الصفحة الأولى
في يوم من الأيام ، راح اكتب قصيدة ، عن السما، عن وردة على رأس نهد ، عن قطتي، عن الكمنجة الشريدة ، عن نخلتين فوق في العلالي السعيدة . عن عيش بيتـفتـفت في أوده بعيدة ، عن مروحة م الورق ، عن بنت فايرة من بنات الزنج ، عن السفنج ، عن العنب ، عن الهدوم الجديدة ، عن حدايات شبرا ، عن الشطرنج ، عن كوبري للمشنقة ، عن برطمان اقراص منومة ، عن مهر واثب من على سور حديد وف بطنه داخلة الحديدة ، عن طفل بقميص نوم ، عن قوس قزح بعد الصلا في العيد ، عن طرطشات البحر ... ح اكتب يوم ، ح اكتب قصيدة ، ح اكتبها ، وان ما كتبتهاش أنا حر... الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة .
صلاح جاهين
-------
الشاويش أشموني عند اصطدام أول كرسي فوتيه بالأسفلت ، كان الشاويش أشموني محاصرا فوق جزيرة الكورنيش بين نهري الطريق الفائرين في تدفقهما إلى المعادى ذهابا ومصر العتيقة إيابا ، يزيح العرق عن عينيه بطرف كمِّه الميري ، ليضيف بقعة جديدة إلى قماش سترته الأبيض المهترئ ، فأخذته صدمة الانفجار المدوي على غِرَّة ، وقذف به الهلع مترين أو ثلاثة أمتار وسط مجرى الطريق الأقرب إلى النيل ، في مواجهة سيارة أجرة مسرعة ، نجح سائقها بتلقائية مُخدَّرة أن يفاديه ، ولكن على حساب فقدان سيطرته على الـ 128 ذات الفرامل السائبة التي تحررت إلى الأبد من تحكمات البشر الهستيرية ، وسلَّمت مصيرها إلى قوانين الديناميكا المُرَكَّبة ، فأطلقت عنان تفاعل متصاعد التهم في ثوان أوتوبيس نقل عام ، وحافلة تقل وردية من عمال الحديد والصلب ، وخمس سيارات ملَّاكي، وثلاث سيارات أجرة ، وتريسيكل ، وعربة يد محمَّلة بكومة من التِرمِس . وهكذا وجد الشاويش أشموني نفسه ـ دون مقدمات أو استعداد مسبق ـ في مركز المولد الصاخب الذي اندلع لحظيا ، وامتد بطبيعة الحال ليشمل الجانب الآخر من الطريق ، الملاصق للأبراج الفاخرة التي زرعت زرعا على ضفة النيل ، وهو الجانب الذي تهشم عليه الفوتيه الساقط أصلا . كان الحدث لحظيا استغرق ثوان معدودات لكن الشاويش شعر به ممتدا في الزمان والمكان ، حاور خلاله الأوتوبيس والملاكي والأجرة ، في قفزات متخبطة متتالية لتفادي الأجساد المعدنية المندفعة في كل اتجاه ، حتى تحققت له فجأة لحظة السكون التي ابتغاها ، لحظة أمان لم ينعم بمثلها منذ سنوات ، جزيرة من الهدوء والسكينة وسط محيط القاهرة العاتي المعتدي ، عندما وجد نفسه مستلقيا على ظهره فوق بقعة الحشيش الناحل التي تتوسط رصيف الكورنيش الملاصق للنيل . ولحظتها ، في الثالثة والربع بعد ظهيرة الثاني من أغسطس 1999 ، وهو راقد على الحشيش يلتقط أنفاسه ، ويستجمع فتات أحداث اللحظات الأخيرة ، متحسسا بأنامل حذرة صدره ورأسه العاري للاطمئنان على سلامته ، بدأت الأطباق والكؤوس والزهريات والشوَك والسكاكين تنهمر كالمطر ، فكوَّر جسده ولفَّ ذراعيه حول رأسه ، متأهبا للحظة ارتطام السيل المتساقط بجسده المتعب ، فلما فاتت عدة ثوان ولم ترشق الفأس في الرأس ، بدأ يفتح عينيه بحذر وينظر على حياء إلى أعلى ، حيث واجه الوسائد والمفارش في مياسة تهوي ، فطرح على نفسه سؤاله المؤجل. ماذا يحدث ؟ أتكون القيامة قامت ؟ أيكون الناس ازدادوا هوسا على هوسهم ؟ استجمع قواه واستعاد تماسكه ، فأخذ يتأمل الكتب في سقوطها والأوراق في طيرانها، ثم اعتدل في رقدته ورفع رأسه ساندا جسده على كوعيه ، وأخذ يلعن العيال العفاريت وأهاليهم الذين تصوروا أن المال يغنى عن التربية ، لكن السباب تجمد في حنجرته حين طلَّ طرف البيانو من إحدى الشرف العلوية. كسحابة غاضبة حجب سواد البيانو قرص الشمس ، بيانو أبهة ، قد شاهد الشاويش مثله في أفلام عبد الحليم وفريد الأطرش ، لكن من زاوية رؤيته الحالية غابت عن البيانو أي أوجه للشاعرية والطرب ، وبدا شبحا مخيفا يتسلل من الشرفة ، طافيا في الهواء تحمله في ثبات يد غير مرئية ، طرفه العريض ظهر أولا ثم أخذ يضيق في خط منحنٍ من أحد جوانبه إلى أن انتهى في شكل حافة البطاطا المشوية في طرفه الآخر ، وظل البيانو لبضع ثوان ـ بعد أن خرج بالكامل عن إطار الشرفة ـ معلقا في الهواء ، ثم هوى فجأة ، فقد تركته اليد الخفية وشأنه ، سلَّمته للجاذبية الأرضية التي لا تعمل لشيء حسابا ، فسقط كالقنبلة على طريق الكورنيش غير المدرك أو المتوقع . تابع الشاويش سقوط البيانو إلى الأرض كأنه يشاهد فيلما بالتصوير البطيء. فيلم ظل صامتا إلى أن استعاد الصوت لحظة ارتطام البيانو بسيارة مرسيدس متوقفة أسفل البرج ، قنبلة صوتية تلتها تأوهات موسيقية متصلة امتدت أصداؤها بضع دقائق ، مواد متباينة الكثافة تصطدم ويايات ترن ، آهات بيانو يحتضر ، ثم فاصل ممتد من الصمت ، سكون قلِق متأهب ، ولمَّا فاتت فترة بدت دهرا دون سقوط شيء جديد بدأت أصوات البشر تتوارد ، همس متقطع في البداية ، ثم نداءات نفَّاذة ، صيحات من تذكَّر فجأة ابنا غاب عن أنظاره أو زوجا تاه في الهرج ، ثم جاءت أبواق السيارات