ارتفع صوت طائرة الاستطلاع فوق حي العلمي المجاور لمخيم جباليا في ضحى اليوم التاسع عشر من فبراير ، الصوت غليظ قبيح، يعلو ويجأر في بشاعة منفرة ، تقفز ريهام بارود من أمام دفترها هاتفة : ـ الزنانة .. تفتح النافذة ، تطل جهة الصوت فلا تر شيئاً ، يستمر الصوت الغليظ يعلو ويهبط في صوت منفر وحشي كصوت حيوان خرافي يجأر من بلعوم عميق ، تضع يديها أمام عينيها تحاول تحديد مكان الطائرة الزنانة دون جدوى .. ـ أمي لا أراها .. قالت الأم : ـ يا ريهام لا تتعبي نفسك .. لن تريها .. هذا النوع من الطائرات لا يراه أحد . بيسان ابنة السابعة أتت بمقعد ، علت عليه لترى هي الأخرى الزنانة من النافذة ، لم تتمكن من رؤية شئ .. تصطدم يدها بإناء الزهر البلاستيكي .. يقع على الأرض محدثاً ضجة .. تؤنبها أنظار الأم بصمت . الصوت يزداد وحشة ، صبر ريهام نفد وهي ترى عقارب الساعة تقترب من موعد دوامها في الفترة الثانية في مدرسة بنات جباليا "و" للاجئات .. تسرع بالخروج مع أختها بيسان .. الشارع يمتد شرقاً وغرباً .. المدرسة لا تبعد كثيرا ًعن الحي ، البنات يملأن الساحة المواجهة للمدرسة ، والتي يتناثر فيها الباعة ، الصغيرات ينتظرن رنين الجرس ، الوقت قبل الظهر ، هذا نهار سماؤه صافية وشمس فبراير اليوم دافئـة ، الأشجار العالية تظلل أجزاء من سطح المدرسة وجدارها الخارجي ، تبحث الصغيرات عن الدفء تحت الشمس .. يستمر الصوت الغليظ للزنانة في وتيرة تعلو وتهبط ، الناس في المخيم يكرهون صوتها ، فهو دائماً نذير شؤم وخراب ، إذ اعتادوا أن يسمعوا أو يشاهدوا قصفاً في الليل بعد كل زيارة ثقيلة للطائرة الزنانة في أجواء مخيمهم .. ـ الليلة اجتياح . يقول البعض . ـ لا . توغل كالعادة . يرد آخر : يحتار الناس بين الاجتياح والتوغل ، والاجتياحات والتوغلات صارت عادة يومية لجنود ودبابات الاحتلال .
َ َ َ
ريهام بنت الحادية عشرة تخرج من فصلها إلى حصة التربية الرياضية في فناء المدرسة ، تقف مع زميلاتها استعداداً لسباقات الجري ، تصطف المتسابقات في الفوج الأول ، يعلو صوت صفارة المعلمة معلنة بدء السباق ، تنطلق بسرعة ، تصل حاجز السباق قبل زميلاتها ، تفوز .. تعلن المعلمة : ـ ريهام بارود هي الفائزة . البنات صفقن لها وتزاحمن على السباق الثاني ، وقفت تتفرج على زميلاتها ، يعلو صدرها ويهبط ، تنكمش رئتـاها ، تندفعان في شهيق وزفير ، تأخذ رئتاها أنفاساً عميقة ، ثم يبدأ لهاثها بالخفوت بعد الجري .. " جريت مثل الطيارة ، بخفة وسرعة ، كدت اصطدم بصديقتي خلود .. ربنا ستر ، كان وقعت على الأرض وخسرت السباق " . وحين ارتفع صوت المؤذن من الجامع القريب كان صوت المتسابقات قد هدأ ، والجئير الموحش للزنانة اختفى تماماً . خرجت ريهام من الصف الخامس الابتدائي مع صديقتيها خلود ورانية ، تحمل دفاترها وألوانها وواجباتها في حقيبتها المدرسية ، رئتاها ما تزالان دافئتين ، أمسكت يد أختها بيسان في طريق العودة ، وصوت الآذان الشجي لا يزال يعلو من مكبر مئذنة الجامع الواقع في منتصف المسافة بين المدرسة والبيت ، قالت بيسان : ـ اليوم في درس الرسم رسمنا دبابات وطائرات وجنوداً يواجهون الأطفال في الحارة الصغيرة ، أنا أوقفت الدبابات السوداء عند أول الزقاق فلم تستطع الدخول في الزقاق الضيق .. ولوّنت الأطفال الذين كانوا يرجمونها بالحجارة ، انظري يا ريهام ما أحلى رسمي .. قرفصت في الشارع إلى جانب الجدار تخرج دفتر رسمها من الحقيبة لتريه لهن .
