اليزابيث.أ. سميث [1] ترجمة : عفاف عبد المعطي
فصل من كتاب كايرو كوزموبوليتان Cairo Cosmopolitan
ملحوظة - الهوامش المُرقّمة (1-2...) آخر الموضوع وردت في نص الكاتبة. - الحواشى للمُترجم
النص
في جمعية ارمينَّا في حي عابدين، احد أحياء القاهرة، يوجد السيد على سالم[2] وهو محاسب متقاعد يبلغ من العمر ثمانين عاماً يتكلم اللغات اليونانية والفرنسية والإنجليزية والعربية بالإضافة الى الفدكا لغته الأساسية التى أشرف على تعليمها لمن استخدموها شفاهياً كى يتمكنوا منها كتابة باستخدام الحروف الهجائية للأبجدية النوبية التى استُخدمت منذ العصور الوسطى. عندما وصلت الى مقر الجمعية في مساء أحد أيام الأسبوع قبل نهاية شهر رمضان ديسمبر/كانون الأول عام 2001 ، حدث ان تكلم السيد علي مع فؤاد وهو أيضاً محاسب ويدرس لغة الفودكا قائلاً إذا كان بإمكانه فتح جمعية التراث النوبي الواقعة في الشقة المجاورة على أن تكون مقراً لاجتماع خاص مساء الأربعاء . دعا السيد على الكاتب والمثقف المصري المعروف خيري شلبي وكذلك أربعة من روائي النوبة[3] لجلسة ودّية لتسوية خِلاف، فما الذي أدى الى جلسة الصلح تلك التى أُطلق عليها "ونسة" وقد ضمت الزملاء من المثقفين الأصدقاء لحل النزع في جلسة لإحتساء الشاي؟حيث ظل السيد على منتظراً نحو عدّة أسابيع لعقد تلك الجلسة. منذ أن كتب المثقف خيري شلبي في عموده الأسبوعي بجريدة الأسبوع المصرية مقالاً عن الإرهاب في مصر حيث ذكر حادث التفجير الذي وقع في عام 1993 في ساحة القاهرة المركزية التى يُطلق عليها ميدان التحرير. استرجع شلبي ما وقع في مقهى "وداى النيل" التى تُلقّب بـ"قهوة البرابرة". "حدث أن زلَّ قلم كاتبنا خيري شلبي وكتب قهوة البرابرة" هكذا قال الروائي حجاج أدول ثم استطرد ".. فغضب الكثير من النوبيين ولهم أن يغضبوا" (أدول 2001)[4] . استخدام خيري شلبى لكُنية البرابرة المُعلن أشعل كثير من ردود الأفعال المتباينة الغاضبة مِنْ عِدّة كُتّاب نوبيون عارضوا ذِكر تلك الكُنية ،على الرغم من اعتذار شلبي ونهاية تلك الحادثة بالصلح بعد جهود أدول في الكتابة بما أنهى الأمر بجلسة صُلح بعد الاجتماع في جمعية التراث النوبي. نشأ كُتّاب النوبة أساساً في منطقةِ تمتدُّ عبر جنوب مصر وشمال السودان مما أَطّرَ اعتراضاتهم على تعبير البرابرة (مفردها بربري) الذي يجنح عنصرياً إلى اللون والحقوق المواطنة التى تجلب في أغلب الأحيان اعتراضات النوبيين المتصوَّرة عامة . استخدم وصف بربري تعبير عن الازدراء ويستخدم فيما يُسقط على نوع من الإهانة تحيل إلى اللون لكنه يمكن تطبيقه أيضاً على أي شخص–نوبي أو غيره-كإحالة الى الهمجية أو الحماقة. و تاريخياً استخدم وصف البربري للشخص النوبي أو السوداني الأجوف النازح للعمل في العاصمة، ممن يعملون كمجموعة عُمّال مهاجرون في العاصمة المصرية . النوبيون ذوو بشرة قاتمة أكثر من المصريين ، وقد تكون إحدى لهجات لغتهم النوبية نابعة من لغتهم الرئيسية الأم. وقد تمت لهم الهجرة من النوبة إلى مدن مصر الشمالية للعمل بداية فى الخدمات العادية لقرون بينما ظلت النساء في الجنوب يسكنّ بيوت القرية(جيزر1986). على أية حال ، أثناء بناء السد العالي بأسوان رحّلت الحكومة المصرية أربعة وأربعين قرية من قرى النوبة القديمة لقرى جديدة شمال مدينة أسوان في عامي 1963-1964 أثناء القرن العشرين. وقد ربح النوبيون اقتصادياً ونالوا الحظوة التعليمية عبر النقلة الحضرية الكبيرة إلى المدينة، ومن ثم الارتحال إلى مكان جديد بينما –في الوقت نفسه- حدثت مأساة تتمثل في نقص الزراعة المثمرة في النوبة، فضلا عن الفقد المُحقق لبيوتهم وقراهم كمحصّلة نهائية لفيضان السد العالي. كانت المناقشة عن مقهى البرابرة –تحديداً- وكذلك المناقشات التي تماثلها ضمن سياق المواطنة والحقوق. جزء من النوبيين المتحضرين المثقفين يعارضون دمج اللون والطبقة والأصول الجغرافية و هيمنة ذلك التأثير المضطهد المزدوج لهم الذي يجعلهم في انتظار " تأشيرة تبيح لك أن تكون مصرياً ". أولاً؛ تُظهر الأفكار السائدة عن النوبيين –خاصة- وجودهم كطبقة أدنى أو كجنس تابع ووضعهم داخل الأمة في موقع يجعلهم يمارسون الأعمال الخدمية خاصة حراسة المنازل. ستستمر دراستى فى طرح بعض الأفكار العنصرية الشائعة التى تقدم تصورات عن النوبيين ناتجة عن عدم الاعتراف بهويتهم المصرية حيث ارتباطهم بتاريخ العبيد فى جنوب الصحراء الإفريقية الكُبرى . وفي مصر هناك وعى شعبي من قِبل المصريين عن النوبة كمكون ثقافي نابع من إفريقيا جنوب الصحراء الكُبرى. على الرغم من الموقع الجغرافي في القارة يتصل بالمناقشات التي تدور حول النوبيين المعاصرين من حيث منزلتهم الاجتماعية وذلك ليس بمنأى عن عملهم فى الأعمال الخدمية (كما سلف)كما أن اقتران العبودية بهم كأفارقة وضعت النوبيين آنياً ضمن أمة متكاملة وحددت مكانتهم في وضع التابع . قضيت عامين من العمل الميداني الاثنوجرافي[5] لتصوير حالة النوبيين فزرت متحف النوبة وكذلك قمت ببعض الجولات السياحية بين أعوام 1997-2002. وفي أغلب الأحيان كنت أصادف المناقشات في مثل هذه الأمور وأعلم أنني سأجد بعض التصورات العنصرية