الكتاب : التنوع العصبي، اكتشاف المواهب فوق العادية للتوحد وتشتت الانتباه والدسلكسيا وغيرها من الاختلافات الدماغية
الكاتب: توماس أرمسترونج
الناشر: دا كابو بريس 2010
ماذا لو تم التركيز على الجوانب الإيجابية في الأطفال الذين لديهم تشتت انتباه ودسلكسيا وتوحد بمعنى أن ننقل التركيز من كونهم معاقين مثلا إلى كونهم مختلفين؟ ماذا لو فعلنا هذا؟ بل ماذا لو فعلنا هذا مع من نسميهم عاديين في المدارس والبيوت فركزنا على أنهم مختلفون وبحثنا عن نقاط القوة لديهم وجوانبهم الإيجابية. وكيف ننشئ مدارس تدعم هذا التوجه ؟
هذا موضوع كتاب "التنوع العصبي" لتوماس ارمسترونج . يذكر مثلا أن المصابين بالدسلكسيا يرون الأمور بأبعاد ثلاثة وأن المتوحدين أو المصابين بالتوحد أقدر على التعامل مع الأشياء من التعامل مع الناس وأن أصحاب تشتت الانتباه يملكون أسلوبا في التركيز يختلف عن بقية الناس. هم مختلفون. ولا شك أنهم يعانون في مدارس كمدارسنا وثقافات كثقافاتنا ولعلهم لا يعانون أبدا أو بنسب في ثقافات أخرى أو مساحات أخرى أو مع أناس آخرين يحملون خرائط ذهنية مختلفة وتصورات مختلفة وعوالم ذهنية مختلفة وهذه قضية مهمة جدا. إن الطريقة التي نرى بها الأمور مهمة جدا والمشكلة ليست أحيانا في المشكلة بل في كيف نرى المشكلة. والثقافات متفاوتة وإحساس هؤلاء بأنهم طبيعيون نسبي تبعا للثقافة التي يعيشون فيها كما أن إحساسهم بأنهم ليسوا مرضى بل هم مختلفون فقط يعتمد على الثقافة التي يعيشون فيها.
ونحن كثيرا ما نطلب من الناس أن يتغيروا وهذا مطلب جيد، ولكنا لا ننتبه إلى أن هؤلاء الناس أو كثيرا منهم لا عيب فيهم بل العيب فينا وفي ثقافتنا وفي كيف نرى هؤلاء الناس وفي المؤسسات التي تتعامل معهم وتصدر فيهم أحكامها وتصبح هذه الأحكام عناوين لهؤلاء الناس ولا يظن أحد على الإطلاق أن المؤسسات نفسها تحتاج إلى أن تتغير. وعندها لن يكون هؤلاء الناس سيئين الخ بل سنراهم مختلفين وسنرى أفضل ما عندهم وقد يستفيد المجتمع منهم بل قد تستفيد المسيرة الحضارية منهم ومن مواهبهم التي كان من المستحيل أن نراها بمنظورنا القديم ومنظور مؤسساتنا التقليدية.
يتحدث المؤلف عن ثقافة الإعاقة في الولايات المتحدة وأن الستين سنة الماضية شهدت نموا في عدد الأمراض النفسية ويعزو هذا إلى التقدم الهائل في الأبحاث المتعلقة بالدماغ وكيف يعمل ومع أن هذا التقدم ثور (من ثورة) فهم الدماغ إلا أنه سببَ ثقافة الإعاقة. والمشكلة أن الباحثين يركزون على الأمراض الدماغية فبدلا، مثلا، من التركيز على ما يحدث في الفلقة اليمنى لأصحاب الدسلكسيا تراهم يركزون على القصور في الفلقة اليسرى . كما أن مشخصي الاضطرابات الذهنية لم يتلقوا أي تدريب في الأنثروبولوجي ولا علم الاجتماع ولا علم البيئة وعلاقتها بالإنسان وهذا حرمهم رؤية الأمور بنموذج التنوع البشري.
ومن الأسباب أيضا نمو الجماعات الداعمة لعلاج أمراض ذهنية معينة ولا شك أن دور هذه الجماعات كان جيدا وساهمت كثيرا في جمع تبرعات ومساهمات لعلاج المصابين بالتوحد وغيره ولا شك أيضا أن هذه الأموال لا يمكن أن تُجمع لو أن التوحد نُظر له كجزء من الطيف الإنساني والتنوع العصبي اتضح الفرق الآن. التركيز هنا ليس على الجوانب السلبية بل الإيجابية أي التركيز على الاختلاف فبدلا من النظر إلى التوحد كمرض ننظر إليه كاختلاف .