المحتجزة بعيدا عن موقع الأحداث ، كقصف مدفعي بعيد المدى ، معبرة عن ضيق مؤقت إزاء هذه العطلة غير المفهومة ، وغيظ أعمق لأنها تُركت مهملة خارج دائرة الضوء . بنظرة واحدة أدرك أشموني أن السيارة التي بطَّطها البيانو وعمل منها كفتة ، كانت سيارة شاكر باشا الجديدة ، مرسيدس " بودرة " لونها فضي لامع ، سيغضب اليوم ويقتنى أختها غدا ، هؤلاء أناس لديهم من الفلوس تلال ، يغرفون منها دون حساب ، على رأي الراقصة الشهيرة إن كومت فلوسها ووقفت عليها لشافت زيمبابوي . ثم وصل الملازم على الموتوسيكل الحكومي ذي الأجزاء النيكل اللامعة ، بعد عناء واضح في المروق من خلال الفجوات المتناثرة في الحائط المعدني البشرى المنيع ، الذي في لحظة غير متوقعة تشكل من عربات متراشقة وبشر في هلع يتخبطون ، راميا بنظراته اللائمة الجميع على حد سواء ، سائقين وركابا ، أوتوبيسات منقلبة على جوانبها ، وسيارات متصادمة بأعمدة النور وجذوع الشجر ، وحتى سيارة الأجرة الـ 128 التي اعتلت عربة الترمس فوق الرصيف المجاور للنيل لم تسلم من سباب عينيه الجامدتين . وجد الملازم الشاويش مهرولا ما بين بيانو مشوه فوق مرسيدس مهشمة ، وحطام كرسي فوتيه على الأسفلت ، في عجز وحيرة يتلفت حوله ، ويلمُّ من على الأرض كتبا ممزقة ووسائد تناثر الريش حولها ، بعد أن فقد كل اتصال بالواقع الذي ينتمي إليه حضرة الملازم . وكان جزء من توتر الشاويش قد زال باطمئنانه على نجاته سالما ، وبإدراكه من خلال النداءات المتبادلة بين سائقي الأوتوبيسات وسُيّاس الجراج أن معجزة إلهية قد وقعت، فلم يصب أحد من الناس بسوء ، قد أوقعت الواقعة الجميع وهم غير متأهبين في شراكها ، ثم تركتهم لحالهم كأن لا شيء حدث ، فلما وجد الملازم أمامه حيَّاه كأن حادث تصادم بسيطا وقع ، أو كأن شجارا مألوفا بين سائقين نشب ، فما لبث الملازم أن رفع الخوذة عن رأسه وأمسكها في يده ، وتلفت حوله غير مصدِّق ، ثم عاد بنظره إليه ، هامسا من تحت ضرسه: " يخرب بيتك يا أشموني ..." ¨¨¨
صاحب أشموني العسكري الذي أرسله حضرة الضابط لاستدعائه في صباح اليوم التالي ، أخذ في سرِّه يندب الحظ الذي كتب عليه أن يقضي أيام عمره بين السيارات المسعورة ، فوق أسفلت منصهر تغرس فيه الأحذية ، في عزِّ أغسطس لا تستره مظلة ولا يحميه غطاء ، مروِّض وحوش كاسرة لا عصا له ولا هيبة ، لا يفصله عنها سوى القضاء المؤجل ، ولا يربطه بها غير حتمية افتراسه بين لحظة وأخرى ، ومما يزيد الطين بلَّة هؤلاء الضباط الجبابرة الذين لا يرحمون ولا يتركون رحمة ربنا تنزل . سار الشاويش خلف العسكري بخطوتين أو ثلاث محاولا إخفاء ارتباكه ، عبر الرجلان الطريق من الجزيرة التي تمركز عليها الشاويش وسارا في تثاقل نحو مدخل البرج الفاره ، لا أثر بالمرة لأحداث الأمس على هذا الجانب من الطريق ، سيارة الباشا سحبها الونش قبل طلوع النهار ، أما بقايا البيانو والكراسي والأطباق والوسائد فقد كومت في هرم صغير على رصيف الكورنيش في انتظار أن تتولى الحكومة أمرها . اعترضت طريق الشاويش فجأة فتاة أجنبية صغيرة الحجم ذات شعر أسود حريري وعينين مسحوبتين ، مصوبة ميكروفون ضخما نحو وجهه ، رغم لغتها غير المفهومة لم يصعب على الشاويش تمييز انتمائها الياباني ، ولاحظ خلفها مصورا يحمل آلة تصوير على كتفه مصوبة أيضا في اتجاهه . بحركة تلقائية أزاح الشاويش الميكروفون جانبا ، ومضى في طريقه خلف العسكري مشيرا للفتاة برفع الكتفين ومط البوز أنه لا يفهم ماذا تقول ، ثم خطا خلف العسكري فوق الأرضية الجرانيت اللامعة للسلم المؤدى إلى مدخل البرج ، واسترق نظرة للخلف فوجد الفتاة على الرصيف تتحدث إلى الكاميرا وخلفها على الجانب الآخر من الطريق كوم الأثاث المهشم الذي خلفته أحداث الأمس ، ثم دلف الشاويش إلى داخل برج السعادة . رمى الشاويش السلام عند مروره أمام موظف الأمن ، لكن الأخير لم يعن برد التحية ، سبَّه الشاويش في سرِّه بأبشع ما توارد إلى ذهنه ، الرجل لم يمضِ على وجوده في البرج أشهر محدودة وبدأ يتعالى عليه ، تحسر الشاويش على أيام عبد العاطي موظف الأمن السابق ، كان طيبا وابن حلال لكن أولاد الحرام وقفوا في طريقه ، مضى الشاويش نحو المصاعد حيث داس العسكري على الزرِّ فدقَّ على الفور جرس موسيقي ، وانزاح الباب الكهربي جانبا فدلف الرجلان إلى داخل المصعد ، ووقفا وأشباحهما تطل عليهما من المرايا الفيميه التي تغطي حوائط المصعد من ثلاث جهات ، شاعرين بحرج إزاء مجرد تواجدهما وسط كل هذه الأبهة ، وانطلق المصعد نحو الدور الثالث عشر ، فعبر بهما حواجز من الزمان والمكان ما تصور أي منهما أن يعبرها ولو في الأحلام . مشهد البيانو وهو كالشبح يهوي لم يفارقه منذ الأمس ، ظل يقلق يقظته ويؤرق منامه حتى بدأت الشكوك تساوره من أن تكون سوما البومة قد عملت له عملا ، تنفِّس به عن الغيظ المدمِّر الذي تمَّلكها عندما تزوج عليها ، وتحِد من لهفته اليومية على الاختلاء بزوزو… الشابة الغندورة