التي تعترض وجود النوبيين بصورة حسنة في وسائل الإعلام مما يعيد صياغة وفهم واقع النوبيين وفق شروطهم الخاصة دون التوقف أمام المزاعم التي تؤكد أو ربما ترفض وجود التمييز العنصري الذي يهمش النوبيين على الرغم من الطنطنة اليومية التى تظهر في الصحف شبه الرسمية المصرية التي تؤكد وحدة الوطن وان مصر ليست دولة عنصرية وليس لديها انتماءات عرقية أو أقليات. في مثل تلك الظروف تبرز المناقشات العالمية حول الجنوسة[6]، الانتماء العرقي، والأقليات ومُثل الديمقراطية التي تفرض مبدأ المساواة بين المواطنين. في مثل تلك المناقشات تبرز مصر من بين الأمم-على سبيل المثال- مجسدة تاريخ التمييز العنصري الحقيقي(كـ الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا)، وخطر العرقية ، والحركات الانفصالية ( مثل المقاومة الكردية في الولايات المتعددة) أو الفعلية مثل الحرب الأهلية في السودان. عامة، تلك النماذج –بكل تأكيد- تطغى على كل المناقشات حول موضوع العنصرية الذي يمارس ويتكرس تجاه النوبيون في مصر. على الأرجح، أتمنى إمعان النظر في الأمور المعقّدة آنياً وعدم غض الطرف عن التطور التاريخي الذي تمثل في تجسيد المناقشات العنصرية التي استندت أساساً على التلازم التاريخي الاجتماعي بين النمط النوبي الظاهري واللغة والثقافة التي زاوجت بين الطبقة الاجتماعية والجنس. للمزيد من التوضيح، لون البشرة المصرية يمثل أساس الكشف عن الهوية الشخصية الجماعية مثل "الأسود"-"الأبيض" أو أي لون آخر. والأكثر أهمية الطبقة الاجتماعية ، الإقليم، الدين ثم الأصول العائلية العريقة. والكثافة السكانية أصلا في منطقة النوبة تحوي اختلاف شاسع في لون البشرة وقسمات الوجه، مثل كثير من الملامح التي تسم بقية سكان أقاليم مصر. بدء من بهتان اللون حتى توسّطه سمارً (ما يطلق عليه اللون القمحي) مروراً بالاسم وانتهاء باللون الأسود، وتلك الاختلافات تجعل بعض النوبيين يمتعضون من أن يُنعتون بالأسود عِوضاً عن الأسمر أو أي لون آخر. النوبيون على امتداد مصر من القاهرة حتى أسوان لا يُنظر إليهم إلا كحاملي البشرة السوداء بما ينتسب إلى من يُقال عنه زنجي أو إفريقي الملامح، على سبيل الذلّة أو المبالغة أو الابتذال أو الأفكار الشائعة التي تدل –ضمناً- على أنهم أفارقة غير مصريين مع دوام التجاهل لوجودهم وحجب الأصول النوبية عن التعريف بها . فضلا عن أنهم يرفضون التسليم جدلاً بأن اللون القاتم يكشف عن البدايات الإفريقية. ومفهومهم هنا يندرج تحت الانتساب إلى الصحراء الإفريقية الكُبرى وليس إلى مصر.
زلة قلم
تعد منطقة عابدين بوسط مدينة القاهرة محور التواجد الاجتماعي للجيل الأول من النوبيين مثل السيد علي الذي ولد وترعرع في إحدى القرى النوبية العتيقة التي وُجِدَت قبل عام 1960 ثم انتقل كثير من النوبيين إلى الإقامة في القاهرة منذ النصف الأول من القرن العشرين عندما هاجر آباءهم وأجدادهم من النوبة سعياً الى مًدن الشمال الوثيرة. عادة عمِل المهاجرون النوبيون الأولون في الوظائف الخَدمية كأن يكونوا حُرّاس عقارات أو طُهاة في قصور الأحياء الراقية أو في العمارات السكنية الفارهة أو في الفنادق في المدينة التى كان معقلها آنذاك في يد السلطة السياسية. أما الآن، فيجتمع النوبيون في عابدين حيث التجمعات الثقافية النوبية ، وكذلك جمعية قرية أرمينَّا الأهلية التي نشأت بمبدأ الاعتماد على الجهود الذاتية فضلا عن تقديم مساعدات خدمية مادية للنوبيين مثل المساعدة في إخراج جنازة أو تقديم بعض الأشياء الترفيهية او المساعدات التربوية مثل تعليم دروس العربية والإنجليزية. فهو مكان للتجمع الاجتماعي والسعي للتعاون المتبادل بين أبناء النوبة. الجمعيتان(أرمينا والتراث النوبي) كانتا –لمدة طويلة- معقلا للإيواء الجماعات النوبية المنشقة التى لا تحمل هوية رسمية والتى فرت من النوبة هرباً من فيضان السد وكتعويض مناسب لها ومن العمل في الأعمال الخدمية مثل المداري النوبية –رويداً- منذ العشرينيات من القرن الماضي (صالح-200-ص259-260) . تأسست الجمعيتان كمركزين مستقلين قبل أن توجد وزارة الشؤون الاجتماعية الحالية التي تسجل كل الجمعيات الأهلية الآن بوساطة مراقب منها مع تقديم إشعار رسمي بدعم مالي بسيط من قِبل الوزارة (للمزيد من التفاصيل عن الجمعيات انظر جريزر 1986 ص199-209- بوسيشك 1996 ص 68-82) تقع الجمعيتان (أرمينا والتراث النوبي) بين منطقتين رئيسيتين ارتبطا إبان عهد الخديو إسماعيل في القرن التاسع عشر في منطقة قصر عابدين ومنطقة ميدان التحرير بوسط مدينة القاهرة، في مبني سكني بعد عدد من المقاهي المزدحمة والمتاجر وكذلك المسجد[7]. حدث اللقاء الذي دعا إليه السيد على جميع المتخاصمين (خيري شلبي والكًتّاب النوبيين) في جمعية التراث النوبي وكان أحد الحضور الروائي النوبي عضو الجمعية حجاج أدول الذي اعتذر لخيري بشكل شخصي في مقال تحت عنوان (خيري الجميل .. لعلك بخير) أو بالنوبية (خيري آشري.. ماس-كاجنا) (أدول 2001). دافع أدول في مقاله عن خيري شلبي كأحد المثقفين المصريين القلائل الذين يحضون باحترام النوبيين عندما كتب أوائل عام 1990 عن الأدب النوبي[8] ومن