متى بدأت حركة التنوع العصبي؟
أولا مفهوم التنوع العصبي بدأ كحركة قام بها من وُضعوا تحت عنوان التوحد وأرادوا أن ينظروا إلى أنفسهم كمختلفين لا معاقين، وأول استخدام لها مطبوعة في عام 1998م في مقال كتبه "هارفي بلوم" وأما أول من وضع الكلمة فهو "جودي سنجر". والمفهوم يسلط الضوء على الطيف الواسع من التنوع العصبي والنفسي والنظر إليه لا كمشكلة بل كمظهر بديل ومقبول للإنسان أو كاختلاف كما ذكرت من قبل والمؤلف سيتحدث عن تشتت الانتباه والتوحد والاضطرابات المزاجية واضطرابات القلق والإعاقات الذهنية والشيزوفرينيا أو إنفصام الشخصية
المبادئ الثمانية للتنوع العصبي:
المبدأ الأول: الدماغ البشري لا يعمل كماكينة بل هو يعمل كمنظومة بيئية والمنظومة البيئية هي بيئة بيولوجية تحتوي على كائنات حية وموجودات غير حية تتفاعل معها الكائنات الحية مثل أشعة الشمس والماء الخ . فالدماغ البشري بالتالي يملك قدرة ذاتية ليغير نفسه استجابة للمتغيرات حوله وقد ذكرت من قبل في مكان ما القصة التالية:
في عام 1959م اصيب "بدرو"- شاعر وأستاذ- بجلطة وكان في 65 من عمره وأدت الاصابة الى شلل في الوجه ونصف البدن وعدم القدرة على الكلام. فأخذه إبنه جورج وكان طالب طب في المكسيك(والذي أصبح محلل نفسي) إلى المكسيك بعد ان اخبره الأطباء بأنه لا امل في شفاء ابيه وان عليه ان يضعه في مصح.
أدخله الإبنُ المستشفى الأمريكية البريطانية لإعادة تأهيله إلا أنه لم يثمر شيئا . ولم يعرف جورج شيئا عن إعادة التأهيل وهذا أفاده كثيرا لأنه نجح في علاج والده بكسر قواعد إعادة التأهيل كلها في ذلك الوقت.
وقرر الإبن بدلا من تعليم والده المشي أن يعلمه الزحف! نعم الزحف. وهذا ما يفعله الطفل قبل الحبو والمشي.وأخذ الأمر عدة اشهر وكان جورج يحول ما يفعله الإنسان في حياته يوميا إلى تمارين.فكانوا مثلا يستخدمون أواني الغسيل لتمارين اليد فعلى الأب أن يضع يده في القدر وأن يحركها باتجاه عقارب الساعة لمدة 15 دقيقة ثم العكس فكانت محدودية القدر تساعد كثيرا في إبقاء اليد في حيز محدد ومع الأيام اصبح الأبُ يضع الخطوات التالية لتمارينه لإنه أراد أن يصل إلى أن يجلس مع ابنه ويتناول الطعام معه.ومع الأيام انتقل الاب من الزحف الى الحبو الى الوقوف الى المشي.وبعد اشهر تكلم وبعدها عاد الى الكتابة واستخدام الالة الكاتبة وعندما وصل 68 من عمره عاد مُدرسا في نيويورك وعمل الى ان تقاعد وهو في السبعين من عمره.ثم وجد عملا اخر في حقل التعليم في سان فرنسسكو وتزوج ثانية وظل يعمل ويسافر ويمشي في البرية لسبع سنوات وفي زيارة لكولومبيا ذهب لتسلق جبل وعلى ارتفاع 9000 قدم اصيب بنوبة قلبية ومات بعدها وهو في 72 من عمره.
واعيدت جثة الاب الى انسيسكو وتم تشريحها وكان العام 1965 فماذا وجدوا؟
وجدوا أن الضرر الذي أصيب به الأب كان في جذع الدماغ القريب من الحبل الشوكي وأن مراكز مهمة في الدماغ تتحكم في الحركة كانت تالفة وأن 97% من الأعصاب التي تصل القشرة الدماغية بالحبل الشوكي مدمرة. فكيف إذن استطاع الأب المشي والكتابة وإلقاء المحاضرات والزواج وتسلق الجبال؟؟؟؟؟
لقد كانت قصة والده أولَ دليل على أن الشفاء المتأخر يحدث حتى لو كانت الإصابة أو الضرر كبيرا وحتى لو كان الشخص متقدما في السن.كما كانت دليلا على أن الدماغ يستطيع أن يعيد تنظيم نفسه بعد جلطات مدمرة لاستعادة وظائف معينة يقوم بها .