ذات النظرة الجريئة والوركين المرمريين . لو رأت زوزو الأنوار التي تنير وتطفئ مع كل دور يمر عليه المصعد لسخسخت ولمت حولها الناس ، ولو داست البومة بقدمها المشققة رخام أرضية المدخل الأحمر اللامع لفقدت الربع الباقي من مخها الزنخ . ابتسامة عريضة ارتسمت على وجه الشاويش أشموني ، بينما الخواطر تسابقت في باله خلال الثواني الممتدة التي قضاها في المصعد ، هو وزوزو متواجدان وحدهما في هذا المصعد ، طرف قميص نومها الوردي قد بان من تحت جلبابها الكستور الفضفاض ، أقل من شبر من الثوب الشفاف لمحه بطرف عينه فاشتعلت النار في أحشائه ، يدرك أنها تلبس قميص النوم على اللحم مباشرة ، يده تضغط على الزر الأحمر فيتوقف المصعد بين الأدوار ، في لهفة يرفع جلبابها وقميص النوم ، ملمس جلدها الحريري كالقشدة الساخنة ، شعور يخالجه بأنه يعاشرها في الحرام رغم أنه كتب عليها على سنة الله ورسوله ، في عز نشوته ينزاح باب المصعد برنين معدني ، يرفع سرواله وينظر خلفه فيجد البومة بملابسها السوداء وابتسامتها التي تكشف عن أسنانها الناقصة ، تغني بصوتها المبحوح : " خليه يتزوج يا بهية ... ونشوف أنا ولا هيَّ ." ثم يصفق باب المصعد الكهربي بنفس الصدمة المعدنية ، ويستدير أشموني تلقائيا لزوجته الصغيرة فيجدها راقدة على الأرض عارية كما ولدتها أمها ، ولا أثر لملابسها أو لشبشبها الزنوبة ، متكورة على جنبها في سكون تام ، شعرها الأسود متناثر على ظهرها وعلى أرضية المصعد ، جسدها الصغير مكتمل الاستدارة بياضه مثلَّج يميل إلى الازرقاق، هذه المرأة ليست زوزو ، تصدمه كالصاعقة حقيقة أن هذه جثة أحلام الشواربي ، الممثلة القتيلة ، الهلع يتملك أشموني بقبضة عملاقة تمسك برقبته من الخلف ، كأنه هو الذي قتلها، يريد أن يصرخ : مظلوم ... والله العظيم مظلوم ، لكن صوته حبيس في حنجرته لا يجد طريقه إلى الوجود ، يأخذ أنفاسا عميقة متتالية كأن الهواء على وشك أن ينفد . " ما تتخضش كده يا حضرة الشاويش ... كام سؤال يُتم يسألهم حضرة الضابط ، ويا دار ما دخلك شر ." قالها العسكري بعد أن انزلق باب المصعد ، ووقف على البسطة ممسكا مقدمة الباب لعدة ثوان إلى أن استجمع أشموني شجاعته ، وخطا بحذر إلى الدور الثالث عشر. بعد أن مرق وراء العسكري من باب الشقة 1301 الذي كان مواربا ، وأخذ خطوة أو خطوتين داخل الشقة ، تجمد الشاويش فجأة في مكانه ، فقد اصطدم بمشهد زاده ارتباكا على ارتباكه ، فالأرضية مغطاة بالكتب والأوراق وأسطوانات الموسيقى المتناثرة والستائر الممزقة والمناضد المهشمة ، والكراسي المذهبة المقلوبة بعد أن فقدت مقاعدها وبعض أرجلها ، وزجاجات المنكر المكسورة والمسكوبة ، وفيديو اندلقت تروسه وبانت مكوناته الإلكترونية، وعدة كنبات مقلوبة على ظهورها بينما تناثرت حولها شلتها وياياتها الحديدية وقشها كأن يدا عملاقة سحبت أحشاءها كما تفعل النساء في الطيور قبل طهيها ، وتلفزيون هُشمت شاشته ، وأغطية أفلام فيديو من الورق المقوى المبعثرة في كل مكان بعضها لأفلام معروفة وبعضها به نساء عاريات في أوضاع مشينة ، وشظايا حادة من زجاج النوافذ والمرايا ، وريش الوسائد الذي خرج عن حدوده وانتشر في كل ركن من الأركان حتى أضفي طابعا خياليا على الخراب الذي ابتلع الشقة المتسعة . ولولا ممرين متقاطعين أزيلت عنهما الأشلاء ليسمحا للمحققين بعبور الصالة الواسعة من المدخل إلى الشرفة ، وبالعرض ما بين غرفة السفرة من جانب والممر المؤدي إلى غرف النوم من الجهة الأخرى ، لما عرف الشاويش أشموني أن الأرضية مصنوعة من رخام أخضر فستقي به لمعان خفيف يعطى للسائر فوقه إحساسا بالعمق والشفافية كأنه يسير فوق الماء ، فوق ماء الترعة التي فصلت بين قريته وعزبة العبايدة ، أرضية لم يرَ مثلها من قبل ولم يتصور فخامتها ولو في الأحلام . " استنَّ هنا ." تركه العسكري وأخذ خطوات محسوبة فوق الممر الأخضر ، حتى وصل إلى الجانب الآخر من الصالة حيث وقف زميل له تحت قوس معماري مسدود بستارة سميكة من القطيفة الزيتية ، وتهامس العسكريان بوقار من يتبادل معلومات من شأنها أن تغير مجرى التاريخ . أخذ الشاويش عدة خطوات في نفس الممر الرخامي كأنه يحقق حلم طفولته بعبور الترعة دون أن يبتل ، كالعجل في بطن أمه ، ثم توقف متأملا تمثالا مصنوعا من معدن ذهبي لامرأة بحجمها الطبيعي ، لا يغطيها سوى ملاءة ملفوفة حول جسدها ، التمثال مائل بزاوية على كنبة حالت دون سقوطه على الأرض ، لكن رأس المرأة لا يظهر من موقع الشاويش لأنه قد زرع زرعا في وسط لوحة زيتية كبيرة حتى اخترقها ونفذ من الناحية الأخرى ، جال الشاويش بعينيه الصالة للمرة المائة فلم يستطع أن يصدقهما ، كأن إعصارا غاضبا حبسته الطبيعة داخل الشقة ولم يهدأ له بال حتى خرَّبها . إنه مشهد من جهنم ، خراب لم يرَ له مثيلا من قبل ، رغم أن الشاويش لم يكن بأي حال غريبا عن الخراب ، لقد كان الفقر له صديقا والحرمان خليلا ، فلا يصدمه منظر المجارى الطافحة في