ديسمبر 2007 قدمت لنا حلقات مسلسل “الملك فاروق” فرصة اعادة النظر فى ملك مصر والسودان السابق وفترة حكمه، وآثار المسلسل مناقشات واسعة وآراء وعواطف متضاربة اذ اعاد الى بعض المخضرمين الذين عايشوا فترة حكم الملك لواعج الحنين الى عصر مضى وطفولة بريئة متوارية. والغريب ان بعض المعلقين المندفعين وراء اهواء سياسة ومصالحية حاولوا تفسير اقبال الجماهير بشدة على مشاهدة المسلسل بأنه اثبات لحب الناس للملك السابق وعهده. وهذا خلط مضحك حقا، فهل معنى اقبال الناس العريض على فيلم العراب (الجود فاذر) مثلا يعنى ان الناس غارقون فى حب المافيا؟ كما نجح بشكل مماثل مسلسل تلفزيونى امريكى مؤخراً بعنوان “السوبرانو” وهى ايضا عائلة من المافيا، ولم يقل احد من المعلقين هنا ان هذا يعنى تعاطف الناس مع المافيا. فقط فى مصر يمكن ان نجد من يقول لنا ان الاقبال على مشاهدة مسلسل الملك فاروق يعنى حب الناس للملك والملكية!
وقد تابعت شخصيا هذا المسلسل بشغف واهتمام اولا لأن موضوعه التاريخى يهمنى كثيراً لانه تاريخ مصر وتاريخ المصريين، اى تاريخ اهلى واجدادى وتاريخى الشخصى. وثانيا لان المسلسل كان عملا فنيا باهرا قدم لنا جماليات الاخراج والتمثيل والتصوير والازياء والديكور والموسيقى التصويريه فى اعلى مستوياتها. بحيث جاء المسلسل وكأنه فيلم سينمائى رفيع المستوى وليس مسلسلا تليفزيونيا.
ومادام قد منحنا المسلسل فرصة التحديق عن قرب فى شخصية الملك فاروق والمحيطين به داخل قصوره وكذلك فى الشخصيات السياسة الفاعلة فى عصره وفى المشهد السياسى المصرى بأكمله فى تلك الفترة فلنتأمل اذن مجددا فى حقائق تلك الايام المثيرة محاولين اعادة فهم ذلك التاريخ المصرى القريب مستخلصين دروسه لترشيد الحاضر واستشراف المستقبل على ضوئه.
من المهم اولا التنويه بأن هذا العمل الفنى المميز اعتمد على نص الكاتبة الباحثة د. لميس جابر وهى ليست غريبة عن الوسط الفنى اذ ان زوجها هو الممثل المبدع يحى الفخرانى الذى كتبت له قصة الملك فاروق اولا فى عام 1990 ليقوم هو بدور الملك ولكن لم يتحمس التلفزيون المصرى وقتها للعمل بسبب خوف ذلك التلفزيون من خياله واحترامه للبيروقراطية المفرطة وليس لحق المشاهدين عليه. وقالت د. لميس جبر انها قرأت كا ماكتب عن الملك فاروق قبل كتابتها للنص، ومن ناحية اخرى قام المؤرخ المصرى المميز الدكتور يونان لبيب رزق بالمراجعة التاريخية الكاملة للنص لضمان تطابق احداثه واحيانا كلماته المستعملة مع الوقائع التاريخية المعروفة والموثقة. وعلى هذا فيمكننا ان نثق بدرجة كبيرة فى مصداقية ماشاهدناه.
