السوار

     الأحد 31 جويلية 2022

كان لقائي الأول مع شاطئ مستغانم، إنفردت بنفسي هروبا من منى وخطيبها. تنتقدني؛ لأني لم أخطو خطاها بالإرتباط بأكبر حساب مصرفي، وما العيب في إنتظار رجل تعجبني شخصيته يكون لي الدعم والأمان؟

تمشيت على شاطئ الحجاج. لا زحام هنا بعكس باقي شواطئ المدينة. سحر المكان طرد من نفسي كل الإزعاجات. تأملت البوركيني الأزرق الجديد. ألا يستحق صورة للنشر على فيسبوك؟ لكن متعة اللحظة تطغى. ملمس الرمل؛ والماء حول قدمي أغراني. فتحولت إلى طفلة، أدندن وأقفز، كما لو أني إمتلكت المكان..

جلست فوق صخرة على حافة الأمواج. حيث أستطيع تمييز الرفاق على الرمال البعيدة، غير أن أصواتهم لا تصلني.. الجميع ملتهون عني، حينها أيقنت أن قضاء العطلة الصيفية مع زملاء العمل خير من دعوات الزواج من غرباء.. وبالتأكيد أفضل من جلسات العانس مع المتزوجات. إحساس جميل.. لكن ما هذا؟

حدقت في معصمي العاري ثم تلفتت حولي. السوار.. إنه ضاع.

يعود لجدتي رحمها الله.. إنتقل من جيل لآخر، لكن لم يعد في معصمي. تميمة الزواج، بفضله تزوجت كل خالاتي صغارا..

إنتظرت سحره ولم أتزوج للآن، هل فقد مفعوله؟.. أم إستلمته بعدما كبرت؟ مهلا.. فيما أفكر؟ عليّ إيجاده.. بحثت بالجوار وبعيدا. لمت نفسي وحتى رمال الشاطئ لم تسلم من غضبي.. إختفت فرحتي في ثوان، كما ظهرت تماما.

وفي توتري لم ألحظ إقتراب رضوان. أفاقني حين قال:

"ألم نبدُ كثنائي رائع؟ أقصد في الحافلة." ختم كلامه بإبتسامة مستفزة، فرددت بحدة:

"جلست بجوارك لعدم وجود مقاعد شاغرة."

عدت للبحث عن السوار محاولة تناسي وجوده. رمقني بإستمتاع وقال:

"الجميع يدرك مستقبل علاقتنا. فلمَ تعترضين يا حنان؟"

بدا كلوح ثلج بينما شعرت كأن بركانا بداخلي.

تجاهلت كلامه. البحث عن سواري أهم من أي حديث يجمعنا.. كم كرهت صوته وقربه، وملاحقته وتلميحاته .. ثم يناديني بـ "حنان".

مطلق مشوه المشاعر. بإعتقادي أن سنتين غير كافيتين للتشافي من علاقة حب وزواج. أشرت إلى خاتم زواجه.. فهو بيده للآن.

"أنا ريم بالمناسبة.. أتركني من فضلك."

حل منتصف النهار ولم أجدك ..آه يا سواري.. أين أنت؟

تكدر مزاجي للذروة مع إستدعاء التجمع... هل سأغادر من دون سواري..؟ لحظتها فقدت التواصل مع الجميع. فكري مشغول بالسوار.. 

إرتبطت عيناي بالشاطئ بينما تبتعد الحافلة. آه يا سواري.. بدونك تختفي كل آمالي.

عشرون دقيقة كافية لنصل للمجمع السكني الذي نزلنا به... لكن ما هذا الصخب؟.. الجميع يغنون ويمزحون مستمتعين ماعداي. الجو مغري.. يسحبني لعيش اللحظة. لا أحتمل إرتداء ثوب الكآبة طويلا.. آسفة، سواري الغالي.. لكنك قيدتني لسنين..

 عند الشقق تجهزنا للغذاء المبرمج تناوله في مركز المدينة، هناك السوق والمركز الترفيهي. المكان بعيد، قرابة الساعة ذهابا. ياه، كيف أتحمل الجوع؟ فهو يشعرني بالبؤس والغضب.

وها قد حضرني إحساس الجوع فشغلني عن التفكير بغيره.. نعم، نهِمَة أنا بالتأكيد.. لكن وزني أصبح الآن معتدلا بعد فترة ريجيم قاسية. أما في الرحلات فلا مكان للريجيم.   

