االتركيزُ الشعريّ وآفاقُ التشكيل
قراءةٌ في قصائد زمنُ الجَّوَى لحكيم نديم الدَّاوودي
د. محمّد صابر عبيد - جريدة الدستور 1 ابريل 2016
(زمنُ الجَّوَى، حكيم نديم الدَّاوودي، الطَّبعة الأولى ستوكهولم 2016، دار نشر فورفاتاريه بوكماشين)
تعدّ آليّة التركيز الشعريّ الصيغة الأكثر إسهاماً في ضبط آفاق التشكيل في القصيدة، والشعر في صورته القصوى تركيزٌ وتصويرٌ وتشكيلٌ تتفاعل فيه فضاءات التعبير وفضاءات التشكيل ضمن رؤية شعرية مشتركة، إذ يحرص الشاعر العارف على إدراك ذلك وتسخير وعيه وتمثّله وخبرته وإحساسه النوعيّ من أجل بلوغ المرتبة المناسبة لصوغ شعريّ نموذجيّ، غير أنّ ذلك لا يُتاح للكثير من الشعراء الذين يجرّبون في مقاربة اللغة وإعادة إنتاجها شعريّاً بغيةَ الوصول إلى حلم التفرّد والخصوصيّة، فمنهم من تسعفه أدواته لتحقيق تجربة نوعيّة في هذا المسار بعد سلسلة مغامرات كتابيّة مُنتِجة، ومنهم من يبقى يراوح في مكانه حين لا يطوّر إمكاناته بأعلى قدرٍ ممكنٍ من التحدّي الثقافيّ والفكريّ والفلسفيّ والرؤيويّ، ويستمرّ السجال بين الشعراء واللغة منذ أقدم العصور ولا ينتهي مطلقاً.
قصائد ((زمنُ الجَّوَى))(*) للشاعر العراقيّ المغترب حكيم نديم الدَّاوودي تتطلّع في خطابها الشعريّ العام إلى فسحة رحبة للكلام المعبّر عن حرارة التجربة، وهي تجربة ثريّة في تنوّعها وتعدّد منطلقاتها وخبراتها، بين التجربة الذاتيّة التأمّلية، والتجربة الموضوعيّة ذات الطبيعة الاجتماعيّة والثقافيّة المرتبطة بالأنا الجمعيّة المنغمسة في معاناة مشتركة، فضلاً عن التماعات شعريّة تخرج إلى فضاءات شعريّة تخوض في عناصر الزمن والمكان والطبيعة وغيرها، كي تصنع جوّاً شعريّاً صالحاً للدخول في مغامرة التعبير اللغويّ بالأفق الشعريّ، والسعي إلى الإمساك المتمكّن من أدوات التعبير والتشكيل من أجل بلوغ مرحلة التركيز المطلوبة، وهي تستهدف الوصول إلى حالة التماسك النصّيّ بين شبكة عناصر التشكيل.
ثمّة ستراتيجيّة شعريّة تنهض على فعاليّة بناء اللقطة الشعريّة في بعض قصائد (زمن الجَّوى) بوصفها آليّة من آليّات التركيز، واللقطة مصطلح سينمائيّ استثمره الكثير من الشعراء في إطار تداخل الفنون نحو تشكيل بنية شعريّة بآليّة تركيز صوريّة مقنّنة، تشتغل باتجاه حشد اللغة في منطقة تعبير ضيّقة مشحونة بالخصب تسهم في الارتفاع بتقانة التشكيل الشعريّ إلى أعلى مقام ممكن، بأعلى درجة من التماسك والتشارك والتفاعل، ضمن حساسيّة تنتهي إلى نصّ مكتمل فنيّاً وجماليّاً، وسنقارب مجموعة منتخبة من هذه اللقطات من أجل إخضاعها لقراءة جماليّة تستهدف الكشف عن طرق التركيز الشعريّ وآفاق تشكيله.