الأزقة ، أو يؤثر فيه مشهد طفل ينبش في أكوام الزبالة ، وكلها أوضاع يقبلها الناس رغما عنهم تعايشوا معها لأن لا بديل لها ، أما ما أحاط به في هذه الشقة فكان دمارا مقصودا ، كل هذا الثراء والأبهة أتلف عمدا ، لقد لمس الشاويش غضب الناس في الأزقة ، غضب ولَّده الزحام والعوز ، انفعال لحظي له أسبابه ومبرراته لكن سرعان ما يتبدد وتعود البسمة إلى الشفاه والنغمة إلى الآذان ، أما هؤلاء الأثرياء فلم يتصور أن يكون وراءهم سوى السعادة والمرح ، لم يتصور أبدا هذا المقت المجرد الذي اليوم يكاد يمسه بأصابعه ، هذا الشر المطلق الذي ينبض من كل ركن في هذه الشقة ، لا بد أنه من عمل الشيطان . استلفت نظر الشاويش ركن من أركان الغرفة بجوار الشرفة العريضة المطلة على النيل ، دقق النظر فيه فتضاعفت حيرته ، الركن به طاولة صغيرة ، سطحها لامع لا تشوبه ذرة تراب ، عليها مفرش صغير أبيض ، وزهرية من الصيني المنقوش بها وردة واحدة بيضاء ، وردة عفية ناضرة كلها رقة وجمال ، وخلف الطاولة قطاع من زجاج الشرفة سليم ونظيف غطت جزءً منه ستارة بيضاء من قماش شفاف مشغول ، على نقيض باقي الزجاج المتهشم والستائر الممزقة ، وأسفل الطاولة أيضا كانت الأرضية الرخامية الفستقية لامعة نظيفة كالبلور ، ركن أفلت بأعجوبة من الخراب الذي اجتاح كل شبر غيره في هذه القاعة المتسعة ، لكن كيف ولماذا ؟ أمعن الشاويش النظر بحثا عن أية خيوط تتيح ولو تفسيرا جزئيا لهذه الظاهرة المحيّرة ، فلاحظ وجود كُرّاس قليل السمك على المنضدة إلى جوار الزهرية ، ثم عاد بنظره إلى الوردة التي اجتذبته كأنها تناديه ، كأنها تقول له تعال فالتفسير ستجده هنا ، في رحيقي العاطر ، في ملمسي المسحور ، في جمالي الناضر ، هنا بعيدا عن الجنون الذي يحيط بك من كل جهة . بسمل بصوت مسموع ولولا خشيته من سخرية العساكر لكان فتح أزرار سترته وبصق في عبه . " بخ !" صرخة حادة صاحبتها حركة سريعة مفاجئة أتت من ناحية التمثال أخذته على غرَّة فانتفض الشاويش بعنف وقفز عدة خطوات إلى الخلف ، وقد رفع يديه تلقائيا أمام وجهه في مواجهة الجسد الصغير الذي بسرعة تقدم نحوه ، أيكون شبحا أم عفريتا ؟ تجمد الشاويش في هذا الوضع بضعة ثوان إلى أن أدرك أنه يواجه طفلا كان مختبئا تحت اللوحة الكبيرة المعلقة حول رقبة التمثال . " هيه ... خضيتك خضيتك خضيتك ." شيطان صغير شعره إسفنجي منكوش ، يرتدي شورتا خرجت منه عصاتان مستقيمتان تحت مسمى الساقين ، وبرزت من صندله الكالح أصابع قدميه المسودة بفعل التراب والتي ظهرت واختفت مع قفزاته المنتظمة بين الشظايا المتنوعة التي افترشتها الأرض ، عيناه سوداوان واسعتان تشتعلان ببريق يعج حيوية ، لا يزيد عمره عن ست أو سبع سنوات ، غمرته السعادة لعملته الإجرامية . " هيه ... عليك واحد ... عليك واحد ... عليك واحد ." " حرام عليك يا بني أنا فيّ إللي مكفيني ." " لا بس حلوة ... لازم تعترف ." " ولد يا عنتر ... بتعمل إيه عندك يا مقصوف الرقبة ؟" قبل أن يرد الشاويش على الطفل كان الصوت الأجش منقضا عليه من الخلف ، رجل طويل عريض يرتدي سترة صيفية وشبشبا من الجلد ، رأسه أملس لا يشوبه شعرة واحدة، أستاذ جامعي عرفه الشاويش من سيارته اللادا المتهالكة ، الوحيد من بين سكان العمارة الذي لا يمتلك سيارة فاخرة ، أطلق عليه السياس لقب "الدكتور" رغم أنه ليس طبيبا ولا حتى ممرضا . " أهلا يا شاويش ... فينك يا راجل ، ولا بتفوت ولا بتسلم ، بقى يصح كده ؟" لم يستوعب الشاويش كلام الرجل ، تساءل إن كان الرجل أخطأ وتصوره شخصا آخر يعرفه جيدا . نظر الرجل خلفه في اتجاه العسكريين ثم استكمل همسا بصوت من ابتلع ضفضعة : " يا أخى قلة ذوق ... لطعوني ساعة في الخرابة دي وفي الآخر كلمتين فارغين ولا يجيبوا ولا يودوا ... صحيح بلد لا تحترم عقول الناس ولا وقتهم ." ثم استعاد الرجل صوته الرنان: "... لما تخلص مع السيد الضابط أنا في انتظارك ... عاوزك في موضوع مهم خالص … الدور السادس شقة واحد وستين ." ثم التفت بعينيه الضيقتين وأنفه المحدب إلى الطفل : " تعال يا شيطان دانت يومك ما هوش فايت." وكان عنتر مشغولا بتمزيق صفحات مصفرة لكتاب سميك ذي غطاء من جلد مجعد، خطر ببال الشاويش أن مثل هذا الكتاب يباع بالشيء الفولاني على سور الأزبكية، ألقى عنتر الكتاب وتركه لمصيره بين الخراب المتراكم على الأرض وانطلق صوب الباب، لكن الدكتور قطع عليه الطريق ، وقبض عليه من قفاه ، وساق الطفل إلى خارج الشقة ورقبته كرقبة دمية في قبضته الفولاذية ، بينما التحدي قد استحوذ على ملامح الطفل . صوت الرجل أتى إلى أسماع الشاويش بعد أن اختفى الاثنان عن بصره: " أصلك معجون بمية عفاريت ." ¨¨¨