وهذا جعل الإبن يغير مسار عمله ويتجه لإعادة التأهيل وعلم الأعصاب وأدرك أنه لا بد من تحفيز المرضى ليتم شفاؤهم .وتحفيزهم يكون بالتمارين التي تشبه الأنشطة الحياتية اليومية. وبدأ بدمج ما يعرفه عن "المُطَاوَعة الدماغية "plasticity في تصميم التمارين.وكان التقليد السائد أن محاولات إعادة التأهيل تتوقف بعد أسابيع عدة عندما يتوقف تحسن المريض plateaued ويفقد الأطباء حافز الاستمرار إلا أنه وضح لهم أن التوقف جزء من دورة التعلم الدماغية القائمة على المطاوعة أو المرونة حيث يحاول الدماغ جمع المتفرقات بعد فترة من التعلم كأنه يهضم ما تعلمه فيظن الظان أن التحسن قد توقف.
وبدا الإبن بتطوير برنامجا يساعد المصابين بتلف أعصاب الوجه المحركة له فلا يستطيعون إغلاق أعينهم مثلا فأخذ عصبا إضافيا متصلا عادة باللسان وربطه بعملية جراحية بعضلات الوجه ثم طور برنامجا لتدريب هذا العصب وخاصة الجزء من الدماغ الذي يتحكم فيه ليقوم بدور عصبٍ للوجه.واستطاع بهذا المرضى أن يتكلموا ويغمضوا أعينهم الخ.
The Brain That Changes Itself
https://amzn.to/3KY2rzB
المبدأ الثاني: البشر والأدمغة البشرية تنتشر على مساحة متدرجة أو متسلسلة من الكفاءات
إذا أخذنا مثلا الاختلاف بين الناس في الجانب الاجتماعي، فسنرى أن الاختلاف متدرج أو متسلسل ففي نهاية من نهايات السلسللة توجد الحالات الحادة من التوحد ولكن يوجد طيف من اضطرابات التوحد فهناك ما أطلق عليه " أعراض اسبرجر" وهي حالات توحد بمستويات اجتماعية أعلى ثم هناك أناس يفضلون العزلة (ليسوا مصابين بالتوحد) وهناك الانطوائيون وهكذا إلى أن نصل إلى الأشخاص الذين يعيشون حياة اجتماعية عالية.
النقطة هنا هي أن المعاقين ليسوا جُزرا من عدم الكفاءة مفصولة تماما عن الناس "الطبيعيين" بل يقعون في مدرج أو سلسلة يُعتبر السلوك الطبيعي فيه نقطة توقف في الطريق.
المبدأ الثالث: الكفاءة أو القدرة البشرية تعرف بقيم الثقافة التي تنتمي إليها
يوضح هذا ما ذكره المؤلف من أن طبيبا يدعى صمويل كارترايت نشر مقالا قبل الحرب الأهلية في أمريكا زعم فيه أنه اكتشف اضطرابا ذهنيا جديدا اسماه "درابتومانيا" أي جنون الهروب وأن هذا الاضطراب يصيب العبيد الهاربين!!! ويرى المؤلف أن الذي كان يُعد علما نعتبره اليوم عنصرية مقيتة. فالقيم في ذلك الوقت تقبلت مثل هذا الكلام ولكنها ترفضه اليوم.
ويعطي مثالا آخر بالدسلكسيا . فهو ينتهك اعتقادنا بأن كل طفل لا بد أن يقرأ وهكذا. بمعنى آخر قد لا تكون الدسلكسيا (وهي صعوبة في القراءة) مشكلة في مجتمع آخر أو ثقافة تحمل قيما أخرى.