فاروق الإنسان
تؤثر الجوانب الشخصية الانسانية على الفرد سواء كان اميرا ام غفيرا ولذلك فمن المفيد فهم هذه الجوانب فيما يتعلق بالملك فاروق واسرته اذ كان لها اثر كبير على مزاجه وسلوكه بما فى ذلك بالطبع السلوك العام كملك للبلاد. ولد فاروق فى 11 فبراير 1920 بالقاهرة وتوفى فى 18 مارس 1965 بروما وهو من اصل البانى اذ هو حفيد حفيد محمد على باشا. فهو الملك فاروق بن الملك فؤاد الأول بن الخديوي إسماعيل بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا. والده هو الملك فؤاد الاول ووالدته هى الملكة نازلى. ورث الملك عن ابيه فى 28 ابريل 1936 وتوج رسميا فى 29 يوليو 1937. فى عام 38 تزوج من صافيناز ذو الفقار التى سميت فريدة وانجبت له ثلاثة بنات وطلقها عام 48 بعد علاقة زوجية عاصفة كانت تموج بالنزاعات والتقلبات. وفى عام 51 تزوج من ناريمان صادق وكانت فى السادسة عشر من عمرها ومخطوبة لشاب اخر وانجبت الامير احمد فؤاد فى 16 يناير 1952 وهو نفس شهر حريق القاهرة الشهير. اجبرته حركة الضباط الاحرار على التنازل عن العرش لإبنه ومغادرة مصر فى 26 يوليو 1952 آخذا معه على الياخت المحروسه بعض ذهبه ومجوهرات عائلته بعد ان ودع بتحية عسكرية كاملة بعد ان تغلب عبد الناصر ومحمد نجيب على بعض الضباط الذين كانوا يريدون محاكمة وقتل الملك وبذلك استحقت الحركة صفة الثورة البيضاء مقارنة بثورات اخرى سابقة ولاحقة قامت بقطع رؤوس الملوك كالثورة الفرنسية او سحلهم فى الشوراع كالثورة العراقية.
استقر الملك فاروق فى ايطاليا فى فيلا خاصة وكان له ايضا منتجع فى سويسرا وعاش يمارس هوايته المفضلة –لعب القمار- والعلاقات النسائية والافراط فى الطعام حتى مات على اثر تناوله لوجبة دسمة كالعادة وذلك فى 18 مارس 1965 وهو الآن مدفون فى مسجد الرفاعى بالقاهرة حسب رغبته.
هل قتلوه بالسم؟
بعد موت فاروق ظهرت شائعات بأنه مات مسموما وسميت الشائعات رجلا بعينه من رجال المخابرات المصرية ولم يصل التحقيق الى اثبات هذا وبالطبع لاتقوم اية مخابرات فى العالم بالاعتراف بما تفعل ولكن السؤال الاساسى هنا هو: ماالدافع لهذه الجريمة ان كانت قد وقعت؟ وما مصلحة المخابرات المصرية والنظام المصرى فى قتل فاروق فى ذلك الوقت؟ لقد كان الاولى هو القيام بقتله فى الخمسينات حيث ربما كان مازال له بعض المؤيدين والاتباع فى مصر وحين كان النظام الناصرى فى مطلع عهده لم يثبت بعد. ولكن فى منتصف الستينات!؟ لقد كان عبد الناصر فى ذروة شعبيته وقوته ومكانته الداخلية والعربية والعالمية فى تلك الفترة وكان هو القائد العربى الاول بلا نزاع فما الذى يجعله او يجعل احد غيره فى النظام المصرى يفكر فى ارتكاب عمل لامعنى له مثل اغتيال الملك السابق بما قد يفتح على النظام المصرى رياحا عالمية معادية وفضيحة هو فى غنى كامل عنها؟ لماذا القيام بمشقة اغتيال رجل كان قد مات فعلا موتا تاريخيا ومعنويا فى ذاكرة وضمير الشعب المصرى؟ لقد كنت فى مصر فى تلك الفترة – فترة الستينات الزاهية باناشيد الامانى الواعدة الجديدة ومشاعر التحرير السياسى والاجتماعى والفورة الفنية فى كافة مجالات الابداع من فنون ومسرح وموسيقى وشعر ورقص وسينما وتلفزيون ورواية وادب، لقد كانت مصر فى حالة مذهلة من النشوة النفسية التى كانت بعض جوانبها غير مبررة ولكن الكثير من جوانبها الاخرى حقيقى وقائم ولم يكن احد وقتها يفكر فى فاروق او يتكلم عنه او يخطر على باله. هذه الشائعة اذن هى خاطرة بلا معنى ولامنطق ولا مصداقية على الاطلاق .