في قصيدة ((وحدة)) يتجلّى المكان في مشهد الصورة منذ مطلعها، وينتظم في المجال الشعريّ الذي تتحرّك فيه الأنا الشاعرة باستحواذ شبه مطلق، لكنّ (الآخر) ما يلبث أن يظهر كي يحوّل الحوار الضمنيّ الذي تقوده أنا الشاعر إلى نوع من الصراع الشعريّ الدراميّ للهيمنة على جوهر اللقطة، وتسييرها باتجاه تمثيل رؤية محدّدة للراوي الشعريّ الممثّل الإجرائيّ في النصّ لأنا الشاعر وهي تحاور الآخر الحاضر الغائب:
«في الغرفة الباردة ذهولٌ/ وغول الصَّدمة يتقرّى قامتي/ حوّلني لصنمٍ/ بلا ظلٍّ بلا ألق/ تُرى أأنا الواقفُ أريك سطوعي؟/ كنتَ غيرَ مُكترث بي/ فمَنْ أكونُ لأسرقَ سلطانك/ أنا الآن بين مبضعك الحاد/ طيفٌ عابرٌ أتمرأى للخلائق/ تجري صفوفاً وفُرادى/ بالأمس كنتَ واحداً منهم/ فأرى فرائصك/ يا حكيم تضجّ/ بالمفاجأة/ تسيلُ بلا أنيسٍ».
التفتّح الشعريّ الاستهلاليّ في القصيدة يبدأ بالوصف المكانيّ المرتبط بالحدث (في الغرفة الباردة ذهولٌ/وغول الصَّدمة يتقرّى قامتي/حوّلني لصنمٍ،/بلا ظلٍّ بلا ألق)، فالمحتوى المكانيّ الموصوف (الغرفة الباردة) تمتلئ بالأثر الذهنيّ الجسديّ الذي يتركه الحدث (ذهولٌ)، وكأن الجملة الشعريّة الأولى جملة إعلانيّة إخباريّة تنحت الصورة أمام بصر القراءة، ومن ثمّ تتواصل فعاليّة النحت في الجملة اللاحقة بحضور الفاعل والمفعول (غول الصَّدمة يتقرّى قامتي)، إذ تخضع القامة في إطار عمليات الفعل المضارع (يتقرّى) للتصنيم التجريديّ (بلا ظلٍّ بلا ألق)، غير أنّ الشكل التمثاليّ تمّ إنجازه على مرمى الاستقبال البصريّ على الرغم من تجريديته الخالية من الظلّ والألق، من أجل إنتاج قصديّة الدلالية في إلغاء الملامح محو الهويّة لإغناء سيمياء العنونة (وحدة).
هذا التفتّح الاستهلاليّ المحتشد بالحدث الشعريّ المركّز يُنتِجُ السؤال الذاتيّ الموجّه نحو الآخر مكتظّة بالاحتمال (تُرى أأنا الواقفُ أريك سطوعي؟)، فيحيل دال (الواقف) على التمثال، وتحيل جملة (أريك سطوعي) على حلم تجاوز التجريد فيه (بلا ظلٍّ بلا ألق) إلى السطوع، في سياق بعث الإشراق والضوء في الفضاء الصنميّ، لتأتي الصورة الاسترجاعيّة في آليّة تشكيل سرديّة لا تخلو من حساسيّة دراميّة تحكي وتمثّل صورة الصراع بين الذات والآخر على أنحاء مختلفة (كنتَ غيرَ مُكترث بي/فمَنْ أكونُ لأسرقَ سلطانك،/أنا الآن بين مبضعك الحاد/طيفٌ عابرٌ أتمرأى للخلائق/تجري صفوفاً وفُرادى)، تجعل الذات الشعريّة الساردة في وضع الأقلّيّة والآخر في وضع الأكثريّة.
لكنّها سرعان ما تسترجع الحكاية من بدايتها كي تحقّق المعادل الموضوعيّ في الصورة داخل إشكاليّة الأقلّيّة والأكثريّة (بالأمس كنتَ واحداً منهم،/فأرى فرائصك/يا حكيم تضجّ/بالمفاجأة/تسيلُ بلا أنيسٍ)، بما يجعل من فضاء العنونة (وحدة) فضاءً متحوّلاً غير ثابت على الرغم من احتشادها بإيقاع الثبات، فالحكاية الشعريّة المتحدّرة من عتبة العنوان تُنتجُ نوعاً من الصراع الشعريّ الدراميّ يُسهم في خلخلة ثبات دالّ العنونة.