ثم كان أول من استخدم هذا الاصطلاح مُشيراً إلى نصوصهم، بينما لم يذكرهم نقاد الأدب المصريين سوى بشكل عدائي ومن هنا نُعت هذا الأدب بالعنصري والانفصالي (أدول 1993) وقد اعتذر عن شلبي الذي نعت قهوة النوبيين بقهوة البرابرة ، وقد اعتبر ذلك الخطأ مجرد زلة قلم ذلك لأن خيري شلبي نفسه على خلاف آخرين من المثقفين لم يكن عنصرياً ، وعلى ذلك لم يقصد –فعلاً- أن يؤذى مشاعر النوبيين. على أية حال، استطاع أدول أن يبرئ شلبي كما جعل أدول ذلك الحدث فرصة لإثارة الانتباه إلى ثلاث قضايا طالما ظلت مؤرقة باستمرار للنوبيين. الأولى؛ استنكاره للاستعباد لأي بشر يحملون البشرة الداكنة (سمراء كانت أم سوداء) خاصة في وسائل الإعلام المصرية. الثانية، ناقش اتهام النوبيين بالانفصالية لأنهم يتكلمون وينمون إحياء إنعاش اللغة النوبية. الثالثة، انتقد أدول إخفاق الحكومة في تعويض النوبيين الذين فقدوا مأواهم في القرى النوبية ومن ثم بدا ترحيلهم منذ 1960. خلال مقالته انتقل حجاج أدول للحديث عن ثلاث قضايا في لغة معبرة تحمل قدر من الانفعال بالقضية التي يطرحها عن حقوق الموطنة للنوبيين ذلك الحق الذي تجسّد –على حد سواء- مع التحكم الرسمي الإعلامي الذي يتغافل عن لون البشرة ، وحقوق اللغة النوبية على سبيل الاعتراف بها كجزء من التراث الوطني وحقوق النوبيين المدنية وكذلك التعويضات التي كان يجب أن تمنح لهم من قِبل الحكومة المصرية نظراً لفقد مأواهم. أولا أشار مقال أدول في استهلاله إلى أوائل الستينيات حيث كان التلفزيون المصري يقع تحت سُلطة وزارة الإعلام قائلاً"هل شاهدت مذيع أو مذيعة سوداء في تليفزيون مصر؟ منذ نشأة تليفزيون ماسبيرو الفاضل وحتى الآن لم يقبل أي من أصحاب البشرة السوداء ليعمل كمذيع أو مذيعة. ربما من هو أسمر خفيف، لكن السود، لا. وكأن اللون الأسود عورة تجلب العار على مصر وتفضح افريقيتها. (أدول 2001) . لقد انصبّ جداله على أن لون البشرة الداكن إنما يدل ضمناً على الانتساب لإفريقيا ، مما يؤول إلى خلل اجتماعي مُخزي يجلب العار على مصر وكأن اللون الأسود يجلب الخزي لها ويفضح افريقيتها ثم يستمر أدول قائلاً" علينا أن نصمت وكأننا لسنا مواطنين مصريين، علينا فقط أن نضحي من أجل الوطن الكبير مصر ونؤدي ما علينا من واجبات لكن ليس من حقنا أن نأخذ مالنا من حقوق؟ أو أننا لسنا من نفس المستوى الذي عليه أصحاب اللون القمحي أو الأقرب إلى البياض؟" (أدول 2001). استمر أدول معرباً عن قلقه لأن بقاء اللغة النوبية مرهوناً بالترجمة وكأن في ذلك ميول انفصالية تؤدي إلى الهجوم على اللغة العربية وتقسيم وعزل النوبة إيذاناً باستقلالها. لكن ذلك –حقيقة- نوع من "الكلام المُرسل" وفي النهاية شدّد على أن الحكومة المصرية يجب أن تلتزم بوعدها الذي يبلغ من العمر أربعين عاماً متمثلاً في تعويض تلك الضحايا الذين رحلوا عن مأواهم بالنوبة جراء بناء السد العالي بعد أن إنهال عليهم الفيضان مما حال دون استقرارهم آنئذٍ. ومن ثم، عُرفوا بالمغتربين أو المهاجرين الرُحّل، ثم لم يتسلموا مأوييهم ويرتحلوا الى النوبة الجدية على الرغم من الوعود الأولية التى ألت بها الدولة على نفسها. قرر أدول أن إلصاق صفة البرابرة بالمقهي (قهوة البرابرة) إجحافاً مشابه لعدم ظهور ذوات البشرة الداكنة في وسائل الإعلام التى لم تكن بمنأى عن حقوق المواطنة ووطنية النوبيين الذين ضحّوا ببيوتهم ووطنهم من أجل الأمة ، ولم يكن جزاءهم سوى الاتهام بالانفصالية[9]. يقع المقهى[10] الذى حدده خيري شلبي في مقاله بميدان التحرير الذى يرتبط بشارع ممتد حتى ميدان عابدين وأيضاً يقع في منطقة مركزية إلى جوار أحياء مهمة منها قصر النيل والازبكية وكذلك بولاق حيث يذكر التاريخ نزوح معظم النوبيين إليها من أجل العمل والإقامة (جزار1986) . عامة أطلق على هذا المقهى"مقهى البرابرة"نظراً لتردد العُمّال النوبيين والسودانيين عليه، إضافة الى قربه من أماكن عملهم بوسط المدينة وكذلك بأماكن إقامتهم. هكذا تم تداول مُسمّى "قهوة البرابرة" وقد دمغه استقرار مجموعة من النوبيين مكانياً وعنصرياً في الطريق المؤدية إليه، بما يجعل التنافس –حتى اليوم- علنياً لإثبات وجودهم ومن ثم تجاوز تلك الفكرة. على الرغم من أن الرجال النوبيين المهاجرين كانوا يعملون كأُجريين[11] في الأحياء المصرية المتمدنة وذلك بعد أن انتهى[12] زمن الرقيق/ الاستعباد مع نهاية القرن التاسع عش ، ثم حلَّ النوبيون محلهم في أماكن الخدمة كأجريين حيث حافظت الطبقة الأرستقراطية نفسها على أن يكون لديها النظام الخَدَمي السابق لكن بوساطة النوبيين. ثم أن شَغل النوبيين لتلك الوظائف والظهور عبرها ارتبط في الوعي الشعبي العام أو في العقلية المصرية السائدة بالعبودية أو بما يشبه الرقيق. لذلك، بات طبيعياً "التلازم" بين الاستعباد والأشغال الشاقة فى الذهن العام بما يتناسب بشكل خاص مع ذلك العمل (فيرنا وجيرسير 1973-ص36-37) . إن تسمية "البرابرة" ترتبط ليس طبقاً للموقع الجغرافي الحضري للقاهرة فحسب؛ بل أيضاً في الإسكندرية ومُدن القناة كعلامة على وضع الطبقة الدُنيا في موقع الخدم لدى الأغنياء والشغل لدى الأرستقراطيين والمحتلين