اكتشفت في زمن الكورونا أنني لا أميل للعودة إلى اللوحات التي تجسّد الأوبئة القديمة بل إلى تلك التي تصوّر الحياة نفسها باعتبارها وباءً ممتدًا .. قد يبدو هذا مناورة ترويضية للتهديد المباشر للوباء، أو ما يشبه تخففًا من الوعيد المتنامي لوحشيته .. لوحات "عبد الهادي الجزار" تمثل ذلك بصورة حادة وناصعة من خلال قرائن محددة: العقاب الغيبي .. طقوس التطهر، خاصة في تجلياتها الأسطورية الشعبية .. التمادي في انتهاك المحظور كتناغم مع الشر المطلق الذي يسبق العقاب، وكجزء من التطهر ذاته.
انتهيت مؤخرًا من قصة قصيرة عن شخص يؤمن بأن ما يقف وراء وباء كورونا مجرّد رغبة في الاستمتاع الخالص بتعذيب البشر وقتلهم على نحو شامل، بنقاء تام من المقاصد الأخرى، وهو ما يدفع ذلك الشخص لتعمّد إصابة نفسه بالمرض، بوصفه انسجامًا جماليًا، قبل أن يكون واقعيًا، مع الحقيقة الماورائية للعالم التي تمثلها هذه الرغبة المنتشية في تدبير إبادة جماعية لا يمكن تعطيلها مبكرًا.
يحيلنا هذا إلى الامتزاج الوجودي عند "سرن كيركجور" بين "التصرف كما لو قد جيء بك إلى العالم من عند تاجر رقيق"، وبين "أن تترك نفسك للشيطان ليطهّرك من كل رجس، حيث ذلك هو المذاق الكامن في غموض الخطيئة"، وبين "الاستسلام اللامتناهي كمرحلة أخيرة تسبق الإيمان".
الوباء في لوحات "عبد الهادي الجزار" هو إرادة كونية تتقدم على الحياة، يجدر مسايرتها عن طريق التناثر الشهواني بين متناقضاتها: لاحظ العيون التي يسكنها الاحتضار، ومع ذلك يبدو كأنها تراقب سرًا خارج ذاكرتها .. الملامح المنهرسة، التي تظهر كما لو أنه تم ترميم أجزائها غير المتناسقة بعد تحطمها في الأزل، الأمر الذي يجعلها بعد تلاحم باهت أقرب إلى خلفيات خشبية لمرايا مخبوءة .. الأجساد المتواطئة في احتفال كابوسي للفناء، كأنما كل لوحة قناع ماكر لقبر مفتوح، تتزاحم داخله المصائر .. بهذه الكيفية يمكن أن تتخطى قراءة لوحة كـ "الكورس الشعبي" مثلًا التأويل الشائع المتعلّق بـ "مأساة المقهورين" .. كذلك لوحات "العائلة"، و"تحضير الأرواح"، و"المجنون الأخضر" كنماذج؛ فالتعاويذ والطلاسم والتشكيلات الطوطمية والسراديب والمجاذيب والأضرحة والأوشام ليست علامات ميتافيزيقية للدجل والخرافة، أو مجرد توظيفات رمزية للميثولوجيا الشعبية، وإنما لعب جدلي مع القدر، الإثم، الخلاص، اندماج سحري يعادل ذلك الذي كان لدى "كيركجور" بين الأوهام المتنافرة للطمأنينة والخلود.
تفضح العيون في لوحات "عبد الهادي الجزار" الإبهام المتجذر في فكرة العقاب، وبذلك يكون التطهر تمجيدًا ملغزًا للخطيئة، حيث التوحد مع "الوباء الممتد" أو فكرته البدائية "الخالقة" والمقدسة التي يتم الخضوع لها.