على حافة الآن ، تتنفس أسراب البشر - المنهكة من ردهات الماضي – الصعداء . و مع تهاويم العبور تنطلق الأنفاس مسافرة إلى مرافئ البعيد ، يندفعون في رحم الممر الضيق ، المثخن بالجراح . تتضرع الألسن لاهثة تلهج شكراً لله بالولوج بوابة الحاضر . ينزل ركاب الحافلة خلسة من الضوء القادم من الشرق إلى نقطة العبور . واحداً تلو الآخر . يتبعهم سيل الرائحة المفعمة بنشوة الجوع ، اللوعة لثكنات قديمة ندفت منها مياه مطر تقيأت أريج الحلم ، الموت إلى نهاية المصب النائم .
كان يسير بينهم عارياً من الخوف ، متدثراً سترة الوهم إلى أفق صورة السجن التي أطاحت به ، و على بوابة الآن اللزجة ، السائلة من منبع الأمس ينزلق إلى ردهات التفتيش التي انتظرها طويلاً ، خمسة أيام دون الوصول لهذا المكان . يقبض بإحدى يديه على تصاريح العبور و جواز سفره الأخضر بعنف ، يتمايل قليلاً ، ناعساً ، نائماً ، يمر بعينيه على الزجاج الأسود . تتضح من خلاله صورة مجندة تعبث بجهاز الرصد لمن هم في عمره القديم . و عندما يجتاز الصورة تبقى الذاكرة في مصب الحكاية ، يداخله إحساس غريب بأنهم قد يعتقلونه الآن ، رغم تركه ليسافر . راودته فكرة أزلية تعبث ببواطن نفسه ، كأنهم تركوه لكي يريحهم من عناء البحث عن رجل الظل ، و هاهو يعود الآن . الألم دفين ، يعتمل في صدره . تنظر إليه المجندة من البعيد ، البعيد. تراوده أيقونة الوجه القاحل ،كأنه رآه من قبل ، كانت تسلمه ملابسه ، أماناته التي لم تكن أي شئ ، حذائه المهترئ .
تأمل تضاريس جبهتها القاتمة ، حدق بها كثيراً .سرح طائراً إلى الأفق القصي هناك . تقوضت وشائجه معهم قبل أن يتركوه . كانوا رفاقه . جسداً واحداً لكنهم أخيراً بدأت تراودهم شكوك الانحراف .اختلفوا في كيفية العمل بعد الخروج من رحم الموت إلى حياة المخيم . يخرج جوازه من كوة الاغتصاب إليها . يقف واجماً ، يأخذه من الجندي الذي يبتسم إليه بحذر . يتمنى لو يبصق كلاً منهما بوجه الآخر . يعود ، يأخذ تصريح الدخول إلى المدينة الضيقة ، يجتاز الممرات الطويلة ، الضائعة في متاهات الجرح . يرن جرس ماكينة التفتيش ، يتجمد مكانه . يأمره الجندي بالتوقف . يزايله أريج الشوق لبيته . يقف قريباً من المجندة السوداء ، العميقة كصحراء النقب . ملامحها بائسة ، شبق رائحتها يتبخر في انفه . يأمره الجندي بخلع حزامه ، فيفعل . يمر من النقطة دون صوت . قيثارة صمت تشدو بهاءها القديم . يعود مرة أخرى إلى نفس البقعة الداكنة من باص العودة إلى دهاليز الحي . يبتسم باجتياز ظلام العبور مرة أخرى ، يتبعه ظله ميتاً . يتمتم شكرا لخالقه . يحمل أمتعته الثقيلة على ظهره .
تجلو خطواته للوطن الآن ، تتضح معالمها. يسير جزلاً ، يشدو بانتهاء حصار الظل أخيرا و الدمعة تتهادى غريبةً بين أهداب عينيه قبل أن تهوي على أرض المعبر النتن . يقايض فيها المسافة بالسكون . يريد أن يحلم بأنه قد أدرك المكان حقاً . يمتد زحفه ، لا يرى شيئاً . فحيح قدماه يرتطم بالأرض ، ودّع أهله كشبح لن يعود ، الدمع يعزف سيمفونية اللاعودة الأولى . و مع خطوة الانتصاف تطأ قدميه أرضه المتصلبة، الصارمة كوجهه الميت ، متمرداً . رائحة النتن تبرز مع أكياس قمامة تبعثرت في شتى الاتجاهات ، تستقر الرائحة في ضباب الصمت ، تحاصره ، تلفه ، يستنشقها متألماً . يقذف عينيه محدقاً في بقايا الصورة . يغلق باب الماضي البعيد . لن يعود إليه أبداً . يصل أسلاك المدينة الشائكة . يتوسد الرمل ، يقبله كحبيبته التي تركته منذ سنين الجدب ، الفتح . يسأله السائق متدافعاً عن الجهة التي يقصدها ، يتلفت حوله ، يتأمله ، تقاطيع وجهه راسخة المعالم ، الآهة تظهر على قطيع الجسد المثخن بالجراح ، يريد أن يتفوه بكلمة واحدة لكن قوة الصمت تردعه ، يناديه السائق مرة أخرى : - إلى أي قبلة تريد ؟! يترنم بصوت النائم ، الحزين : - غزة
يقف السائق واجماً ، محدقاً بذهول مجزرة التناغم على ذكرى الثورة و الغضب ، يخرج من صمته بشفق الحزن الأمرد . تظهر نبرات الجزع ، الألم فيه . يتمتم بينما تنزلق دمعة على خده من جديد : - القطاع مقسم منذ أسبوع إلى أربعة أجزاء ، و لا ندري متى سيفك الحصار حقاً ؟ يصمت بينما يغمض الآخر عينيه بنشوة انتصار ضئيل ، ميت . ينام الليل كله مع وهج الظلام ساكناً . شوقٌ عارمٌ يلفه ، يحاصره ، يستبد به ، يلفحه في انتظار خطوة الوصول للروح البعيدة .