الأجانب. صورة النوبيين التي أناقشها هم الذين تبعوا نهج البرابرة ، العبيد، الأفارقة أو السود وقد استفحل إنتاج تلك الصورة خاصة في الأماكن المتحضرة التي ترتكز في القاهرة، وتكرسها وسائل الإعلام والجرائد الرسمية وكذلك المتاحف. وفيها يتم مناقشة الحيز الأساسي الذي يحتله هؤلاء النوبيين في المدن وكذلك في الجمعيات الثقافية، على أية حال، فما سأراه هو الذي سيبين إن كان النوبيين مع أو ضد أوضاعهم مفاضلة حسب شغر أماكن إقامتهم وكذلك الطبقة الاجتماعية والجنس. لا يعزف النوبي على لحن العبودية هناك لغتان يتحدثهما النوبيون عموماً هما الكنوز والفدكا وهي التي تمثل العلامة البارزة للاختلاف النوبي في مصر، بالإضافة الى بشرتهم القاتمة وتجربتهم المشتركة في الهجرة والترحال. حجم الكثافة السكانية في مصر كان أساس في صعوبة تقدير عدد النوبيين العجائز ولا يوجد مصدر إحصائي يشير بوضوح الى أن النوبيين معدودين حسب الإحصاءات السكانية المصرية قبل ثورة يوليو 1952. بينما مثّلوا نصف في المائة 5,% من عدد السكّان الكُلّي في مصر عام 1960 وقد خمّن جيسر أن العدد التقريبي للنوبيين المصريين كان 150 ألف نسمة عام 1970 (جيسر 1973-ص86-59) بينما يمكن أن يُقدّر عددهم عام 1993 ثلاثمائة ألف نسمة. ولأنهم يتكلمون لغتي الكنوز والفدكا لذلك فاللغتان لا قيمة لهما من حيث التداول القواعدي والتاريخي بين النوبيين وغير النوبيين. مقابل تداول اللغة العربية في مصر، على الرغم من أن بعض النوبيين قد يتكلمون بهما منذ دخول الإسلام إلى النوبة خلا الثلاثة عشر أو الخمسة عشر قرناً الماضيين، بينما استبدلت الأبجدية النوبية بأسلوب الكتابة بالعربية في عام 1980، على الرغم من أن أستاذة العلوم الإنسانية عالية رشدي قد وجدت السواد الأعظم من النوبيين يتحدثون بشكل ثنائي اللغة (نوبي/عربي) إلا انها لاحظت تغيّر شديد في أسلوب نطق اللغة العربية الفصحى لديهم (رشدي1991) إن مجموع الذين يعرفون اللغتين النوبيتين (الكنوز/ الفدكا) قراءة وكتابة قضوا طفولتهم المبكرة في النوبة القديمة فنشئوا طليقي اللسان في إجادة الكلام بلغتهم الأصلية، أغلب هؤلاء الرجال –الذين يعملون في وظائف منها المحاسبين ورجال الأعمال والروائيين- جاءوا إلى القاهرة أساساً للدراسة في المرحلة الثانوية أو للتعليم الجامعي. ربما يكون قبل أو أثناء عامي 1963-1964. ارتحلوا ، تزوجوا من النساء النوبيات ثم استقر لهم المُقام كأُسر في القاهرة. لذا، بات قلقهم شديداً لأن لغتهم الشفوية مُحيت لأنها لا تستخدم سوى في المنازل، كما أن الأجيال الصاعدة منهم لا تتعلمها. لذلك، تعلم الكتابة النوبية لا يحتفظ بوجودها فحسب، بل يثبت بالفعل أنها كانت دارجة فى الاستخدام وليست مجرد لهجة عارضة . تعلم اللغة النوبية هو المشروع الأول من نوعه في مصر الذي بلغ ذروته لمدة خمس سنوات من قِبل اثنتي عشر متحدثاً من مصر والسودان وقد انتعش استخدام اللغة كمستند دال على النوبة في العصور الوسطى أساساً عند الأقباط واليونانيين ، والكتاب الذي ذكر ذلك انتهى عام 1999 تحت عنوان"تعلم اللغة النوبية بالفودكا والكنوز على التوالي". وكان في الأصل أطروحة لنيل رسالة الدكتوراه للدكتور مختار خليل كبّارة، وفي الأساس كانت أطروحة كبارة عن المصريات ونالها من مدينة بون بألمانيا ومصادره التي استخدمها كانت المخطوطات المسيحية التي ظهرت في العصور الوسطى ومن ثم تناولت النصوص النوبية كي تكشف عن أن الأبجدية يمكن أن تتاح للكتابة بكل اللهجات المعاصرة. دعاني بهجت يوسف –يعمل محاسباً- و بشير عبد الغني وهو الآن موظف حكومة متقاعد إلى جمعية أبو سمبل حيث تحدثنا واحتسينا الشاي. ضم معبد أبو سمبل جدارية عملاقة تغطي الحائط في الغرفة الرئيسية وكانت تصوّر الفرعون رمسيس الثاني صاحب المعبدين في أبو سمبل. في عام 1960 نقلت هيئة اليونسكو المعابد القارة فوق المياه المتدفقة خلف سد أسوان ، وفي الآن نفسه ارتحل النوبيون المصريون لقرى جديدة في شمال أسوان على مرأى من حملقة رمسيس لجمعية أبو سمبل التي تحوي أعضاء وأصدقاء يجتمعون على تدخين النرجيلة ولعب الطاولة أثناء مشاهدة التليفزيون القابع أمامهم . وفي إحدى ليالي رمضان في ديسمبر 2001 جلسنا في غرفة الاستقبال في المكتب مستمتعين باحتساء الشاي أنا وبهجت وبشير وأخذت أشرح لهما طبيعة ما أقوم به من بحث ثم جاء أحد أعضاء الجمعية ليرحب بي ثم ذكر عضواً آخر من أعضاء الجمعية أنه أرسل مؤخراً خطاب يحوي شكوى لمحطة التلفزيون المصري الأولى مدارها حول إذاعة إحدى مسلسلات رمضان التلفزيونية في رمضان وكانت قصة المسلسل إحدى مؤلفات الروائي المصري نجيب محفوظ الذي فاز بجائزة نوبل وكانت تحت عنوان "حديث الصباح والمساء" قصتها تدور زمنياً في القرن التاسع عشر ، بطل المسلسل أرستقراطي فاسق تزوج أخر حياته من خادمته السمراء المُسماة "جواهر"، بينما ترك زوجته الأرستقراطية وأولاده. وعلى ما يبدو كان احتجاج نادي النوبيين المقدّم إلى قناة التلفزيون نظراً لظهور شخصية جواهر على الشاشة بشكل غير لائق، كما كانت الخلفية الموسيقية للمسلسل موسيقى منم الترانيم النوبية . طبيعة اعتراض الجمعية هو حقيقة