باب الدنيا – محمد إبراهيم طه
محمد إبراهيم طه؛ أديب وطبيب! عندما تقع مؤلفات الطبيب بين يديّ قارئ فإنه يشهد بقلب مطمئن أنه يقرأ لأديب فنان، وحين يجلس مريض بين يديّ الأديب يشهد المريض بيقين كامل أنه أمام طبيبٍ ذي خبرة!
اعتقد أن "محمد إبراهيم طه" يميل إلى الأدب والموسيقى والأوبرا والفنون جميعًا أكثر من ميله نحو الطب والمرضى والمشافي. فهو الزاهد خفيض الصوت رقيق القلب هادئ الطباع، الفن بألوانه والموسيقى بآلاتها والطرب الشجي يفترشون حواسه ويسيطرون على كيانه ويوجهون سلوكه، وقلمه مسخر لهم ومسحوربهم، ولست مبالغًا حين أقول أن كل أعمال "محمد إبراهيم طه" تعكس هذا الشعور وتثبته، وآخر أعماله "شيطان الخضر" يحمل من هذا الكثير، ونال اهتمامًا كبيرًا، وكل أعماله نالت قدرًا كبيرًا من التقدير والإشادة، لكنني سوف استمع وإياكم إلى أنشودته الرائعة "باب الدنيا" التي أصفها بـ "الحضرة الصوفية" أو "حياة البرزخ" تلك الحياة المنهكة بين عالمين، حياة وموت، أو موت وبعث أو حياة وحياة!
في كل صفحة من صفحات "باب الدنيا" سوف يَرِقُ سمعك لنغمة حلوة وترى عيناك آلة موسيقية عبقرية ويُطرب فؤادك مقطع أغنية خالدة! وكما ينشد "الصوفي" في تبتل وخشوع أسماء الله الحسنى، يردد "طه" أسماء الملحنين الكبار "محمود الشريف -أحمد صدقي -رياض السنباطي" في هُيام وتجلٍ، وينجذب مفتونًا كالدراويش من سحر الأناشيد الوطنية -دوس على كل الصعب وسير- فيندمج اندماجًا كاملًا مع آلات العزف، ويجعلك منبهرًا بخروج الأساتذة عن وقارهم حين يسمعون هذا اللحن، ويمتزجون مع طلابهم الذين يَدِبون الأرض بأقدامهم ويحركون قبضاتهم في الهواء كزنهم في "حلقة ذكر".
لا تدري أهمُ شخوص روائية أم بشر من لحم ودم، سحرهم السنباطي بلحنه الخالد! ثم تسأل نفسك وأنت في خضم هذا المحيط الساحر، هل جاءك "طه" من دار الأوبرا عازفًا على الناي منشدًا كلمات من نظمه، أم أنه يهرول أمامك بـ "البالطو" الأبيض في أحدى أروقة المستشفى ليسعف مريضًا يصارع الموت!
إنه يتحدث عن "رتيبة الحفني والشريف وعلى إسماعيل" كأنه يتحدث عن الآيات الكونية كالنجوم والمجرات فتصبح هذه الأسماء من دعائم البنيان الروائي، وعالم "طه" عالم من أطياف وإضاءات، ربما إضاءت سوداء أحيانًا، لأنها تدخلك إلى عالم مظلم أسود، كالقبور، لكن لغرابة "محمد طة" تجد هذا الظلام مضيء! يسبح دائمًا في بحار من الصفاء الروحي "الصوفي" لا تستطيع أن تعتبره ضمن المحسوسات والمرئيات أبدًا، إنما هو شفيف، أرواح هائمة، تفعل ما تشاء بنفسها، وما تريده بك بلا تردد أو قيود، فلا تستطيع أن تعترض عليها! أنت في عالم روحاني، زمانه طلاسم لا تعرف فك رموزه أو طبيعة وحدات قياسه، فهي ليست ساعات ودقائق، وإنما وحدات خاصة بـ "محمد إبراهيم طه" إنه عالم بين السماء والأرض، في منطقة رحبة مضيئة ومظلمة لا تستطيع وصفها لكنك تعرف كل شبر فيها!
محمد طه؛ لن تستوعب عالمه الأثيري والصوفي إلا إذا حلقت معه خلالهما، وسكنت تحت جناحيه حيث الدهشة وأُحْجِيَّاته العميقة ومفاجآته وغير المعقول المقبول! لا ينتظر القارئ منه أن يمنحه رواية تقليدية، وإلا فإنه قد جاء إلى العنوان الخطأ! وإنما عليك خوض التجربة معه، تسكن عالمه السحري الذي يستوجب منك بذل الجهد لتدرك كنهه! أهو عالم إيماني رباني مكشوف عن شخصياته الحجب؟ أم أنه عالم ناقم كافر أصابه الضجر؟ أم هو عالم رافض لنواميس الطبيعة، ويعيش مخترقًا كل حدود الغيب والحقيقة ويمزج الروح وعوالمها بالخيالات التي تليق بها؟ أنت في حيرة حين تقرأ، وأنت في حيرة حين تنتهي، وأنت في حيرة حين تريد أن تصنف هذه التي بين يديك! أهي رواية تبدأ حين تنتهي وتنتهي عندما تستوعب مكنوناتها أم هي قصيدة طويلة ممتعة عليك أن تردد أبياتها بشغف وشجن، أم حلم بديع أو رؤية ملهمة لن تتكرر مرة أخرى وعليك أن تتشبث بكل تفاصيلها كي لا تنساها أبدًا، ولكي تضاهي بينها وبين أحداث ستتعرض لها في قادم الأيام، وعليك أن تفسرها بهذا الذي بين يديك، كأنك أمام سفر مقدس يحمل الغيب بتفاصيله ومعضلاته!