حياته الخاصة
نجح مسلسل “الملك فاروق” فى تجسيد الحياة الخاصة والعائلية للملك وامه واخواته البنات وزوجته فريدة وحاشيته المحيطة به. وقدم لنا المسلسل بالتفصيل صورة انسانية دقيقة للعالم المبهرج المزين الملون من الخارج الممزق المفسخ الحزين من الداخل الذى كانت تعيشه العائلة المالكة. فقد كانت علاقة الملك بأمه نازلى علاقة مأساوية تماما بسبب اسلوبها النزق وعلاقاتها الغرامية التى كانت تحرج الملك فاروق حرجا هائلا. فأمه على علاقة مفضوحة مع رئيس ديوانه الملكى الذى هو بدوره –بعد تطليقه لزوجته- على علاقة بنساء اخريات لايخفى ولعه بهن اى ان هذا العشيق لوالدة الملك لا يحترم حتى علاقته الشائنة بها والملك يرى هذا يحدث فى داخل قصره وامام عينيه. والملك هو الاخر له مغامراته مع الجميلات فى كل حفل يقيمه مما يثير حفيظة زوجته فتزداد علاقتها به توترا وهو الذى يلومها دائما لعدم انجابها ولى العهد له. ويختنق الملك داخل قصر ملئ بالعلاقات السرية والفضائح العلنية والدسائس السياسية بين رجال الحاشية ورجال النفوذ فى الحكومة والمجتمع فيهرب الى البارات يسهر حتى الصباح يلعب القمار ويعاقر النساء وليس الخمر اذ لم يكن يشربها ويحيط نفسه بحثالة من خدم القصر من الايطاليين ومنهم المصاحب لكلبه فيصبح هؤلاء هم صحبته ورفاقه وتذيع سيرته بين الشعب الذى احبه فى بداية عهده حين كان شابا صغيرا واعدا لكنه اضاع رصيده لدى الشعب بعد استمراره فى التصرفات الطائشة.
وحتى حينما اراد الزواج للمرة الثانية يصر على الزواج من فتاة مخطوبة لغيره ويسمع الشعب ذلك كما يسمع فضائح امه داخل مصر وخارجها فى زياراتها التى تنغمس فيها فى علاقات تذاع سيرتها. وتصل علاقته بأمه الى قمة مأساويتها عندما تسافر مع بناتها الى الولايات المتحدة ومعها مجوهرات تقدر بثلاثة ملايين دولار وهو مبلغ هائل فى ذلك الزمان وتتعرف على مصرى موتور هو رياض غالى (افندى!) فتزوجه من ابنتها الاميرة فتحية رغم انه مسيحى وقيل انه قد اعتنق الاسلام. ويصدر الملك فاروق امرا ملكيا بالحجر على والدته الملكة نازلى وتعيين “قيم” عليها ولاتبالى نازلى بهذا وتضيع ثروتها على ايدى الطامعين حولها مع بذخها الشديد. وكانت الملكة نازلى قد ارتدت عن الاسلام وتحولت الى المسيحيه الكاثوليكية هى وابنتاها فتحية وفايزة وبعد الزواج من رياض غالى كان يسئ معاملة زوجته ويضربها ويضرب والدتها واختها لتدخلهما دفاعا عنها حتى انتهى الامر به بقتل زوجته الاميرة فتحية بخمس رصاصات. وسارت الملكة نازلى فى جنازة ابنتها تتوكأ على عصا.
كل هذه الاحداث المأساوية رغم فداحتها وغرابتها التى تفوق الافلام المصرية قد لاتعنينا كثيرا لولا انها كانت تؤثر على نفسية الملك فاروق وسلوكه. وكم كان الملك يضطر الى ان يسأل الوزراء والمسئولين المصريين مثل مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء التدخل لبذل الجهد فى حل مشكلات اسرته المعقدة ومحاولات التأثير على والدته قبل وبعد خروجها من مصر. ولك ان تتخيل رجلا مثل النحاس يترك شئون ادارة البلاد ليصرف وقته فى حل المشكلات التى تخلقها والدة الملك بالاضافة الى المشاكل والفضائح التى يصنعها الملك فاروق نفسه فى حملاته الصيفية المطولة التى يغزو فيها اسواق باريس وروما هو واخواته الاميرات فتمتلأ صحف اوروبا كل صيف بصورهم وصور مواكبهم الملكية مع مغامرات الملك النسائية فتصرف السفارات المصرية بالخارج وقتها فى محاولات التخفيف من وقع هذه الفضائح.
مع مثل هذا السجل البائس والذى قدم لنا المسلسل بعضه –وليس كله- بالتفصيل استغرب كثيرا من الذين اتهموا المسلسل بمحاولة “تلميع” الملك فاروق! فأى لمعان هذا الذى رآوه فى الرجل وفى سلوكه وفى اعماله؟ واستغرب من الذين يتوهمون ان اقبال الناس على المسلسل يدل على هيامهم “بمليكهم الحبيب” الذى كان يخاطب المصريين قائلا: “شعبى العزيز”! فالرجل لم يكن يرى فى مصر سوى عرشه وكان الامر كله لديه هو استقرار العرش واستمرار السلطة.