أن النوبيين لم يُستعبدوا هكذا، فضلاً عن أن شخصية جواهر لم تكن نوبية. لذا، فقد تصرّف مبدعو المسلسل بشكل غير لائق إثر بثّهم للموسيقى النوبية كخلفية للمسلسل المعروض على الشاشة. مثل حجّاج أدول وبعض المثقفين النوبيين الذين حضروا إلى جمعية التراث النوبي وأعربوا عن قلقهم الكبير لعرض صورة النوبيين تكريسها بشكل سئ في وسائل الإعلام التي تظهرهم في أعمال مهنية أدني كحراس منازل أو خدم بما يعكس تأدب ذوي الياقات البيضاء الشديد كيف يكون؟. ولتقدير درجة قابلية طبقة النوبيين للهجرة مثل الكثير من الريفيين وخلال مرحلة التعليم دخل ذوو الياقات البيضاء إلى المهن المختلفة مثل غيرهم من المهاجرين وفي داخلهم إيمان بتصحيح الصورة المشوشة عن النوبيين كأحد أبناء صحراء إفريقيا الكُبرى و/ أو باعتبارهم في الأصل عبيد بدلا من كونهم أبناء وادي النيل، وفي موازاة ذلك يأتي اعتراضهم على إلصاق صفة البرابرة بهم. يريد النوبيون –أيضاً- أن يمحوا الأفكار الإعلامية التي تتكرر دوماً عنهم في الأفلام المصرية القديمة التي تصور الفترة ما قبل ثورة 1952، كما يُعاد الأمر نفسه دوليا أكثر عبر تلفزيونات القمر الصناعي. تجسّد هذه الأفلام تاريخ النوبيين على أنهم في المنزلة الأدنى خلال الحرف التي يعملون بها في الأعمال الخدمية داخل سياق حياة المدينة. إن ارتباط فعل الاستعباد بالنوبيين أنفسهم كخدم مرفوض على مستويات عِدّة كما سبق أن أسلفنا، فقد اعتبر النوبيون مناسبون أكثر للعمل في الأعمال الخدمية بسبب الاقتران التاريخي بالمحو (أى إلغاء وجودهم) وأيضاً نظراً للمهن التي يعملون بها في المدن. شارك النوبيون أنفسهم في تجارة العبيد كمالكين لهم، وقد أدّى ذلك الدور كبار السِن من أجيال النوبة الأولى في أواخر القرن التاسع عشر، اثنان من البرابرة من قرية "أبريم" في النوبة كانوا المسؤولين عن توريد العبيد إلى الشمال حيث مدينة القاهرة، كما كوّنا سوقاً للعبيد في الإسكندرية (واليز-1978-ص247) . استجلب النوبيون العبيد بشكل خاص من مناطق النوبة الجنوبية من بين "الكُشّاف" وقبائل ملاك الأراضي التي تؤرخ أصولهم إلى الاحتلال العثماني للنوبة الذي كان في القرن السادس عشر، مما سمح بالتزاوج بينهم وبين سكّان الأرض الأصليين (فراز وجارسترز1973-ص11-12) العائلات المُستعبدة وكذلك سلالاتهم شكّلوا جزءً من صغار المزارعين الأُجريين بلا أرض (حامد 1994) حتى مرحلة الانتقال في عام 1960 كانت التجمعات النوبية تمثل مصالح الأسر من ملاك الأرض في المدن (حامد 1994- ص139) هكذا كان مجتمع امتلاك العبيد لديه نفسه إجحاف تاريخي عميق حيث حدد أماكن العبيد الحاليين والمزارعين السابقين ذوات الأصول الإفريقية في وضع اجتماعي أدنى(للمزيد عن موضوع العبودية في النوبة انظر فرناند وجاستر 1973-ص 36، والـ"كاتشا" 1978- وكينيدي 1977-1978 ووالز 1978) . أيضاً كان الاعتراض النوبي على المسلسل التليفزيوني الرمضاني هدفه المعنى غير الدقيق الذي يجعل النوبيين أنفسهم كانوا مستعبدين مثل الآخرين، كما أن استخدام الموسيقى النوبية قد سهّل للمشاهدين إدراك ذلك الأمر في حد ذاته بما أحدث إساءة للنوبيين فى صورتهم المقدمة عبر شخصية الخادمة. إن ترسيخ صفة الخدم للنوبيين فكرة شاعت في الأفلام القديمة ، وقد ساعد وجود وجهة النظر نفسها في وسائل الإعلام كعامل مهم ومؤثر في تشكيل صورة عامة عن النوبيين في المجتمع المصري بينما تستنهض الجمعيات الأهلية النوبية نفسها عبر الزمن والجهد لمواجهة التصورات الإعلامية التي يرسخها الإعلام المصري. لذلك يستقرون على مقربة من مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري في قلب مدينة القاهرة. وهناك –أيضاً- مقار عدّة صحف رئيسية مصرية، الأحاديث الإعلامية والمناقشات حول صورة النوبيين كلها تأخذ موضع النقاش فى الجمعيات الأهلية ، والعدد القليل من الأعضاء قد يظهر او يساهم في التلفزيون والبرامج الإذاعية كلما أتيح له الحديث في ذلك. وللمزيد من المساعدة يوفرون لمعدين البرامج الإعلامية مجالاً يسيراً للاتصال بالعائلات النوبية والأصدقاء في أسوان وكذلك في مواطنهم ببعض القرى. فضلاً عن تنظيم المقابلات والعمل كمستشارين عندما يُسألون عن العادات والتقاليد واللغة النوبة الى جانب تنظيم الزيارات والأعمال المنزلية. ليست مناقشات الأعضاء المستمرة –بشكل ثابت- الوحيدة المعبرة عن جهودهم الخاصة، لكن الصورة الإعلامية المنتجة عنهم تحدث دونما يتدخلون . ففى الزيارات التى شهدتها على مدار صيفين فى 1997-1999، وكذلك أثناء علمي 2001-2002 ناقش الأعضاء قاعدة يرسخونها أسبوعياً لمناقشة ما يُقدّم من برامج إذاعية دقيقة وموثوق بها. لذلك فى الروايات والأفلام وأداء الرقصات الشعبية والمسرح والمقالات الصحفية المتعددة في الجرائد التى تعرض لصورة النوبيين أو موضوعات عن النوبة في أغلب الأحيان يتذمر النوبيون من عملية البث الإعلامي. لذا استحث أعضاء الجمعيات الأهلية النوبية بعضهم البعض على استنهاض المسؤولية دائماً لتصوير تراث النوبة بدقة لمنتجي الأعمال الدرامية عن النوبة، هذا وإلا يمكن أن يبحثوا عن أى رجل أسمر كبير السن يتلو تاريخهم[13] .