في رواية "باب الدنيا" (دار النسيم ط ٢٠١٧) يجد القارئ نفسه أمام فيلسوف متصوف، وصوفي رباني إذا أقسم على الله أبره، الناي والقانون والكولة موسيقاه الساحرة، يسمعها القارئ تقريبًا مع كل صفحة من صفحات الرواية، هناك الموسيقى والأنغام والظلال والألوان ولن تسأم أبدًا.. إنه يرسم لوحات تتناسب مع الموقف، فيضع فيها ألوانًا ساخنة، ملتهبة المشاعر، أوراقٍ جافة ميته، وأقدام بشرية تدهسها فتصبح رمادًا من دون نار! فإن النار تكمن في لوعة الفراق والموت والحرمان! وأصوات من خلف المشهد ليست سوى سلاسل صدئة، وأقفال حديدية وموسيقى خافتة لأحمد صدقي ومحمود الشريف!
"واصلت التقدم على طنين كأنه حفيف أوراق أو أصوات طيور أو موسيقى لا أعرف مصدرها.. ارتفعت سدادات الأذن تدريجيًا، ولاح لي الأنين الموجع، كأنما الناي، والصوت الجماعي كأنما لكورال شرقي مصاحب.. على بلد المحبوب وديني.. في منطقة عمياء وموسيقى بعيدة تتلاشى، لا شيء سوى وشيش صهد، وطنين ذباب أخضر، أو بقعة مياه تلوح على البعد كأنها سراب، وظل ممدود.. بقعة شفافة راكدة أزلية!" عناوين فصوله "صخب عائلي، كورال الحديقة، من بعيد يا حبيبي أسلم، في قلبي غرام، بلد المحبوب.."
إنه مزيج بين الموت والحياة، بين الفراق واللقاء صخب مزعج وسلام عارم، أعمى رُدَّ إليه بصره فلا يصدق ولهذا لا يرى الضياء من حوله!
الجنس؛ عند "طه" له مذاق مختلف، يسمو على الحواس، يأتي دائمًا على استحياء، مموه، غامض يليق بصوفي متبتل، يتعالى على الشهوات، لكنه يرد حوضه مضطرًا لتذوقه ثم يعود إلى طهره ونقائه.
محمد إبراهيم طه؛ يتعامل مع العامية تعامله مع الفصحى صرفًا وإعرابًا، يحترمها فلا تملك إلا أن تقدرها تقديرك للفصحى، معتقدًا أن لها مكانًا في معاجم اللغة! إنه متفرد بلغته الراقية القريبة إلى القلب ولا مجال معه للاحتكام إلى سيبويه والزمخشري "لو عرفت العو حقيقةً لوجدته غلبانًا.. وكان قبل أن يكف عن سباب المارة ليفسحوا له الطريق يُخانقُ ذبابَ وجهه.."
أما أعظم ما ترك في قلبي من أثر هي تلك المرأة "شوق" الجدة الجبارة:
"جاءني فتح الله ونظرَ في الساعة قائلًا: "ستك شوق حتموت بكره!" وفي الطريق أخبرني أنها عصبية منذ عودتها من الحجِّ، وهمس في أذني أنها طافت ولم ترَ الكعبة، وكان عطية يشير إليها كأنه يكلم واحدة عمياء: "أهه يا أمه.. قدامك أهه!" فتقول بغضب: "مش شايفة حاجة". وبمجرد دخولي، جاءني صوتها من الداخل عنيفًا، وكانت تحدق في السقف وتصرخ بصوتٍ عالٍ: "كفاية بقى.. سيبني في حالي.. إنت إيه مابتزهقش؟ صلاة وبنصلي.. زكاة وبنزكي.. حج وحجينا.. أعمل لك إيه تاني؟ أبوس رجلك؟ نزلهالي وأنا أبوسها" حاول عطية أن يوقفها، لكنها دفعت يده وعلا صوتها أكثر: "سيب أمك يا عطية.. ميّل بختها بجوازتين خرا، وقالت ماشي، كسر لها رِجل وقالت مايجراش حاجة.. حتة الواد اللي حيلتي عايز منه إيه؟ جوِّزته تلاتة وقاطع منه الخلف ليه؟ مش حياخدني غير لما أشوف له خلفة.. أيوة زي ما بقول كده وآدي دقني!" ثم لم تعد تنظر إلى السقف، كأنها زعلانة، ونظرتْ إليَّ بعينين زائغتين، وأكملت كأنها مقموصة "طول عمره كده.. يدِّي الحلق للي بلا ودان!".