بدا وجه الضابط أكثر شحوبا عن المرّة السابقة ، وقف الشاويش أمامه منتبها إلى كل حركة متوترة يقوم بها ، بينما الضابط جلس يقلب في أوراقه دون أن يظهر أي إدراك لوجوده ، اعتبر أشموني نقر أصابع الضابط على الطاولة وجزه على أسنانه من حين لآخر مؤشرات لا يمكن الاستهانة بها . إلى جانب الطاولة الممتدة جلس أمين الشرطة خلف دفتره الرسمي المهترئ في سكون ، نفس الأمين الذي دوَّن محضر المرّة السابقة ، لكن عند مقتل الممثلة أخذوا أقوال الشاويش في بهو مدخل البرج وقد وقف الضابط حينئذ ويداه في جيبيه والأمين استند إلى مكتب حارس الأمن ، أما الآن فيجلسان إلى هذه الطاولة العظيمة ، مائدة السُّفرة فيما سبق، كان يقدم عليها المحمر والمشمر قبل أن يهبط عليها الخراب بغتة وبغير مقدمات . شعر الشاويش أشموني بتنميل في قدمه اليسرى ، وبحركة خفيفة نقل الجزء الأكبر من ثقله إلى القدم الأخرى ، رفع الضابط عينيه وحدجه بنظرة نارية ثم عاد لأوراقه ، مظهرا للمرة الأولى إدراكا لأن الشاويش متواجد أمامه ، فتضاعف قلق الشاويش مع كل دقة ثقيلة من عقرب ساعة يده ، دقات عملاقة سمعها على غير العادة بل وشعر بها تنبض داخل رأسه . " أنه حضر أمامنا اليوم 2 أغسطس 1999 في تمام الساعة ..." نظر الضابط في ساعته ثم توالت الأسئلة كالسيل المنهمر على رأس الشاويش . أين كان وقت سلسلة حوادث 2 أغسطس 1999 ، ما الذي حدث بالتفصيل ، ما قوله في قطع الأثاث الملقاة وسط الطريق ، هل شاهد أحدا يقوم بإلقائها من العمارة ؟ الأجرة والأوتوبيس والتريسيكل والنقل ذات المقطورة وعربة الترمس فضلا عن الأشياء المتساقطة من السماء … كيف يصف كل هذا وماذا يقول ؟ " خللي كلامك محدد يا شاويش ." دون أن يشعر عاد المحقق إلى النقر على الطاولة. " يا باشا أصل كله حصل في نَفَس واحد ." " المطلوب أن تسرد ما حدث من واقع مشاهدتك … ولا المرّة دي برضه حتقول ما شفتش حاجة ؟" انفعال مكبوت بدا في صوت المحقق . لحظة صمت ثقيلة ، شعر الشاويش بقطرة عرق باردة تتسلل من قفاه إلى ظهره من تحت القميص ، تمنى أن ينسى الرجل ما فات ويقصر أسئلته على حوادث المرور . صفق الضابط الطاولة براحته ، كان أشموني على وشك أن يشرح له أن توتره لا مبرر له فالضرر هذه المرة والحمد لله لا يتعدى خسائر مادية محدودة ، وهؤلاء قوم لا يأبهون بفقدان بضعة ألوف أو ملايين حتى ، لكنه آثر الصمت ، احتار الشاويش فيما عسى أن يكون وراء عصبية الضابط الزائدة ، لاحظ أنه كان أكثر هدوءا في الاستجواب السابق رغم أن الموضوع كان يتعلق بجريمة قتل ممثلة شهيرة ، أمر غير مفهوم لكنه ضاعف من قلقه . " هل تستطيع أن تحدد الدور والشقة التي ألقي منها هذا الأثاث ؟" " الشقة دي طبعا ." تلفت الشاويش حوله في غرفة السفرة باحثا عن شيء من خراب الصالة الخارجية يؤكد كلامه ، لكنه وجدها نظيفة ومنظمة كأن لا شيء حدث . " إذن فأنت رأيت الأثاث وهو يخرج من شرفة هذه الشقة ؟" ضم الضابط شفتيه الغليظتين تحت شاربه الرفيع الذي ذكَّر الشاويش بشارب عماد حمدي . " لا ما شفتش حاجة خالص يا باشا ." نهض الضابط من كرسيه صائحا :" أمال يا بنى آدم عرفت إزاي إنه خرج من الشقة دي ؟" " البيانو … الحاجة الوحيدة إللي شفتها خارجة من البلكونة هي البيانو ." أخذ المحقق عدة خطوات حتى نهاية الطاولة وذراعاه مضمومتان خلف ظهره ، رأسه الحليقة بدت كالزيتونة فوق جذعه المدكوك ، ضغط على شفتيه في تركيز واضح . " طبقا لمشاهدتك كيف خرج البيانو من الشرفة ؟" عينا المحقق سوداوان ملأهما الشر . مط الشاويش بوزه وهز كتفيه . " ده محتاج أربع رجال علشان يتحتحوه … يعنى العفاريت هي إلى رمته من البلكونة ؟" تفتح وجه الضابط الأبيضاني في بسمة طفولية ، لكن سرعان ما اختفت واستعاد تكشيرته المعهودة ، فأضاف بنبرة الاتهام : " هل لديك أي معلومات أو شكوك عن وجود صلة بين حادث 2 أغسطس ومقتل الفنانة أحلام الشواربي يوم 17 مايو 1999 ؟" صوت المحقق النفاذ أصلا اكتسب حدة إضافية . " لا يا باشا ، أنا قلت كل اللي أعرفه ." " انت طبعا عارف خطورة إخفاء المعلومات في تحقيق رسمي ." لكن الضابط لم يتح له فرصة الرد إذ أضاف بصوت تسلل إليه الإرهاق : " هل لديك أي أقوال أخرى ؟" ¨¨¨
دلف الشاويش من باب المصعد واندفع في اتجاه بوابة البرج عندما أوقفه موظف الأمن وأبلغه بجفاء أن الدكتور محجوب طلبه لأمر عاجل ، لكن اهتمام أشموني كان منصبا على مغادرة البرج المشئوم ، كما أيقن أن لا فائدة ترجى من وراء الدكتور ، فهو الوحيد من بين السكان الذي لم يضع يده يوما في جيبه ليخرج للشاويش شيئا ، الوحيد الذي يذهب إلى السوق شخصيا لشراء الخضار والفاكهة ويقطع أنفاس الباعة المتجولين فصالا وتدقيقا ، فكان بقدر من التلذذ أن رفض الشاويش طلب موظف الأمن المتعالي . لكن ما لبث أن خطا خارج بوابة البرج الواسعة حتى فاجأته لسعة مؤلمة في قفاه ، لدغة نحلة مباغتة أو دبور شرَّاني ، استدار فوجد الشيطان الصغير يكركع ضحكا: " هيه ... عليك واحد ... عليك واحد ... عليك واحد ." دعك الشاويش قفاه وحدج الطفل بنظرة تركز فيها غضب الأسابيع السابقة ، نظرة خاطفة لكنها جسدت بركان أوقدته مشاعر الخوف والذنب ، فماذا لو اكتشف الضابط عملته، وماذا لو كانت حادثة الأمس مؤشرا على غضب إلهي ، تلك الواقعة التي ما كان له أن يصدقها لولا رآها بعينيه التي سيأكلها الدود ؟ " لا بس حلوة … لازم تعترف ." قهقه عنتر وأرجح نبلته في يده غير مبال بما أصاب قفا الشاويش . " بابا عاوزك ضروري ضروري ضروري ." غضب الشاويش بدأ يتلاشى أمام حيوية الطفل وتلقائيته . " بس التقاطع لوحده يا بني ... لازم حد ياخد باله منه ." أخذ عنتر يطوف الطريق أمامه بعينيه باحثا عما عسى أن يقصده الشاويش ، ثم هداه عقله الصغير إلى الحقيقة : " ولا يهمك ، اطلع انت لبابا وأنا أقف مكانك آخد بالى من العربيات ." أشار عنتر بذراعيه مدللا على قدرته على تنظيم المرور ، ثم أضاف مستدركا : " ممكن بس تسلفني الصفارة ؟" " لا ما تقلقش نفسك ، ممكن نسيب التقاطع لوحده كمان خمس دقائق لغاية ما أشوف بابا وأنزل على طول ." لم يجد الشاويش في حالته المنهكة بدا من الاستسلام أمام طاقة الطفل المتدفقة المتجددة ، خاصة وقد أدرك أن الطفل لن يتردد في أن يلاحقه للجزء المتبقي من اليوم . " ليه أحسن العربيات تخبط في بعضها ." خيبة الأمل بادية في عيني عنتر ، لكن سرعان ما تبددت الغيوم واستعاد ابتسامته : " انت خد الأسانسير … وأنا السلم والجدع يوصل الأول ." وحده في المصعد ، راقب أشموني أرقام الأدوار تضيء وتطفئ ، من يدري لعله يخرج من الدكتور بلحلول أو اثنين ما دام يريد لقاءه بهذا الإلحاح ، البت زوزو تستقبله بسؤالها المعهود " حتحلي لي بُقى بإيه الليلة دي ؟" فإن دخل عليها خالي اليد لوَت بوزها، ولفت جسدها باللحاف وتظاهرت بالنعاس ، ولو أصر وحك جسده بها ، دفعته بقوة صائحة " جرى إيه يا راجل انت … مش شايف إني عندي الإكس ؟" أما إذا ناولها ربع كيلو بسبوسة ، أو لفة كل واشكر ، أو حتى كيس لب وفول سوداني من المقلى ، تفتحت أمامه كوردة يانعة وأذاقته الشهد وأعادت إليه سنوات الشباب التي كان قد ظن خطأ أنها ولت ولن تعود . اشتعلت عينا أشموني ببريق غير متوقع مع كل دور جديد يمر به المصعد ، ثلاثة أشهر قد مضت على زواجه من زوزو ، ولم تنشأ بينهما علاقة زوجية طبيعية ، يعاملها كعشيقة لعوب ، وتطلب منه الهدايا ، يعاشرها كأنه يلتقي بها في الحرام ، ولا تبدي أدنى اعتراض أو امتعاض ، بل تذهله يوما بعد يوم بجرأتها وسعيها للمتعة ، من كان يصدق أن كل هذا سيصدر عن تلك القطة المغمضة التي دخل عليها ؟ انزلق باب المصعد وظهر أمامه عنتر صائحا " بخ " فأدرك الشاويش انه في الدور الصحيح . كان الدكتور محجوب يرتدي بنطلون بيجامة مقلم دون الجزء العلوي مكتفيا بالفانلة الداخلية ، جلس على كرسي فوتيه مماثل للكرسي الذي سقط من الدور الثالث عشر وتسبب في كل هذه المصائب ، وضع ساقا فوق الأخرى فبانت أصابع قدمه المتضخمة من شبشبه الخدوجة ، فرد في الهواء أمامه عددا من جريدة رياضية أثارت صورها الملونة للاعبي كرة القدم وفتيات جميلات فضول أشموني ، طوى الدكتور الجريدة جانبا عندما نبهه عنتر إلى وصول الشاويش . " ولد يا عنتر قل لهم يجيبوا للشاويش واحد ليموناتا بالثلج ، بس يتوصوا قوي ..." ثم التفت للشاويش مرحبا : " أهلا وسهلا ." بعد لحظة صمت ممتدة رفع الدكتور رزمة سميكة من الورق الفولسكاب من على المنضدة ، قائلا وهو يهز الرزمة في يده: " أصلى بعمل دراسة عن المدلول السيكولوجي لأزمة المرور في مصر ، إيه رأيك في الفكرة دي بقى ؟" تشكك أشموني في إمكانية أن يخرج بجنيه أو اثنين من الدكتور الذي ـ طبقا لما يردده السياس ـ أنفق محصلة سنوات عمله في الخليج في شراء هذه الشقة ، تفحص الدكتور معالم وجه الشاويش ولمَّا لم يستشف منها أي رد فعل خفتت بسمته واستكمل : " المهم ، أود التعرف على رؤيتك المكتسبة من واقع احتكاكك اليومي بقضايا المرور في مصر ." توقف الدكتور لحظة منتظرا تعليق الشاويش ، الذي شعر بالعرق يسيل على قورته، فخلع البيريه وأمسكه في يده ، ولم يعفِه من الحرج سوى قدوم سعاد الشغالة بصينية صغيرة عليها كوب به ليموناتا قدمته للشاويش بميل للجذع مظهرة جزءً لا بأس به من صدرها الممتلئ ، ثم استدارت منصرفة رامية الشاويش في تلك اللحظة بنظرة خاطفة من الرموش مع تسبيل الجفنين ، ورغم محاولته مقاومة الإغراء لم يفلح الشاويش في أن يمتنع عن ملاحقة ردفيها بنهم ناري ، لم يطق الدكتور هذا التعطيل ، فبدأ في قراءة الورقة الأولى من رزمته بصوته الرتيب الخشن . حقيقة أن أزمة المرور أزمة حضارية ، الاضطراب العصبي والنفسي للشعب المصري ، سائق التاكسي الذي يضغط على البوق دون سبب ، الأستاذ عبد المهم الذي يلوح لعسكري المرور ليستعجل فتح الإشارة ، السائقون الذين يتقدمون في إشارة نصف متر في نصف متر حتى يسدون نصف الطريق المفتوح ، كلها أفكار بدت غريبة بلغة الدكتور المنمقة رغم ألفتها للشاويش على أرض الواقع ، ثم نهض الدكتور فجأة من وطأة انفعاله بكلامه مفاديا بسنتيمترات النجفة الكريستال المدلاة من السقف الخفيض ، فحجب جسده جزءا غير قليل من منظر النيل الذي تجلى من شباك الشرفة المفتوح