     تجمعنا أمام المجمع السكني لنتوجه مشيا للمحطة القريبة.. إصطففنا عند الحافلة وركبنا تباعا، وكالعادة رضوان أولنا.. جلس الجميع ماعداي. لم يخترني أحد..  أشار لي أحدهم لمكان فقصدته فرحة.. لكن، ليس مجددا. القدر يختار لي رضوان كل مرة. قابلني بإبتسامته السمجة، ترددت.. لكن مجالسته أهون من التعرض للتحرش أو للسرقة. مجرد ساعة  ستمر.

الإثنين الفاتح من أوت 2022

اليوم مكان جديد للغذاء ببرنامج الرحلة. بعيد نوعا ما... لكن لا داع للتفكير بالجوع، فخليط المكسرات بحقيبتي كفيلة بكبح جوعي.

وصلنا المطعم قرابة الثانية بعد الظهر. تقدمتُ البقية لأتخفى من نظرات رضوان المترقبة.. فجاورت الخطيبان رمقاني بمكر، وكالعادة يمثلان العشق بقصد إغاظتي. تحسست معصمي مكان السوار.. أكان عليك أن تضيع؟ فهمسا لبعضهما وضحكا. مرّ وقت طويل على رفع طلبات الغذاء.. وجوعي بدأ يكشر عن أنيابه. أظن أن البقية على نفس الحال.. تعلقت عيناي بالنادل البشوش. إذ يوزع الوجبات بخفة.. البيتزا تبدو شهية، وربما الهومبرقر ألذ.. أما الشاورما فأستسيغ طعمها من رائحتها الساحرة.. ومع ذلك ما كنت لأطلبها قبل أن أتدوق الكبدة والدجاج المشوي فهما عشقي الأبدي.. لكن متى يتذكرنا النادل؟ أخيرا وضع طبق الكبدة أمامي، وطبق الدجاج المشوي لرفيقة إتفقنا على تناصف الوجبات، فالدجاج محمر بشكل جيد. إلتهمت اللقمة الأولى من الكبدة. لذيذة.. البهارات والملح معتدلان. بل كانت اللقمة الأخيرة ألذ. حتى العصير الطبيعي كان له ذوق خاص. تأخر الوجبة زاد من لذتها..

كان دوري الأخير في إستخدام الحمام. خرجت مرتاحة ممتلئة بالطاقة، أدندن بأغنية زارت خاطري.. لكن أين الرفاق؟ تلفت حولي. ذهبوا وتركوني. يا إلهي.. حتى حافظة نقودي مع منى. يالها من أنانية.. لم تنبه الآخرين لغيابي.   

"هلا قبلت دعوتي على هذه الوجبة؟"

رن صوت رضوان في أذني. إستغربت تواجده، وقبل أن أرد كان قد دفع الحساب.

"أين البقية؟"

 سحبني بصمت من يدي لخارج المطعم كي نلحق بهم. مسكته آلمتني. تململت وحاولت أن أسحب يدي. فتجاهلني. الحقيقة أني برفقته لن يلحق بي مكروه. ربما ليس سيئا لهذه الدرجة.

 ما إن لحقنا بالبقية، حتى سحبت يدي عنه؛ إنتهى دوره. لكن الجميع حدق فينا. قال صوت لم أتحقق من صاحبه:

"عصافير الحب هم سبب تأخرنا إذن."

كان همسهم مسموع وإشاراتهم واضحة. فصرخت:

"لست حبيبته."

 كم هذا مزعج.. لا يصدقون ولا يخرسون.. يصرون على قولهم.

 دنا مني رضوان وهمس:

"حنان، أنت لي."

همسه مسموع؛ تعمد ذلك بالطبع. فتعالت التعليقات المشجعة كأنهم في مباراة رياضية.

رمقته بإستنكار فأبتسم؛ قد نال مراده.. إتخذت جانبا منه وتمتمت:

"تبا لك ولتعليقات الجميع."

تمنيت لو ينتهي اليوم بسرعة. المؤسف إن موبايلي يعلمني أنها لا تزال الثالثة والنصف.

 

الثلاثاء 3 أوت  2022 

      يوم التسوق، يومي المفضل. إنقسمنا لمجموعات لتمشيط السوق. مجموعتي كئيبة تضم أكره الأشخاص.. هذا حظي السيء كالعادة، لكن لن أسمح لوجودهم بإفساد يومي. يا الله.. ظهرت علبة المكياج، فتتزين منى دون حرج وسط الجموع من الناس. رمقها خطيبها وهو ممسك بحقيبتها. على وجهه بسمة بلهاء.. تقدمنا ببطء ممل. نمر على المعروضات دون توقف. إلتصقت منى بخطيبها، بينما رضوان يتحرى قربي. همست له:

"ابتعد عني."