قالت ريهام لها : ـ في البيت .. سأراه في البيت يا بيسان . لم تكترث بيسان لكلامها واستمرت تفتش في حقيبتها .. أخرجت كراس الرسم ، فتحته على الصفحة المرسومة وبدأت تشرح .. ريهام وصاحبتيها خلود ورانية يتحدثن ويتصايحن بفرح عن درس الألعاب ومسابقات اليوم ، اختلط الكلام بالصياح بالفرح بجلبة الأطفال العائدين إلى بيوتهم . ريهام أمسكت كراس الرسم تحت إلحاح الصغيرة وقالت : ـ عندما نعود للبيت سأعطيك الألوان الناقصة من رف كتبي لتكملي التلوين . تفرق الأطفال في الشوارع والأزقة ، حي العلمي يفصله عن المخيم مجرد شارع لا يتعدى أمتار قليلة ، البيوت تكاد تكون متداخلة ، سكان الحي هم من اللاجئين سكان المخيم الذين ضاقت البيوت بأسرهم الكبيرة فانتقلوا إليه .. مضت ريهام مع أختها وصديقتها رانية في طريق العودة بعد أن تركتهم خلود إلى زقاق بيتهم .. في الشارع شيوخ وشباب يهرعون جهة الجامع للصلاة ، شمس فبراير فـوق الرءوس ، أبواق عربات نقل الركاب على شارع "الترك" تتردد بين الحين والآخر ، توزّع الأطفال العائدين من مدرستهم في الأزقة والحواري ، البنات الثلاث دخلن إلى الزقاق ، بيسان تتلكأ كلما رأت شيئاً يلفت النظر ، تحمل حقيبة كتبها على كتفها وريهام تحكي لصديقتها رانية عن زيارتها الأخيرة لمدينة الملاهي قرب البحر : ـ المراجيح أخذتني عالياً حتى رأيت الأولاد على الأرض صغاراً مثل أقلام الألوان .. هل ذهبت يا رانية إلى هناك ؟ ـ طلبت من والدي أن يأخذني إلى هناك .. قال لي سيأخذني عندما يعمل ويكون معه النقود اللازمة .. والدي لا يعمل من شهور ..
انقطع الكلام ، حدثت في الحارة ضجة عالية ، جرى الشباب إلى الشارع الواسع يراقبون طائرة الهليوكبتر التي سبقها صوت محركها ومروحيتها إلى المكان .. وقفت بيسان عند أول الزقاق تنظر إلى الناس بتلقائية ، ريهام تتقدم صديقتها بأمتار قليلة إلى الأمام تنادي على أختها للحاق بهما ، حامت الطائرة مرة .. وفجأة حدث في الزقاق انفجار كبير ، تعبأ الزقاق بالدخان الأسود ، الغبار ، رائحة البارود . تناثرت الجدران والأشياء في الزقاق والساحة القريبة ، صرخت ريهام وقعت على الأرض ، امتلأت رئتاها بالبارود والغبار ، حامت الطائرة مرة ثانية ، ارتفع صوت محركها في صخب شديد ، فرّ الناس من الزقاق إلى الساحة الواسعة ، علت الطائرة واستدارت جهة الشمال مغادرة .. انطلق الواقفون في الساحة إلى مكان القصف ، ريهام تصرخ بشدة ، ينزف الدم من أعلى قدمهـا .. سقط كراس الرسم من يدها ، يتلوّن بالأحمر ، يحملها شاب يافع إلى عربة وقفت قريباً من المكان .. تندفع العربة مطلقة أبواقها طوال الطريق إلى مستشفى العودة القريب من المخيم .. الدم النازف لا ينقطع ، تصرخ .. تبكي .. صوت الطائرة اختفى بعد أن قصفت المبنى بقذيفة واحدة موجّهة ، البارود والغبار يلوثان وجه ويدي ريهام ، والشاب يحاول وقف النزيف بقميصه ..