تتمثّل الصورة في قصيدة ((صوت)) فعاليّة الإيقاع الدلاليّ المرتبط بآليّات وحدات التشكيل في اللوحة الشعريّة، العنوان الإيقاعيّ المفرد المنكّر (صوت) ينفتح بصيغته التنكيريّة على أوسع مدى احتماليّ ممكن، على مستوى إمكانيّة التعدّد والتنوّع والاختلاف، وتفيد الصورة/اللوحة كثيراً من حساسيّة هذا الانفتاح في رسم اللوحة وتشكيل الصورة، وتحريك الدالّ العنوانيّ الخبريّ (صوت) نحو الاتجاهات كلّها كي يملأ الصورة بإيقاعه:
«عندي صفيرُ الجّدول/ تقرؤه السُّنبلة ُ/ كلُّ صباح/ عذبٌ/ مُغمّسٌ بالعسل..».
الظرف الزمكانيّ (عندي) حيث تشرع القصيدة بسرد متنها الشعريّ يسحبُ المضمونَ الحكائيّ مباشرة إلى منطقة الذات الشاعرة، ويغذّيها بحالة التملّك والاستحواذ وفرض النفوذ، وتتجلّى الطبيعة بوصفها الرافد الأصل في تزويد الصورة بممكناتها التشكيليّة المطلوبة (عندي صفيرُ الجّدول/تقرؤه السُّنبلةُ/كلُّ صباح/عذبٌ/مُغمّسٌ بالعسل ..)، فشبكة الدوال الصانعة لهذه اللقطة تتمثّل خطاب الطبيعة في إيقاعه الصوتيّ والرمزيّ (صفيرُ/الجّدول/السُّنبلةُ/صباح/عذبٌ/ العسل)، وتستقطب العمق الدلاليّ في كلّ دالّ منها كي يشتبك مع الدالّ المجاور من أجل صوغ لوحة تّنتج الفرح في تجلّي المعنى والقيمة والرؤية، فضلاً على الحساسيّة المجازيّة والاستعاريّة وقد ذهبت نحو أنسنة السنبلة، بكلّ ما ينطوي عليه دالّ (السنبلة) من حياة وبهجة وأمل، وتتعاضد تفاعليّة الدوال الثلاثة (صباح/عذب/عسل) لإنتاج رؤية لذائذيّة تجعل من (صفيرُ/الجّدول) صوتاً يغمر عتبة العنوان بالتعريف والاتساع والشمول.
يتحوّل الراوي الشعريّ الذاتيّ في قصيدة ((درب)) إلى خطيب يروي حكاية النفاق والكذب بوصفها حكاية العصر في كلّ مكان، ويطلّ على متن الحكاية/القصيدة من عتبة عنوان مفردة منكّرة لها دلالة ريفيّة عميقة، إذ تنطوي دلالة المفردة العنوانية (درب) على معنى المحدوديّة والضيق في تشكيل حركيّ لا يتيح الكثير من حريّة الفعل، وهو طريق معروفة تؤدي ضرورةً إلى ظاهر القرية، والقيمة السيميائيّة الكامنة في عتبة العنونة تتلاءم تماماً مع الحكاية التي يرويها متن القصيدة من حيث شيوع النفاق والكذب وتداولهما في مساحة التفاعل الإنسانيّ على أكثر من صعيد:
«هذه طاقيةُ إخفائي/ لا تُسعفني على الاختفاء/ أرى الغشّ كالقَشّ/ يتمشّى/ في مماشي المدينة/ أرى الرِّيفَ والشَّطّ/ مُتخمين ِبالأكاذيب/ أرى الضَّواري تنبشُ في الرّخام/ تنحتُ وهماً/ النَّوافذُ تنامُ مثلنا/ تحتَ لسع ِ الظَّلامِ/ أرى الماوراءَ في السَّريرِ والحلمِ/ أرى فرحتك تحت سياط الرِّيح/ بينما غمغمةُ الماء/ تحتطبُ نظرتك المأهولة بالعناد..».
الإطلالة الاستهلاليّة بعد الهبوط القرائيّ البصريّ من عتبة العنوان (هذه طاقيةُ إخفائي/لا تُسعفني على الاختفاء)، بعد إذ شكّلت (طاقيّة الإخفاء) حلماً حكائيّاً طالما سردته المرويات الشفاهيّة الريفيّة يتجلّى عميقاً في مشهد الأحلام والأمنيات، فالواقع المحروم من كلّ شيء تقريباً لا يتاح لأبنائه سوى التعلّق بالخرافة لتشييد أمنيات مستحيلة، تلعب لعبتها في إرضاء التحدّي الذاتيّ للواقع البخيل.