المبدأ الرابع: الحكم على كونك موهوبا أو معاقا يعتمد كثيرا على متى وأين ولدت
بمعنى أن ما يُعد مرضا في حضارة –كما يقول " إيفان إليتش"- قد لا يكون كذلك في أخرى بل قد يكون خطيئة أو أمرا مقدسا أو خطأ جينيا والسارق في حضارة قد يُعاقب وفي أخرى قد يُعطى من الصدقات والضرائب وفي ثالثة قد يُعالج وهكذا ، كما أن الزمن الذي يُولد فيه الإنسان له علاقة بالحكم عليه فقد يولد في زمن يرى أصحابُه فيه أن ما يقوم به يُعتبر جنونا وفي زمن آخر يكون عبقرية وموهبة
يذكر المؤلف أنه عمل معلم تربية خاصة في الولايات المتحدة ولاحظ أن أطفال فصول التربية الخاصة ضعفاء في الأمور التي تثمنها المدارسُ كالقراءة والكتابة والحساب إلا أنهم أقوياء في أمور أخرى لا تُقيم لها المدارسُ وزنا كالفن والموسيقى والطبيعة والمهارات البدنية وبالتالي يُنظر إلى هؤلاء الطلاب كَمُشتتي انتباه أو يعانون من صعوبات تعلم أي يتم تعريفهم وفق ما لا يستطيعون فعله لا وفق ما يستطيعون فعله.
المبدأ الخامس: النجاح في الحياة يقوم على تكييف الدماغ لحاجات البيئة المحيطة.
وهذا المبدأ لا يحتاج إلى شرح كبير أو كثير فالحالات التي ذكرها المؤلف يتم تكييفها بأدوية وغيرها من التعديلات السلوكية لتصبح قادرة على التعامل مع عالمنا ولو نسبيا
المبدأ السادس: النجاح يقوم أيضا على تغيير البيئة المحيطة لتتكيف هي مع حاجات الأدمغة الفريدة أو المختلفة.
وهذا يعني تهيئة بيئة ملائمة لهذه الأدمغة فلا نكتفي بالمبدأ الخامس بل لا بد من المبدأ السادس
يقول أرمسترونج في مقال سابق له بأنه عمل قبل فترة في مؤسسة تساعد المعلمين على استخدام الفنون في الفصول وكان العملُ في مستودع في حي تحيط به اسر عاملة من الطبقة الدنيا-ماديا- وكان بعض أبناء هذه الأسر يتطوعون للقيام ببعض الأنشطة ومنهم” إدي” الذي كان من أصول أفريقية وفي التاسعة من عمره. كان إدي يُشكل مشكلة في فصله!!!! :يتكلم بدون إذن ولا يستطيع الجلوس طويلا على الكرسي ويتجول في الفصل فكان كالسمكة خارج الماء بتعبير الكاتب.وما يقوم به يضعه في خانة تشتت الانتباه ADD ولكن نشاط وحيوية إدي في المؤسسة مثل التجول مع المشرفين الكبار للبحث عن المواد التي اعيد تدويرها ليستخدمها المعلمون في الفنون ثم تنظيمها وفحصها تحولت في محيط المؤسسة الى مصدر للعطاء.
فهل يوجد هذا الاضطراب في الطفل أم في علاقته بالبيئة؟
المبدأ السابع: البيئة الملائمة تشمل المهنة واختيار أسلوب الحياة والتقنية المساعدة والموارد البشرية وغيرها من الأمور المناسبة لحاجات أصحاب التنوع العصبي.
كيف؟
هل ترون أن بيئة عمل مكتبي في شركة من التاسعة إلى الخامسة تلائم أصحاب تشتت الانتباه؟؟
هل ترون أن شخصا عنده دسلكسيا(قدرات مكانية أو فراغية واسعة) يصلح له عمل يتعامل فيه مع الكلمات اليوم كله؟
لقد أتاح التقدم التقني ما يعين أصحاب التنوع العصبي مثل استخدام الهاتف الذكي على سبيل المثال.
المبدأ الثامن والأخير: البيئة الملائمة الإيجابية تغير الدماغ مباشرة وهذا بدوره يعزز قدرة الدماغ على التأقلم والتكيف مع البيئة المحيطة.
وقضية تغير الدماغ تحدث مهما تقدم عمر الإنسان وقد قدمت نموذجا تحت المبدأ الأول.
يقول المؤلف:” إن الأطفال الذين عندهم استعداد جيني للاكتئاب أو القلق(حساسون عاطفيا)، مثلا، يحتاجون لأسَر ومدارس آمنة ومُحبة وواضحة التوقعات. والأطفال المعرضون لإعاقات تعليمية(بمعنى الذين يتعلمون بشكل مختلف) يحتاجون بيئة تعليمية محفزة تساعدهم في مهاراتهم الصوتية. والأطفال المصابون بالتوحد يحتاجون فرصا لتفاعلات اجتماعية لها معنى. ”
المصادر
كتب لتوماس أرمسترونج
المعهد الأمريكي للتعلم والتنمية البشرية
اطفال التوحد - مركز بداية
مدونة خالد عاشور