وراءه ، خيمت ضخامة الرجل على الصالة وأحس الشاويش باضطرار إلى التجاوب معه ، فقال : " كلام كبير يا باشا ." ثم رفع الكوب إلى شفتيه المتعطشتين وأخذ رشفة ممتدة متمهلة من الليموناتا المثلجة . وضع أشموني لا شعوريا البيريه على المنضدة ، لاحظ وهو يميل بجسده ليبلغ المنضدة الجانبية أن الدكتور يلاعب إصبع قدمه الكبير أثناء تلاوته بما يتمشى مع ارتفاع وانخفاض نبرة صوته ، كأنه الموسيقار محمد عبد الوهاب يحرك عصاه الصغيرة في الهواء في مواجهة فرقته . توقف سيل الليموناتا المتدفق بسلاسة عبر شفتيه بصورة غير متوقعة ، رفع الشاويش قاع الكوب إلى أعلى فتدحرجت مكعبات الثلج حتى مسَّت أنفه ، أبعد الكوب عن وجهه فاكتشف أن الثلج قد ملأ الكوب حتى آخره مما حد كثيرا من سعته للسائل . " حلوة النمولاتا ؟" ظهرعنتر فجأة من خلف مقعد الشاويش ، لكن عندما استدار إليه كان قد اختفى . " صفارتي لقيتها أهي … أحلى من صفارتك ، لازم تعترف." همس الطفل في أذن الشاويش ثم اختفى ثانية ، فأخذ يتلفت حوله باحثا عن هذا الجن الحياني ، إلى أن التقت عيناه بعيني الدكتور اللتين حدقتاه شذرا ، فشعر بضرورة أن يبدي تجاوبا جديدا مع كلام الرجل الضخم ، فقال : " ولا يا بيه المقطورة المحملة أسياخ حديد مسلح من غير علامة ، وحتى ساعات تكون المقطورة ما فيهاش نور وسط الليل ." بدا الارتياح على معالم الدكتور واستطرد دون أن يقرأ من ورقه : " عندك مثلا حكاية الميادين اللي فيها خمس ست عساكر مرور كل واحد شغال لوحده … إللي يفتح وإللي بعده قافل ، وإللي يقفل وإللي بعده فاتح ، ولا تنسيق ولا يحزنون كل عسكري يعتبر أن الإشارة دي عزبته الخاصة ... ما تقولش يا أخي وزرا ء ... عموما هم ما يفرقوش كثير عن الوزراء في حكاية قلة التنسيق دي ..." قاطعه الشويش لأول مرة : " لا يا بيه عساكر المرور فين والباشوات الوزراء فين ، ربنا يخليك ما توقعناش في الغلط ." " طيب خد عندك مثل تاني : رِكاب كبار المسئولين ..." انتفض الشاويش واقفا وقاطع الرجل بحسم : " التقاطع لوحده بقى له أكثر من ساعة ." قالها الشاويش وهو متجه إلى باب الشقة . " استنى لسه المهم جاي ، يعنى لما واحد يدي إشارة يمين ويخش شمال ..." فتح الشاويش باب الشقة وداس على زر المصعد ، فتبعه الدكتور حتى عتبة شقـته مرددا : " بس انت ما خلصتش الليموناته بتاعتك ." أتت عبارة الدكتور إلى أسماع الشاويش وباب المصعد يغلق عليه . ¨¨¨
رغم أن أشموني ضغط على زر الدور الأرضي فور دخوله فقد فوجئ بالمصعد يتجه إلى أعلى ، ضغط على الزر عدة مرات لكن دون فائدة فاستسلم لأهواء ذلك المخلوق الحديدي الذي ينقل الناس في جوفه ، وتابع أضواءه الصغيرة التي تتالت في أرقام متصاعدة ، خطر له فجأة أنه نسى البيريه على منضدة الدكتور ، أيعود لإحضاره ويواجه الرجل بكلامه الذي لا يفهم معظمه والذي ينبئ القدر القليل الذي يفهمه بأن يوقعه في المحظور ؟ أم يكتفي بإرسال أحد السياس ؟ لن يعترضوا فهم أولاد حلال ويحترمون سنه ، توقفت الأرقام الكهربية عند رقم 13 والشاويش في أوج حيرته فاستعاد تلك المرارة التي شعر بطعمها في حلقه عندما اصطحبه العسكري منذ ساعة بدت الآن دهرا . انزلق الباب فوجد أمامه كاسب بك ومعه شاب يحمل جهازا كهربيا يشبه الراديو أو المسجل وفي يده الأخرى حقيبة سامسونايت سوداء ، يرتدي بنطلون جينز وحذاء من القماش الأزرق ، مهندس إصلاح أجهزة كهربية يعني . " ابن حلال مصفي ... كنا في سيرتك ." وجه كاسب بك كلامه للشاويش فضاعف من توتره ، لكن ماذا يريدون منه جميعا؟ أصبح فجأة موضع اهتمامهم بعد أن كانوا يمرون من أمامه دون أن يشعر أحدهم بأنه إنسان له مشاعر ومتطلبات ، يمنون عليه أحيانا بصدقاتهم دون أن ينظروه في عينيه ، يعطون ليس ابتغاء الخير إنما ليبرئوا ضمائرهم من البذخ الذي مارسوه حتى العبادة والمساخر التي ضربوا بها عرض الحائط بكل ما هو مقدس ، يشترون البركة بفلوسهم ، وأحيانا يشترون سكوته أيضا . لكن ما الخدمة التي عسى له أن يقدمها لهذا المهندس حتى يأتي ذكره في حديث كاسب بك ؟ ظل كاسب بك حاجزا باب المصعد بيد صغيرة رقيقة لا تتناسب مع ذراعه البدينة المغطاة بشعر أسود غزير يضاعف من غمق جلده الداكن ، جذبت انتباه أشموني سلسلة غليظة من الذهب لمعت على رسغه ، استطرد الرجل مخاطبا المهندس : " هو ده الباش شاويش أشموني إللي كنت بكلمك عنه ، الشاهد الوحيد إللي شاف كل حاجة من طقطق لسلام عليكم ، يمكن تحتاج جلسة معه أو جلستين ." تحرك باب المصعد للإغلاق لكن يد كاسب بك المدربة منعته بحسم . كان كاسب بك -كعادته في الصيف - مرتديا قميصا بنصف كم من الحرير المشجر، فتح أول أربعة أزرار حتى ظهر كرشه الضخم تحت بطانية كثيفة من الشعر الأسود ، غابة سوداء تراقص في ظلالها خرطوش فرعوني من الذهب مدلل من سلسلة طويلة ، وكان بنطلونه أبيض شفافا بان من تحته ذيل القميص متدليا حتى غطى منطقة الحجر وبلغ طرفاه أعلى الفخذين ، ولبس حذاءه المصنوع