الإدراك الفعّال: ظهور الإفريقيين في التلفزيون
تؤثر جماليات لون البشرة ليس فقط على الأزواج النوبيين لكن أيضاً على جنسيتهم في مصر، الجمعيات النوبية الأهلية مقصورة بشكل خاص على الحيز الاجتماعي الذى شغله الرجال ومكان العمل، بينما تحضر النساء اجتماعات الجمعيات أحياناً لكن العضوية تُحسب أساساً بقدر الرجال المعيلين (جيزر 1986) على أية حال، في الاجتماعات المنتظمة لجمعية التراث النوبي يركز الأعضاء على تعلم اللغة النوبية على أن يكون الرجل في الجمعية سفيراً –في العضوية- لكل من السيدة والأسرة. وعلى الأغلب لا توجد زوجات ولا أمهات ولتجسيد صورة بنات القرية النوبية الجدية عموماً والقرى النوبية فيها الواقعة عند مدينة أسوان، فقد ظلت مصادراً للعادات والتقاليد النوبية التى من الضروري ان تُحمى. وفى ظل غياب البؤرة الجغرافية منذ عاش أهل النوبة كبار السن الأصليين في المكان ظهر الحنين إلى الأصالة النوبية الريفية التى تشعر به نساء القرى أنفسهن اللاتي يمثلن صورة مجسدة للتقاليد واللغة وطريقة الحياة النوبية القديمة، بينما الرجال –وهم يخوضون غمار الحياة المدنية المتسارعة- يشعرون بالحنين الى الحياة النوبية الأصيلة في الريف التى تجسدها نساء القرية أنفسهن, كانت زينة إحدى المصادر الحقيقية للعادات والتقاليد النوبية التى يتعلم عنها أعضاء الجمعية بالقاهرة بشكل مُغرم بها ، كانت رقيقة يبدو عليها أمارات الذكاء على الرغم من أنها تبدو صغيرة في بدايات العشرينيات تعيش في مدينة أسوان، تدرس زينة في جامعة جنوب الوادي[14] التى تقع في منطقة وسطى بين القاهرة وأسوان لأبوين من كنزى وفودكا وذلك نادر، غادرت زينة أسوان ولم تستقر نهائياً في قرية نوبية، ولم يكن لديها لتعلم قدر من اللغة النوبية الدارجة. أثناء عيد الأضحى في فبراير 2002 الذى يأتي بعد شهر رمضان بشهرين تكلمت زينة عن الاحتجاج الذى قام به النوبيون نتيجة للخلفية الموسيقية التى وضعت في المسلسل التلفزيوني الذى أذيع في رمضان مترافقاً مع شخصية جواهر الجارية فى المسلسل. سافرتُ من القاهرة الى أسوان لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع زينة وأسرتها. بينما كنا نستمتع بمشاهدة التلفزيون في اليوم الثاني من العطلة إذا بعرض إعلان جديد عن مسحوق منظف يُدعى "إريال" تمثل في الإعلان امرأة نوبية تعمل خادمة في إحدى فنادق أسوان السياحية. وبأسلوب عمل الشركات متعددة الجنسيات لابد أن يرسخ وجود مسحوق"إريال" وأن لا يكون هناك بديل عنه كمنظف أوحد, وتلفزيون توشيبا يعرض الإعلانات التى ترسخ تلك الأفكار التى يجب ان تشيع في كل أقاليم مصر. في إعلان مسحوق"إريال" التجاري عبرت الخادمة النوبية عن النظافة الهائلة التى جعلت ملابسها وملابس أسرتها وخلوها من البقع بعد استعمال نوع مسحوق"إريال" كما يقال في النوبة أى كل شئ جميل قالت هى بالنوبية كله (آشري) . عندما بدأ إذاعة إعلان مسحوق"إريال" التجاري سألتني زينة: هل رأيت إعلانات أخرى، قلت رأيت إعلان سمن "روابي" حيث كانت النسوة النوبيات يغنين ويرقصن فوق مركب يتحدثن شاكرات في مذاق الطعام بعد الطبخ بـ"روابي"! لا .. قالت زينة مشيرة الى الرجل النوبي الذى يرتدي زى الرقص الشعبي النوبي، كان يرقص ويطبل مغنياً بالنوبية "إيكا ديللي" أى "أنا أحبك" . قالت زينة "إنها أثناء الدراسة في أسيوط عندما كانت هي وبعض زميلاتها في الغرفة من غير النوبيات الذين أتو من مدن مصر العليا شاهدن التلفزيون في بيت الطالبات وعند الإعلان قالت إن زميلاتها استمرين يقلن بأسلوب يؤكد ان التلفزيون يقدمهن كأفريقيات، وأن زميلاتها لا يفهمن أى شئ، ولأنهن جهلة جداً، فقد أردت أن أخبرهن ما الذى آل بنا الى هذا الحال؟ لأننا كُنّا كنوز وكيشاف لكن كيف أفهمهن التفاصيل وهن حتى لا يعرفن أين تقع كل من أسوان والنوبة على الخريطة وبأنهما جزء حقيقي من مصر. من المفترض أن ينشا جيل من الشباب الذي يعلم كل ما حوله". تنهدت زينة بعد ما سردت لى تلك القصة، فما أفرز هذا الحال الإعلان المتعلق بأسلوب الشركات متعددة الجنسيات، فضلاً عن استعمال اللغة النوبية التى ربما تشير الى أن النوبيين غير مصريين. استمر كلام زينة حيث إن زميلاتها –أثناء عرض المسلسل الرمضاني- كُنَّ يدعونها بـ"جواهر" نسبة إلى بطلة المسلسل السوداء، بدون سبب لم ترُد أن تسبر أغوار هذا السلوك، لم يكن في غرفة زينة في سكن الطالبات تليفزيون فضلا عن أن دواعي الدراسة كانت تشغلها كثيراً عن متابعة الكثير من برامج ومسلسلات التلفزيون في رمضان، لكنها قالت:" خلال الشهر وجدت إحدى زميلاتي تدعوني "جواهر" ولم أعرف لماذا؟ اعتقدت أنها ربما تريد أن تنسبني إلى "جواهر"مطربة الأغنيات الشعبية السودانية، لكنها ليست نوبية، إنها سودانية، وبالطبع هناك اختلاف كبير، أخيراً سألتها لماذا تنادينني بـ"جواهر"؟ قالت:"ألا تشاهدين المسلسل التلفزيوني؟" إنها الخادمة التى تزوجت من سيدها الأرستقراطي" .. اعتقدت أن زميلتى كانت تناديني بذلك إيماناً منها بأنها بيضاء وجميلة جداً بينما لأننى سمراء فلست كذلك". وعند المواجهة مباشرة مع تلك الفتاة-شريكتها في الغرفة- غيرت صورة التلازم الذى يطابق بين جواهر/ الجارية التى تُشاهد كخادمة في المسلسل التلفزيوني، مع تواصل مشاهدة وسائل الإعلام اكتشفت زينة خطأ المطابقة الذى تعقده زميلاتها بينها وبين جواهر بما يسمها بأنها إفريقية من أصول العبيد أو التعبير صراحة عن القبح نظراً لسواد بشرتها. لقد باتت تشرح يومياً سوء فعل المطابقة الذى يحدث نتيجة لهذا الخلط والذي يرجع الى الجهل بالتاريخ واللغة والتحيز للون البشرة باعتباره دلالة على الجمال. عندما أعادت علىَّ ذكر الحكاية بدى على زينة قدر من الامتعاض من جهل زميلاتها بالأصول النوبية، كما اشمئزت من التقييم الذي يتم داخل غرفتهن المشتركة والقائم على أن البياض هو مقياس الجمال الخاص، كما اعتبرت زينة أن هذا التصرف من قبيل التفكه (النكتة) نظراً لأن قاعدة الاعتراف بها يستند تقييمه على لونها . مع افتراض أن كل شخص قاتم اللون مثل جواهر يقترن بصورة ما بتاريخ العبودية أو بالأفارقة بشكل عام. رغم أن زينة انزعجت –أيضاً- نظراً لعدم معرفة زميلاتها بموقع النوبة الجغرافي في مصر ومن ثم معرفة تفاصيل تاريخها كما لا يعرفن مطلقا أين تقع النوبة على الخريطة؟ بما يشكّل جزءً من مصر. كما حدد حجاج أدول حجّته حول موضوع قهوة البرابرة من حيث حقوق المواطنة كذلك اضطربت زينة من زميلاتها اللاتي لا يعرفن بأنهن جميعاً مواطنات مصريات .