قربه أزعجني.. لكن تراجعه للخلف أشعرني بالخوف. كما لو أن إنسحابه حرك مشاعري.. مستحيل. لن تغريني وسامته؛ سيظل مشوه المشاعر.

مرّ الوقت بملل بين محلات مستلزمات العروس. تترصدها منى لتشتري الماركات بسعر معقول.. ثرثرتها أضجرتني. لكنها ستعتبر مقاطعتها غيرة وتشيع ذلك عني في كل المناسبات.

أقسم بالله، حفظت أنها خطبت صغيرة. لكنها تستمر التفاخر.  

نفذ صبري.. فقررت التمرد. وهمست لرضوان:

"أتركني، ولا تلحق بي."

إبتسم. غادرت مسرعة على عزم العودة. غير أن الأسعار أغرتني، وربما أيضا تنوع الماركات والألوان؛ فإلتهيت بالمعروضات..

بدأ شاب يزعجني. تغاضيت عن كلماته البذيئة لألا أستفزه ويتهور عليّ. حاولت الإتصال للإستنجاد بزملائي.. لكن لا أحد يرد.

خطر ببالي رضوان.. فلم يتبق لي غيره. أجاب متلهفا:

"حنان أين أنت، هل أنت بخير؟"

أرشدته لمكاني. وإختبأت في محل لحين قدومه..

بعد وقت وجيز جاءني إتصاله:

"وصلت."

بحثت عنه خائفة. فلمحته يرمقني بنظرته ذاتها.. لا أدري هل تروقني الآن؟ المؤكد أن وجوده مطمئن.

"آسف. لن أقصر في حمايتك مجددا."

صدقت وعده وإعتذاره.. وغمرني إحساس الأمان بوجوده. بكيت بحرقة، ولم أخجل أن يرى ضعفي..

   

الأربعاء 04 أوت 2022   

      في تمام الرابعة مساءا تقدمت بتتثاقل عبر الممر الرئيسي لحديقة التسلية. ناداني رضوان:

      "حنان."

      كما تمنيت.. رغم كرهي للإسم. تمشينا.. قربه ومسكته القوية ليدي جعلاني أتمنى التخفي بين السياح، هذا المكان مغري للتصوير. فتصورنا للذكرى.

       عند أول الليل وصلنا إستدعاء القائد للمغادرة. إنزعجت.

       "لماذا الآن؟" 

فواساني رضوان:

"لا تقلقي، أعدك بلقاء جديد."

أدمنته .. وأزداد تعلقا به كل يوم.

 

الثلاثاء 09 أوت 2022

 آخر يوم للرحلة. بالمساء تواعدت مع رضوان. كان غامضا فسألته:

"هل تحبني؟"

 أسكتني بالأيسكريم. قضم من خاصتي، ثم رمقني بنظرته المركزة الساحرة.

"حنان أنا أحبك."

قوله زاد حيرتي، قد صرح لحنان بحبه.  لكن لما يدعوني هكذا؟..

     إتصلت ماما. إستأذنته في الإبتعاد لأكلمها. لكنه سحب الموبايل قائلا:

     "بل أكلمها أنا."

ظل مبتسما وممسكا بيدي أثناء حديثهما. أكد كلاما تقوله، ثم أغلق. عشر دقائق فقط معه أنست أمي السؤال عني.. فلا عجب أن يأسر قلبي وعقلي في أسبوع. لكن.. الأمور تتسارع بشكل مريب. وعوده لا تطمئنني. هل نسى طليقته حقا؟. ياه.. من هذه الهواجس..

 

      الأربعاء10  أوت 2023    

      إنتهت الرحلة، ووصلنا لمنازلنا في وقت متأخر. إرهاق الطريق جعل أجفاني تلتصق ببعضها. دخلت إلى الفراش مباشرة، فشككت في كنه الرحلة. هل هي حلم أم حقيقة؟

 

 28 من  أوت 2022

 قرابة العاشرة صباحا.. أمسكته خارجا من مكتبه فأرتبك.

" أريد تفسيرا."

"الأمر أني.. شغلت ببعض الأمور."

أمسكت بيده فأشاح بوجهه بعيدا.

"إنتظرتك والدتي كما إتفقتما."

تشاغل بتفحص موبايله.. بعد فترة ممتدة أمسك الباب ليخرج.

أوقفته فأستنكر قائلا:

"عن إذنك.. حنان تنتظرني."