فاروق الملك
تأثر دورفاروق الملك اذن بفاروق الإنسان وشخصيته السطحية التى كانت تفضل مصاحبة حاشية من الخدم الايطاليين والهوانم الجميلات عن مصاحبة شخصيات مصرية بارزة قد لايملك الملك منافستها فى العلم والثقافة والادب والسياسة والاتزان. والواقع انك اذا نظرت الى فترة حكمه كلها –وهى ستة عشر عاما (تساوى فترة حكم عبد الناصر من 1954 الى 1970) فلا تكاد ان تعثر للملك فاروق على انجاز واحد يحسب له. لقد كان يملك آلاف الفدادين من الاراضى وعشرات القصور ومئات السيارات ولكنه لم يكن يملك اية رؤية لبلده مصر ولاحتى لنفسه كملك لمصر. ولم نسمعه طوال حلقات المسلسل يتحدث بحماس عن اى مشروع يريد ان يقيمه للمصريين. سمعناه الى حد الملل يتحدث عن امه وزوجته واخواته وعن خصومه فى الوفد وعن حاشيته من الطليان ولكن حديثه عن المصريين لم يأت الا فى حديثه عن “شعبى الذى يحبنى”. وكان فى منافسة شديدة مع الوفد لاكتساب شعبية وولاء الجماهير دون ان يقدم لهم شيئا وكان كل مايملك تقديمه هو ميداليات وقلائد ينعم بها على البعض والقاب الباكوية والباشوية يعرضها للبيع للبعض الآخر فى مقابل عشرة آلاف جنيه!
وقد قيل الكثير عن ان الملك كان وطنيا ولم يكن خائنا لمصر والحقيقة اننى لم اسمع من يتهم الملك بالخيانة لمصر وانما كانت التهمة والصفة الملتصقة به من ابواق الثورة هى تهمة الفساد. ويقول لنا البعض ان دور الملك خلال الحرب العالمية الثانية كان دورا وطنيا لانه اتصل بالالمان اعداء الانجليز المستعمرين. وصحيح انه اتصل بالالمان ولكن كان هذا طبيعيا من رجل يريد تأمين عرشه وتجنيب القاهرة والاسكندرية الغارات والدمار. كان موقفه خطرا ولذلك كان من الذكاء ان يبقى اتصالاته بالالمان سراً. ولكنه لم يكن حكيما ولابعيد النظر فقد سقط الألمان وبقى الانجليز على صدر البلاد. والمدهش ان طوال عهده لم تكن لديه القدرة ولا الرغبة فى اتخاذ موقف وطنى حقيقى ضد الانجليز يطالبهم بالجلاء ولم يكن يجوب الارض عارضا قضية بلاده محاولا اكتساب الضمير العالمى الى جانبه كما فعل غاندى الذى انتزع من نفس الانجليز إستقلال الهند. انك لاتجد لدى فاروق اى دور وطنى حقيقى بل على العكس تجد صبيانية وطيشا وغيابا للإحساس بالمسئولية وبالتاريخ وبالوطن هذا بينما حصل الضباط الاحرار على استقلال مصر من الانجليز بعد ثلاث سنوات فقط من الثورة!
اما دور الملك السياسى داخل مصر فهو دور مؤسف فبعد توليه العرش حاول ان يحكم حكما ثيوقراطيا كخليفة للمسلمين وأقال حكومة الوفد ورئيسها مصطفى النحاس عام 1937 فهو لايريد حكومة شعبية تحكم باسم الشعب ولكنه اراد وحاول دائما ان يختار رؤساء وزراء من شخصيات ضعيفة غير مسنودة شعبيا لكى تصبح “وزارات قصر” تضطر الى الاستناد على تأييد القصر وحده وتخضع لرغباته واهوائه ولذلك لم تأت فى عهده اية حكومة قوية فعالة سوى حكومة الوفد التى كان دائما يناصبها العداء حتى يقيلها. فلم يكن عهده ديمقراطيا سوى على الورق وفى الدستور وفى مسرحية الأحزاب المتناحرة التى كانت تصرف جل جهدها فى منافسة الأحزاب الاخرى للصعود الى الحكم ثم لاتفعل شيئا بعد ذلك.