مسخ الحقيقة: ليس إفريقياً .. بل نوبياً
ربما يشترك النوبيون –أيضاً- في التقييم السلبي لكل حاملي البشرة القاتمة عامة بين المصريين ، فأثناء الاحتفال النصف شهري بجماعة الفوديكا شاهدت في تلك السنة الروائي يحي مختار الذي أهداني روايته الصادرة أخيراً "جبال الكُحل" 2001 ، وقد اخبرني عن الحافز الذى دفعه لكتابة هذه الرواية، وغيرها من النصوص وثيق الصلة بالارتحال وحياة الأجداد النوبيين على مقربة من سد أسوان وذلك من أجل مستقبل الأجيال التالية عليهم جيل بعد جيل، لكن مُقام النوبيين الكبار لم يعد له وجود. رواية مختار"جبال الكُحل" تنتقد تصرّف الحكومة تجاه انتقال النوبيين من قراهم متضمنة الصورة المتخيلة للروائي حيث تجسد رؤية النوبيين في الصحف الرسمية، تصور الرواية الترحال من خلال شخصية المدرس النبوي"على محمود" عبر المفكرة التى يدون فيها فترة تعليمه في القاهرة وقبلها سنوات المرحلة الثانوية التى قضاها في المدرسة الحكومية "عنيبة" في النوبة القديمة. أعطاه عمه كُتيب يدعو الى الانتقال من منطقة الإقامة في النوبة ، وقد نُشر قبل الرحيل منذ أكتوبر 1963 حتى يونيو 1964 بوزارة الشؤون الاجتماعية المصرية ضم غلاف الكتاب صورة لثلاثة وجوه لرجل وامرأة وطفل صُوّرت من الجنب (بروفيل) وهم يرتدون الملابس النوبية كرؤية رمزية للواقع الاشتراكى الحديث، أصدرت إدارة العلاقات العامة بوزارة الشؤون الاجتماعية الكُتيب الذى الكتسى بثلاثة ألوان الأسود والأسمر والأخضر الذى يحمل رمز الصقر والاتنحاد الاشتراكي، كُتب العنوان بنمط الأحرف الكبيرة:
(آن الأوان للذهاب الى النوبة الجديدة)
قرأت:"حان وقت العمل الثورى" تحت العنوان كانت صورة رجل وامرأة وابنهما رمزاً للأسرة النوبية ، ثلاثتهم كانوا يبتسمون، لكن وجوههم لم تكن نوبية ، بل كانت قسماتهم إفريقية مثل الزنوج تماماً، شفاة سميكة جدا وأنوف مُسطّحة، بقية الغلاف كان عبارة عن أشكال لمجموعة من البيوت النوبية الفقيرة الموجودة في كوم أمبو. جمعت الصورة مثال للقرية النوبية الجديدة التى تضم المدرسة-المصنع-المسجد،المستشفى ويطوّق كل ذلك حقل أخضر.(مختار 2001 ص 65 ) صدر الكتيب الحكومي لتعبئة النوبيين معنوياً للتطلع إلى الحياة الفارهة عبر الانتقال ضمن إطار اجتماعي للرحيل طبقاً لمحددات ثورة جمال عبد الناصر الجديدة، انتقد يحي مختار الوجوه الثلاثة على غلاف الكتاب دلالة على الإنسان الزنجي أو معالم الأفارقة السود (شفاة عريضة-أنوف واسعة-لون البشرة الأسود) بما يُفهم بأنهم نوبيون بينما هم ليسوا كذلك. طبقاً لرؤية مختار تمثل هذه الصور قدر من جهل السلطات الحكومية المصرية التى أصدرت ومن ثم نفذت النقل الذي يعتبر النوبيين أفارقة بدائيين ، وبذلك يكونوا غرباء اجتماعيا وغير مصريين بطريقة ما. في غرب أسوان حدث مع أسرة أخرى عندما كانت نورا أولى الحفيدات تبلغ من العمر ستة أشهر سمعت نشيجها "الطفلة الرضيعة سوداء" تؤكد ذلك كلمات امرأة كانت في منزل نورا في ذلك الوقت .. أشارت "حسناً.. ماذا نتوقع" تنظر الى أبويها ثم تعاود النظر الى نورا الابنة ذات البشرة الأكثر سوادً ، وكذلك الى صهرها . تقدير نورا كونها الحفيدة الحبيبة أولاً أما التقييم السلبي للون بشرتها الأسمر جدا الذى يطلق عليه(الأسود)بدلاً من الأسمر وذلك كنوع من التقليل الجوهري لجاذبية اللون للمرأة أكثر من الرجل ، مما يُعرّض البنت لمصير يعتبر فرص زواجها غير إيجابية ، مما يُلزم بشعور بالرثاء لنورا. حدث أيضا في المتحف النوبي أن اعترضت امرأة من غرب أسوان على التجسيد غير الدقيق للنوبيين على أنهم "زنوج" او "أفارقة" . تحددت القرية التى تقع عرض النيل بالقرب من محطة القطار في مدينة أسوان فوق كل السدود ، لذا لم يتم نقلها سالفاً مع من انتقلت من القرى، ولم أقابل امرأة في غرب أسوان تعرف يحيى مختار أو يمكن للقلائل منهن ان يجدن القدرة او الوقت لقراءة روايته، هذا إذا عرفن كيف يقرأن؟ لكن الكل سمع عن متحف النوبة الذى بُنى فوق الهضبة كجزيرة عبر النيل في أسوان وكذلك زاروه. بنى المتحف بالتعاون بين الوينسكون والمجلس الأعلى المصري للآثار منذ عشر سنوات حيث تم افتتاحه أخر عام 1997في المتحف المصري تستقر آثار كثيرة من النوبة كما يظهر الوصف الاثنوجرافي للحياة النوبية القديمة، كتجمع النوبيين الذى يضم الأعضاء في جمعية التراث النوبي بالقاهرة، مما شكّل قدراً من الاستشارة للمسؤولين في الحكومة عند التخطيط لظهور المتحف الاثنولوجي. قال أحد أعضاء جمعية التراث النوبي في مقابلة لى معه في 2001 "نحن مجرد متراس، لا تصدقي ما يُقال" بما يُظهر إحباطه واشمئزازه مما حدث من الدولة واليونسكو. أكثر النساء المتزوجات التى تعرفت بهن كن ربات منازل لم يشتغلن خارج المنزل، مثل نورا وابنة عمها زوبة اللتين استضافتا مجموعة كبيرة من السائحين لزيارة القرية كجزء مستقطع من يوم الرحلة لأسوان. أثناء زيارة منطقة غرب أسوان عام 1998 بعد افتتاح المتحف ، شهدت إحدى النساء شَجب زوبة للعرض الاثنوجرافي لوضع إحدى النسوة العجائز قائلة:" إن النساء النوبيات كبيرات السن كن أجمل من تلك المعروضات". كما قالت بان القائمون على المتحف يصممون التماثيل أكثر سواداً وقبحاً لأنهم يعتقدون أن النوبيين سود الى جانب ترافق ذلك مع القبح، نماذج تماثيل الشمع المعروضة استندت على صور النوبيين العامة في أسوان لكن صناعتها تمت في شركة في إنجلترا. ثم تمت