دخلت العربة بوابة المستشفى ، التفّ الأطباء والممرضون حول سريرها لإسعافها ووقف النزيف .. صرخت خائفة : ـ لا أريد أن تفعلوا لي شيئا .. لا أريد أن تفعلوا لي شيئا.. ظلت تصرخ وتبكي . قال الطبيب : ـ لا تخافي .. لا تخافي ، لن نفعل شيئاً .. أنت بخير . كل الكلام لا يوقف صراخ ريهام وبكائها ، أسعفها الأطباء ، أوقفوا النزف ، قال الطبيب بعد أن تفحص صورة الأشعة : ـ الشظية اخترقت اللحم وخرجت ، الحمد لله .. العظم سـليم . قلّبوا جسدها ، اطمأنوا عليها ، بدأوا في تنظيف الغبار والدخان والدم عن وجهها ويدها ، ساعات مرت وهي لا تكف عن البكاء : ـ حقيبتي ظلت في الشارع ، دفتر بيسان .. أين أختي بيسان ؟! أين صديقتي رانية ماذا حدث لهما ؟! " . دخل والدها عبد الرحمن الذي فاجأه النبأ إلى حجرة المستشفى ملهوفاً ، يمسك ابنته بيسان وكراس الرسم في يدها عفره التراب والبارود والدم . أوقات عصيبة مرت حتى غادرت ريهام المستشفى إلى المنزل .. لكنها لم تستطع العودة إلى مدرستها إلا بعد أسـابيع ، وحين أتت تلميذات الفصل لزيارتها في البيت ، عرفت أن صديقتها رانية فلفل أصيبت هي الأخرى ، أما الطفلة إيناس صلاح ابنة العاشرة فقد استشهدت بعد أسبوع لإصابتها الخطيرة أثناء مرورها في الشارع لحظة القصف .
وحين عادت إلى مدرستها ، استقبلتها البنات والمعلمات وناظرة المدرسة بحب كبير ، وقفت الناظرة على منصة المدرسة تلقي كلمة ترحيب بها ، لحظات وغطى على كلماتها صوت موحش قادم من بعيد ، تطلعت البنات الواقفات في الطابور إلى أعلى .. تمتمت ريهام " الزنانة عادت مرة ثانية .. لا أحد يراها قالت أمي .. " .. يرتفع صوت الزنانة في وحشة وكآبة . عيناها ثابتة على المنصة ، اضطرب فكرها عند سماع الصوت الموحش للزنانة ، تبدلت تعبيرات الفرح من كلمات الناظرة لتعلو وجه ريهام علامات الاضطراب والاصفرار ، تضع يدها على مكان الجرح في خوف واضـح ، فمنذ إصابتها لم تعد تهتم برؤية الزنانة من النافذة كما كانت تفعل سابقاً ، بل وصارت تهبط بسرعة مع بيسان إلى الحجرة السفلى من المنزل تختبئ من الشر الآتي ..
************** إلى الطفلة ريهام عبد الرحمن بارود ـ ابنة الحادية عشرة ـ من حي العلمي بمخيم جباليا.