يتفاوت موقع كل عضو حسب درجة اندراجه في المجال وهيبته وسلطته. وقد تنبه جاكمون إلي التداخل العضوي للمجال المصري مع غيره من المجالات العربية الأخري، مما أتاح لأعضاء المجال فرصة اللجوء إلي هذه المجالات حين تتوتر علاقتهم بالمجال المصري بسبب تقلبات السياسة. وأتاح للاعضاء الأصغر سنا فرصة العمل في الميديا العربية المعاصرة التي حققت وجودا ملحوظا بعد الطفرة النفطية.
وبرغم مابذله من جهد كبير، بدا لي أن سعة الفضاء المصري وخصوصياته النسبية وتأبيه علي الانصياع للنموذج الذي أنشأه بورديو، كل ذلك قد جعل المتلقي يشعر بأن بعض القضايا الشائكة قد عولجت علي نحو سريع مثل تداخل الحدود بين المفهوم الإرشادي للقصيدة الأدبية ومفهوم الانحياز ومفهوم الواقعية، ذلك أن الأدباء المصريين الكبار لم يكفوا عن القلق فيما يخص هذه الايديولوجيا السائدة، والدليل علي ذلك تسارع التحولات في الحقل، وسلطة التجريب الانقلابية، ومفارقة العسر الحداثي (الغموض، تداخل الأزمنة... الخ) مع الإصرار علي الانشداد للواقع في كثير من النصوص.. وحين يتخد جاكمون من محاولة يوسف إدريس المسرحية وكتابة يحيي الطاهر المتناصة مع الف ليلة نموذجين لفعالية سلطة الموقف الهوياتي فإنه يركز علي بعد واحد من أبعاد متعددة. فجماليات التشكيل الفولكلوري لدي يحيي الطاهر عنصر من عناصر كثيرة. وما فعله ادريس في 'الفرافير' يختلف عما فعله في 'البيضاء' و 'دستور ياسيدة'... الخ الكاتب المصري كان مشبوحا بالرغبة في التأثير في الواقع، والرغبة المضادة في كتابة وفيه لشروط النوع الأدبي، مما يعني وجود ارتياب عميق في تجانس العقيدة الأدبية السائدة.
ولذلك أدرج المؤلف إدوار الخراط في قران واحد مع يوسف الشاروني ونبيل نعوم وغيرهما بوصفه مسيحيا هامشيا بالنسبة للعقيدة الأدبية السائدة، أي غير واقعي، في حين أن خطاب ادوار الخراط الأدبي برغم مناوءته للعقيدة السائدة علي مستوي تشكيل النص إلا أنه غير متضاد معها علي مستوي رؤية العالم، فهو كاتب 'وطني' بالمعني العميق للكلمة، بل أحيانا يستخدم حتي تشكيليا جماليات التوثيق في رواياته بحثا عن طرائق لفتح النص علي المرجع الواقعي. وهو في ذلك يختلف عن نبيل نعوم الصوت المتوحد الهامشي بين كتاب السبعينيات الذين كانوا امتدادا لبعض كتاب الستينيات، وفي تقديري وليس هنا مجال للتفصيل ان كتابة نعوم أقرب إلي بعض كتاب التسعينيات، الذين يظهر تأثير بورخيس في كتاباتهم.
أتصور أن شكل المرور السريع، مرور الكرام، ماثل في حديث المؤلف عن قضايا أخري مازالت ساخنة مثل أشكال الأدب (هل هي تسمية ملائمة) وقضية التجريب في عقد التسعينيات والأدب الاسلامي (حيث يغيب عن المؤلف تأثير تنظيرات سيد قطب). وهو أمر طبيعي مادام المؤلف يصر علي توسيع مجال البحث، بهذه الصورة، ويلزم نفسه بما لا لزوم له وربما يعود الاختلاف بيننا إلي ازدواجية مثل هذه البحوث أو تعقيدها إن شئنا الدقة، وما تتطلبه من عزل للمجالات وإعادة بنينتها، واختلاف طرائق البحث بين التأويل الأدبي والنقدي والتحليل السوسيولوجي. فضلا عن أن المؤلف في وضعية محددة تجعله برغم ابتعاده وهو يكتب عن الفضاء المصري، إلا أنه مشتبك مع علاقاته وأحيانا خاضع لا كراهاته وحيرة أعضائه بين المتناقضات.
يكتب جاكمون بحماس عن العقيدة الأدبية المصرية المنحازة إلي تفعيل الأدب في الواقع، وأحيانا يشعر المتلقي بأن كتابته رافضة لهذه العقيدة، في الواقع، لكن قراءة ما بين سطوره ومناطق صمت نصه، تعيدنا إلي تبني عقيدة 'عظمة وبؤس وضع الكاتب والمثقف عموما' وهو ما يتجلي في العنوان، والإهداء فضلا عن ما بين سطور الكتاب. إن الباحث السوسيولوجي أيضا له انحيازاته، حتي وهو ينقدها.