كسوتها بوساطة المسؤولين عن المتحف. هذه المرأة وأخريات ممن يعشن في أسوان أو غربها حضرن لمشاهدة 21 مليون من التحف لتركيز الرؤية الفعلية الجديدة لتاريخ النوبة وثقافتها . الذى غاب إثر استفحال الكثافة السكانية في مصر. عامة، اعتبروا تصوير النوبيين بدرجة سواد أشد للبشرة إهانة وهو ما يعزز التصورات المصرية حول أن النوبيين أفارقة وليسوا مصريين، بينما بعض النساء في غرب أسوان انتقدن ظهور العارضات فى المتحف لمجموعة (سيرينا) من النساء الشابات النوبيات. زرن المتحف وأعجبن كثيراً بالطفرة الحضارية التى انتجها البحث الحفري منذ ما قبل التاريخ حتى العصر المسيحي المبكر. كما قدّروا التوازي بين تاريخ مصر الفرعونية بما يُحدثه من ألفة مع الزوار الذين لا يحملون سوى الكتب التعليمية النظرية . وتاريخ النوبة الذى تجسده العصور القديمة. بعد عيد الأضحى أثناء زيارة للمتحف في مارس 2001 كانت بعض العائلات قد أتت من قرية نوبية فى منطقة "كلابشة" وظهر أن الإفادة من المتحف إنه يعرفنا بالتاريخ الاجتماعي الذي يحدد موقع النوبة من الناحية التاريخية ضمن نطاق التاريخ المصري الذي يساعد على تمييز النوبيين عن الأفارقة". إحدى النساء الشابات قالت:"بعض الناس باستثناء من ينتسبون الى أسوان.. أولئك من غير النوبيين عامة ، بينما بقية المصريين يتعاملون معنا كأننا من إفريقيا، ولسنا مصريين مثلهم، شعروا بأن المتحف قد يُعرّف بالنوبيين على أنهم من أصول مصرية، وتلك الحضارة قد بدأت من هنا، من الحضارة النوبية". قدّرت هؤلاء البنات مزاعم المتحف بأن النوبيين حالياً ودائماً كانوا مصريين بما يحقق بقوة التصورات السلبية بأن النوبيين أفارقة غير متحضرين بهذا المعنى منح المتحف الهوية المتساوية للمصريين والنوبيين في مواجهة المزاعم الإفريقية عامة. ولمزيد من التعريف بالقياس الاجتماعي لعدم التمدن النوبي تتصل صفة "الخادم" أو "البربري" بالمهن التى شغلها أباء النوبيين وأجدادهم بدلاً من نظر المجتمع الى إنجاز الذى حققه خلفاءهم، كما أن التصورات التى قرّت في الذاكرة الاجتماعية عنهم أنهم في الماضي كانوا في منزلة أدنى، لكن آخرون يؤكدون أن كل شخص يذكر كلمة "بربري" بشكل غير متعمّد حتى لا تكون إحالة عليهم. في ربيع 2002 زارت زينة وأمها وشقيقتها القاهرة من أجل المتابعة الطبية، حاولت إقناع الأم بقبول دعوتي لهن لأن يبقين في ضيافتي بدلا من الفندق ، بينما شددت الأم على رفضها وتمسكت به ، ثم شكرتني كثيراً ثم قالت:" أنا عنيدة، امرأة بربرية، لا يمكن إثنائي عن رأيي" مستخدمة تعبير "معقدة" إشارة الى نفسها. كلام عائلتي كل من زينة ونورا في غرب أسوان، والسيد علي ويحيي مختار وحجاج أدول في القاهرة وكل التجارب المعقدة التي تخلط بين لون البشرة القاتم والانتقال الاجتماعي والمكاني من إفريقيا إلى مصر ومن قرى الجنوب إلى مدن الشمال يجابهه تكرار التأكيد على عكس ذلك. على الرغم من تفحّصي للنقاش حول وسائل الإعلام التي لا تعتبر أن لون البشرة ليس وحده فحسب مُقيماً للجمال ذلك من ناحية الفتنة والانجذاب تجاه شخص أسمر(فيرينا ورشدي 1991-200) كان اللون أيضاً مصدر أساسي كعلامة على طبقة النوبيين الحالية والسالفة والمفترضة، وكذلك كان مصدراً لشغل الأعمال الخدمية . أحياناً يمكن أن يحدد الأصول الإفريقية للشخص سابقاً أو حالياً سواء كان من أهل العبيد السود على مدار التاريخ أم كان من الصحراء الكُبرى الإفريقية المعاصرة وليست أصوله من مصر أو من وادي النيل. إن الخلط بين اللون والعبودية والسُلالة الإفريقية المفترضة تضع –في كفة واحدة- الكُنية النوبية والآخرين, كما تتم المناقشات والخبرات بشكل مختلف حول تلك العائلات اللاتي هاجرت من النوبة إلى القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين . آنذاك لم تكن لترتحل تلك القرى أبداً، والأجيال النوبية المتحضرة الصغيرة التي نشأت في المدن ربما لم تكن لتعرف النوبيين الأول أو اللغة النوبية.
الهوامش [1] أستاذ دراسات الانثربولوجيا والسوسيوثقافية بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة. [2] ذكر لى الكاتب حجاج أدول أن اسم الرجل النوبي المُعمِّر الذى جمعهم للصلح هو محمد سليمان جد كاب وهو من أهم الحاملين للتراث النوبي والمحافظين عليه. (المترجمة) [3] الروائيون النوبيون كانوا حجاج أدول وإدريس علي ويحي مختار وخليل كلفت كما ذكر حجاج أدول في مقاله الذي رد به على خيري شلبي. (المترجمة) [4] نُشر رد الروائى النوبي حجاج أدول في مقال تحت عنوان رسالة حب الى الأديب الكبير"خيري آشري.. ماس-كاجنا" باللغة النوبية بمعنى "خيري الجميل..لعلك بخير" في جريدة الأسبوع العدد 249 في 26 نوفمبر. (المترجمة) [5] استخدم مصطلح"اثنوجرافيا" أو البحث الميداني في فرنسا حتى الحرب العالمية الثانية إشارة الى واحد من العلوم الإنسانية الذى يميل-حصريا- الى دراسة المجتمعات البدائية، وعلى الانثربولوجيا مهمة إجراء التحليل المقارن للمجتمعات والثقافات. للمزيد راجع معجم الاثنولوجيا والانثربولوجيا-المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر-بيروت-ط1-2006-ص24. (المترجمة) [6] Gender بمعنى جنس والجذر الثلاثي لفعل جَنس له دلالات متنوعة ويُشتق منه عدد من المعاني التى استقرت دلالاتها التى ترتبط بمفاهيم عرقية (كألاجناس البشرية) ومنطقية كالجنس الأعم من النوع، وغريزية كالجنس الشبق، وبلاغ