من جلد أبيض رقيق بلا جورب. كان رد فعل الشاويش الأول هو ضرورة نفي ما ذكره الرجل القصير البدين حول ما شاهده يوم الحادث ، لكنه آثر الصمت حتى لا يكذِّبه أمام الغريب ، فشاكر بك هو وكيل الشيخ وهدان صاحب البرج ، وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة في كل شيء نظرا لأن الشيخ لا يحضر للقاهرة إلا في القليل النادر . " أهلا وسهلا ." همهم الباشمهندس الشاب وهو متجه إلى داخل المصعد . استطرد كاسب بك بشفتيه الغليظتين المائلتين للازرقاق : " أقصد طبعا في يوم تاني لمَّا تكون تعرفت على البرج والسكان ." انتظر كاسب بك للحظة قبل أن يترك سراح الباب الآلي والعرق يتصبب من قورته ووجنتيه - كعادته في الصيف - وأزاح عن عينيه شعره الناعم الكثيف الذي انسدل في قُصة يجزم العيال السياس أنها باروكة أو بوستيج ، مركزا أنظاره على الباشمهندس كأنه ينتظر منه أن يقول شيئا ، لكنه اكتشف أن الرجل لن ينطق فترك الباب يصطدم بحلقه برنة معدنية خففت المصدة المطاطية من وطأتها. لم يستطع الشاويش مقاومة فضوله فطرح سؤالا تلو الآخر بعد أن بدأ المصعد رحلة هبوطه ، فرد الشاب بتلجلج وغموض ، ثم زهق من المراوغة مصرحا : " أنا متخصص في الأمور الخارقة لقوانين الطبيعة المعروفة ." مسح الشاويش الرجل بنظرة متفحصة ، الشاب في منتصف الثلاثينات ، ملابسه الجينز والتيشيرت نظيفة لكنها أبعد ما يكون عن الوقار ، طويل ونحيف وشعره قصير أكرد ، قورته عريضة ، ملامحه مسمسمة داكنة ، عيناه عسليتان بهما لمعان ، كان توارد إلى أسماع الشاويش أن صاحب الشقة المحطمة استدعى بالفعل شيخا روحانيا ، لكنه لم يصدق أن هذا الفتى هو الروحاني الذي علقت عليه الآمال . انطلق الشاويش من المصعد وهو يضرب أخماسا في أسداس ، أيستحضر الأرواح براديو ترانسيستور وجهاز تسجيل ؟ ومن قال أن المسألة تحتاج مهندسين وأجهزة ، الأمر لا يحتاج أكثر من سبت وفتلة وقلم ، حتى الشعوذة لا يريدون أن يتركوها للناس الغلابة ، لكن أكثر ما هال الشاويش أنه عاري الرأس ، لا طرطور ولا طربوش ولا زعبوط ولا حتى عمة ، كيف يجلس في حضرة الأسياد ويحادثهم وهو عاري الرأس ؟ ماذا فعل هؤلاء المفترون بالدنيا ؟ ألم يبق لأي شيء احترامه ؟ وجد الشاويش الضابط أمامه في البهو ماكثا أمام بوابة البرج مباشرة يحادث امرأة تدون في مفكرة صغيرة كل كلمة ينطق بها ، بينما وقف العسكريان في يقظة على مسافة عدة أمتار منهما . تباطأ الشاويش وتنحى جانبا في انتظار أن يفسح الضابط الطريق ، متفقدا في الوقت نفسه بدلة السيدة ذات اللون الأخضر الزرعي ، التي غلفت جسدها القصير كما تغلف ورقة السيلوفان قطعة الشيكولاتة الفاخرة ، اكتفى الشاويش بنظرة واحدة إلى ذراعيها النحيلتين ثم انتقل بنظره إلى فخذيها من تحت البنطلون فوجد فيهما ما يشبع نظره . همَّ الضابط بالانصراف لكن الصحفية سارعت إلى قطع الطريق أمام وصوله إلى البوابة طارحة في نفس الوقت سيلا متدفقا من الأسئلة ، قضمت قلمها تلقائيا ، ثم التفتت بغتة للشاويش كأن نظراته لسعت جلدها ، بحركة سريعة سحبت يدها بعيدا عن فمها وحدجت الشاويش بنظرة نارية متهمة إياه في صمت بالتطفل والتعدي على خصوصيتها . ناور الضابط حولها مستغلا غفوتها اللحظية ، وهرول العسكري الأول أمامه بينما تبعه الثاني بعدة خطوات حاملا حقيبة الضابط باحترام مبالغ فيه ، نزلت السيدة خلفهم أول درجتين من سلم البرج ، مزيحة بضعة خصال من شعرها الأسود الفاحم المائل للقصر من أمام عينيها ، وسارع العسكري يفتح الباب الخلفي للبيجو الزرقاء لكن المحقق تجمد في مكانه لحظة قبل أن يدلف إلى داخل السيارة ، استلفت انتباهه أمر ما في اتجاه تقاطع الشاويش ، لم يستطع أشموني أن يرى من موقعه ماذا حدث في التقاطع فوقع قلبه في رجليه ، أتكون مصيبة جديدة وقعت أثناء غيابه ؟ وفي حين ارتجت الصحفية ضحكا على السلم أغلق العسكري الباب بعد ركوب المحقق ، ثم هرول للجانب الآخر إلى موقع القيادة ، واحتل العسكري الثاني المقعد المجاور للسائق حاملا على حجره حقيبة الضابط . تلكأ الشاويش حتى تحركت السيارة ، ثم انطلق إلى خارج البرج ، لكنه ما لبث أن عبر بوابة البرج حتى تسمر في مكانه إلى جوار الصحفية الضاحكة وعيناه حائرتان بين مصور التلفزيون الياباني والمذيعة الأجنبية الصغيرة التي وقفت تحادث الكاميرا أمام التقاطع ، تقاطعه الذي هجره لمدة ساعة لا أكثر ، حتى وقعت أنظاره على الطفل الصغير الذي وقف وسط نهر الطريق يطلق صفارته بشكل متقطع ويلوح للسيارات بحركات مسرحية من ذراعيه الصغيرتين ، غير مبال بسرعة اندفاع السيارات على الطريق المفتوح، لكن الذي أودى بغيظ الشاويش إلى منتهاه هو أن تلك السيارات المسعورة ، التي طالما تجاهلت توسلات عتاة رجال المرور ، استجابت كالحملان الوديعة لتعليمات الطفل عنتر بحركاته البهلوانية والبيريه المسروق الذي اضطر لأن يرفعه عن عينيه كل دقيقة ليرى الدنيا حوله ، فهمس الشاويش بحرقة : " يا بن الجنية .