وقد وصل الامر انه مع الحرب العاليمه الثانية واستمرار الملك والأحزاب المتناحرة فى لعبة الكراسى الموسيقية ومع رغبة الانجليز فى تأمين جبهة مصر الداخلية امام خطر هتلر الذى يجتاح العالم ان اضطر الانجليز الى محاصرة القصر بالدبابات وفرض النحاس بالقوة كرئيس للوزراء وهو موقف كان صعبا على الجميع بمن فيهم النحاس نفسه الذى لم يكن سعيدا بأن يأتى للحكم على ظهر الدبابات الانجليزية وهو الرجل الذى ناضل مع سعد زغلول من اجل الاستقلال ولكنها رعونة الملك ودكتاتوريته التى وضعت البلاد فى هذا المأزق وكانت هذه هى واقعة 4 فبراير 1942 الشهيرة. وحكم الوفد طوال فترة الحرب حتى اقاله الملك مرة اخرى عام 1944 واراد الملك ان يقوم بمحاكمة النحاس وسجنه لولا تدخل تشرشل شخصيا.
وراح الملك يحكم بعد ذلك باحزاب الاقلية من السعديين احمد ماهر باشا حتى اغتيل ثم محمود فهمى النقراشى باشا ثم اسماعيل صدقى باشا ثم النقراشى مرة اخرى حتى اغتيل هو الآخر -ثم ابراهيم عبد الهادى باشا حتى طرد . وهكذا رأينا خمسة وزارات بين عامى 44 و 49 اى وزارة كل عام! واسس الملك الحرس الحديدي لاغتيال خصومه. فكيف ينتظر احد من وضع كهذا ان يقوم بأى انجازات لمصر وللمصريين؟
كانت هذه هى الديمقراطية الورقية التى يلعب فيها الملك مع الباشوات لعبة الكراسى الموسيقية بينما كان الريف المصرى فى الصعيد وفى الوجه البحرى يعانى من الجهل والتجاهل والظلام والامراض بما فيها وباء الكوليرا بل وفى بعض الاحيان يعانى من الجوع اذ كانت تعانى بعض الوزارات من مشكلة تأمين الخبز للشعب المصرى ولم يكن يصل عدده سوى حوالى خمسة عشر مليونا فى ذلك الوقت. بل استمر صراع زعماء الاحزاب وانقسامات الوفد وتناحر “زعماء الامة” بينما كان “رومل” على حدود مصر.
انقسام الوفد
من مآسى ذلك العهد ايضا مما كان للملك دور كبير فيه ذلك الانقسام الفادح فى قيادات الوفد التاريخية بين زعيمه مصطفى النحاس –زعيم الأمة- وسكرتير الوفد مكرم عبيد الملقب بالمجاهد الكبير بعد ان ظل القصر يدبر لاحداث الوقيعة عدة سنوات. وقام مكرم عبيد بالخروج من الوفد ومعه عدد من مناصريه ونشر ماعرف بالكتاب الاسود الذى سجل فيه ماقال انها تجاوزات النحاس وزوجته زينب هانم وخروجهم على السلطات الدستورية ولجوئهم للاستثناءات للانتفاع الشخصى. وكان هذا الكتاب اسود بالفعل على مستقبل الوفد الذى لم يعد بعدها الى سابق قوته ومكانته على الاطلاق حتى اليوم. وقد تعاطف المسلسل مع النحاس وصور مكرم عبيد فى صورة الحاقد المتحامل الناكر للجميل والحقيقة اننى لم اقرأ الكتاب الاسود ولا اعرف ان كان متوافرا للقراءة اليوم.
ولست هنا فى مجال الانتصاف لواحد من الاثنين ضد الاخر فالثابت ان هذا كان شرخا كبيرا فى جسد الوفد بل يمكن القول انه كان بداية شرخ فى العلاقات بين عنصرى الامة – المسلمين والاقباط – راح يتسع ببطء اولا فى عهد السادات ثم يتسارع والى اليوم. اذ لم يتمكن احد من الاقباط من الحصول على مكانة مثل مكانة مكرم عبيد بعد ذلك فى الوجدان المصرى وفى الحركة الوطنية المصرية بل بدأ عهد من الانحسار البطئ والخطير لدور الاقباط فى الحياة السياسية المصرية على مدى نصف القرن التالى مع استثناءات نادرة منها نجاح والدى القمص بولس باسيلى فى انتخابات مجلس الشعب المصرى ودخوله كنائب عن منطقة شبرا فى مطلع عهد السادات قبل تحول المجتمع الى مجتمع دينى فى السنوات التالية بتوجيه من الرئيس “المؤمن” .