وبما أنّ طاقية الإخفاء تخفق في إنجاح فعل التخفّي ولا تُسعفُ على الاختفاء، فالأحرى بالذات الشاعرة الراوية أن تفتح أفق الرؤية البصريّة على الأشياء وتمتح منها ما تشاء بلا قيود، وهذا النوع من المرئيات تحتاج طاقة إبصار صريحة لا تستعين برؤية مزيّفة متخفّية، لأنّ الرائي يجب أن يكون مرئيّاً من الآخر حتى تكتمل نظرية الرؤية في سياقها العمليّ الهادف والمشروع والمُنتِج، ويمكن توزيع خارطة الرؤية البصريّة على النحو الآتي:
1 ـ أرى/ الغشّ/ كالقَشّ يتمشّى في مماشي المدينة
2 ـ أرى/ الرِّيفَ والشَّطّ/ مُتخمين ِبالأكاذيب
3 ـ أرى/ الضَّواري/ تنبشُ في الرّخام تنحتُ وهماً، النَّوافذُ تنامُ مثلنا تحتَ لسع ِ الظَّلامِ
4 ـ أرى/ الماوراءَ/ في السَّريرِ والحلمِ
5 ـ أرى/ فرحتك/ تحت سياط الرِّيح بينما غمغمةُ الماء تحتطبُ نظرتك المأهولة بالعناد..
يتكرّر فعل الرؤية الذاتيّ خمس مرّات وهو يشكّل خمس صورٍ مكتنزة داخل لقطة شعريّة غزيرة بالدلالة، ويذهب الفعل الرؤيويّ مباشرة نحو خمسة مفاعيل يفصل بينهما ضمير الأنا المستتر وهي: (الغشّ/الرِّيفَ والشَّطّ/الضَّواري/الماوراءَ/فرحتك)، عابراً إياها إلى التشبيه في الصورة الأولى، والحال في الصورة الثانية، والجملة الفعلية الممتدّة نحو تشكيلات صوريّة تشتغل في ظلال الصورة الأم في الصورة الثالثة، وفي الصورة الرابعة نحو شبه جملة لربط المرئيّ (السرير) بالمتخيّل (الحلم) حين يكون المفعول (الماوراءَ) ذا طبيعة فضائيّة منفتحة على أفق لا نهائيّ، أمّا في الصورة الخامسة والأخيرة فإنّ العبور يكون إلى جملة ظرفية مكانية تخرج عن مكانيتها كي تندمج في فضاء المجاز، وتعود على فضاء الذات الساردة الراوية نفسه على الرغم من الحضور اللفظيّ النحويّ للآخر (فرحتك)، إذ يعود ضمير الكاف المسند إلى (فرحة) كي يحيل على وجود (آخر) يتوجّه إليه فعل الرؤية من عين الراوي الذاتيّ الراصدة، غير أنّ هذا الآخر ليس سوى الذات نفسها في تشكيل حواريّ مونولوجيّ يكشف عن لا جدوى الرؤية من جهة، وعن عناد الاستمرار في الرصد من جهة أخرى، في صياغة شعريّة يزدحم فيها الحراك الشعريّ للدوال من أجل بلوغ لقطة شعريّة متماسكة، ترتهن بالرؤية البصريّة المباشرة الحاضرة في عمق تفاصيل اللقطة وتنحّي فكرة التخفّي جانباً.
القصيدة البالغة التركيز الموسومة بـ ((لوحة)) تصوّر لقطة فعليّة راهنة تقوم على تمثيل حساسيّة الإغراء الذاتيّ لتجاوز الآن والانفتاح على فضاء مغاير:
«يُغريني التَّأمُّل/ والحوار الحميم..».
اللقطة الشعريّة في تشكيلها اللغويّ مؤلّفة من ثلاث وحدات صوريّة تعمل بطريقة تكامليّة على تشييد اللـ (لوحة)، وقد جاءت عتبة العنوان منكّرة مفردة حتى لا تتحدّد بلوحة معيّنة ذات طبيعة ثابتة، بل تكون لوحة عامّة فاعلة ومتفاعلة وقابلة للتمثّل في أيّ زمان ومكان وفضاء ولحظة تخيّل أو تصوّر أو حلم. الوحدة الشعريّة الأولى تتمثّل في الجملة الفعليّة (يُغريني)، والفعل المضارع (يُغري) ينحو نحواً إيروتيكيّاً في دلالته المُحالة أصلاً على الفضاء الأنثويّ، وفعل الإغراء يعود على الفعل البشريّ الأوّل في الميثولوجيا الإنسانيّة الكبرى حين أغرتْ حوّاءُ آدمَ بأكل التفاحة وحصل بعدها ما حصل.