الملفت للنظر ان النحاس باشا عندما رأس الوزارة تصرف بدكتاتورية غريبة وهو الرجل الذى كان يلهج بذكر الدستور طول الوقت فقد قام باعتقال على ماهر باشا وطرده الى منزل محاصر فيه فى مرسى مطروح ثم قام بالقبض على مكرم عبيد وحدد اقامته وكان يريد محاكمته لولا اعتراض الملك ونسأل : على اى اساس قام النحاس بالقبض على مكرم عبيد؟ وهل اصدار كتاب به موقف معين ضد النحاس حتى ولو كان موقفا خاطئا يبرر القيام بالقبض على “المجاهد الكبير”؟
كما رأينا زعيم الامة النحاس يقبل عدة مرات ان يقوم بدور الواسطة بين الملك وامه وبين الملك وزوجته الاولى ويقوم بالتدخل لفض مشكلات عائلية بحتة داخل العائلة المالكة بل ورأينا زعيم الامة ينتفض غضبا لدى سماعه ان مكرم عبيد قد سافر الى الصعيد ليكون مع المرضى المصابين بالوباء هناك فإذا به يصدر اوامره لمساعديه بالسفر فورا الى الصعيد حتى لايسرق منهم مكرم عبيد الصورة!
لقد كان الأمر كله منافسات ومناحرات وعداوات شخصية بحتة مؤسفة ومحزنة لأنها كانت صبيانية وغير مسئولة يقوم بها معظم اصحاب النفوذ “والرفعة” و “المقام الرفيع” “والسمو” “والعصمة” فى ذلك العهد المزدحم بالباشوات والباكوات والمظاهر والحفلات والمراسم والخطب والمهاترات.. ضجيج هائل بلا طحن ولاطحين فقد كان عامة المصريون محتلين ومجوعين يقاومون الانجليز بالروح والدم فى السويس والقاهرة بينما زعماء الامة فى صراع صبيانى فى اروقة الحكم والقصور.
فوضى ودماء
بعد هزيمة 48 وضياع فلسطين وعودة الجيش جريحا ومع تهافت الحكومات والمسئولين والباشوات والباهوات من ناحية، وضلوع الملك فى مواقفه الدكتاتورية وتصرفاته الفضائحية من ناحية ثانية واستمرار الانجليز فى استعمارهم ونهبهم للبلاد من ناحية ثالثة كان المخلصون من الشباب المصرى الوطنى الاصيل ينظمون انفسهم فى جماعات وحركات وتيارات لمقاومة الطغاة والغزاة معا. فانضم البعض الى جماعات الاخوان المسلمين التى نشطت وانتشرت وانضم آخرون الى حركات شيوعية وآخرون الى احزاب بلا فاعلية وبدأت اعمال العنف والاغتيال تجتاح البلاد وقام الاخوان باغتيال عدد من الشخصيات النافذة ومنها رئيس الوزراء النقراشى. وجرت محاولة لاغتيال النحاس نفسه. كما قام الاخوان فى عام 50 بحرق كنيسة فى السويس بمن فيها من المصلين الاقباط وكتب يومها الشاب نظير جيد وهو اليوم قداسة الانبا شنودة بابا الاقباط مقالا شديدا ضد هذا العنف الاجرامى. ثم وصل الامر ذروته فى حريق القاهرة فى يناير 1952.
كان هذا هو المشهد المأساوى البالغ لعهد الملك فاروق وهذه كلها وقائع تتحدث عن نفسها ولاتحتاج الى تعليق.
فقط اسأل: هل هذا هو العهد الذى يتوهم البعض ان المصريين يأسفون عليه ويحنون له؟! هل هذه هى الديمقراطية التى خدعوا انفسهم وخدعونا بها واقاموا لها المآتم التى لم يفضوها بعد؟! هل يمكن ان يكون الملك فاروق ومن ملئوا عصره بالزخارف الزائفة والالقاب المنتفخة “والعنطزة” الفارغة هم نماذج القيادات التى تطمح لها مصر وينتظرها المصريون ويستحقها هذا الشعب الجميل الأصيل الطيب؟
حفظ الله المحروسة من مرض الوهم وأوهام الواهمين.