بمعنى أنّ هذا الفعل بحساسيته العميقة الواسعة يكتظّ بهذا المعنى المعلّق في ذاكرة اللغة وذاكرة الحكاية، وأيّ استخدام شعريّ له يحيل على نموذج التوريط واللذّة معاً، غير أنّ الفاعل المُنتظَر في سياق الوحدة الصوريّة الأولى هنا يذهب نحو مجال لا حسّيّ كما هو مُتوقَّع من فعل الإغراء، بل يتّصل بوحدة صوريّة ثانية هي (التَّأمُّل) في سياق دلاليّ ينفتح على قيمة دلاليّة ذات طبيعة صوفيّة، تتجاوز الحسيّ نحو اليوتوبيّ الخالص القادر على اختراق الواقع والمثول بين يديّ الحلم.
الوحدة الصوري الثالثة هي وحدة تعاطفيّة على الصعيد النحويّ (والحوار الحميم ..)، والمعطوف عليه (الحوار) يحيل على آليّة اللغة السجاليّة الجدليّة القادرة على إنتاج الأفكار والقيم والدلالات المستمرّة، إلّا أنّ الصفة الملحقة بالمعطوف عليه (الحميم) ترتبط سيميائيّاً بإحالتين، الأولى ذات طبيعة أنثويّة إذ يتشكّل معنى الحميمية داخل فضاء أنثويّ أقرب من أيّ فضاء مًحتمَل آخر، والثانية التماهي مع فكرة الفضاء الصوفيّ والتحليق في فكرة الانتماء إلى الذات في صلتها بالمعبود حيث التجلّي الوجدانيّ في أعلى درجاته. وهنا تكتمل اللوحة التي تتحرّك وحداتها الصوريّة الثلاث داخل إطارها باستمرارية شعريّة لا متناهية.
القصيدة المعنونة بـ ((خطابٌ)) تشتغل منذ عتبة عنوانها على فعاليّة التمثيل الكلاميّ للدلالة الكامنة في جوف الدالّ، فـ (خطاب) بهذه الهيئة المفردة النكرة تندفع في فضاء الدلالة كي تطال أيّ خطاب في أيّ زمان ومكان، فالتنكير هنا يفضي إلى العموميّة والشمول، وقد دوّن الشاعر هذه القصيدة بطريقة كتابيّة تحيل على الصورة الكتابيّة النثريّة أكثر من الشعريّة، حين مدّ سطور الكتابة حتى نهاية السطر وكأنّ القصيدة تتألّف من جملة طويلة واحدة تبدأ وتنتهي بتوجيه سلسلة نداءات تأخذ شكلاً واحداً متماثلاً:
للسُلّمِ يُسقطنا في الهاوية، للصبح يُفرّك عينيه، للسِلمِ كشّرَ عن ندمه، للقصيدة تتمرّدُ على المغزى، للعصيدة تُلطِّخُ أبيات القصيدة، للقصر يكنِّس الفقراء والشُّعراء والخفراء، لكَ، لها، لهم، لأفواه الجِّياع، لأحبِّتنا التَّائهين، لكلِّ أحدٍ هذا الخطابُ الجَّارحُ أوردة َالبحار، وما بقي يكمنُ خلفَ السِّتارِ ..
وبوسعنا لو أردنا فكّ اشتباك السطور الشعريّة كي تأخذ شكل الكتابة الشعريّة القائمة على تلاؤم الدفقة الشعريّة على السطر الشعريّ، أن نعيد نشر سواد القصيدة على بياض الورقة بالشكل الشعريّ الآتي:
«للسُلّمِ يُسقطنا في الهاوية/ للصبح يُفرّك عينيه/ للسِلمِ كشّرَ عن ندمه/ للقصيدة تتمرّدُ على المغزى/ للعصيدة تُلطِّخُ أبيات القصيدة/ للقصر يكنِّس الفقراء والشُّعراء والخفراء/ لكَ/ لها/ لهم/ لأفواه الجِّياع/ لأحبِّتنا التَّائهين/ لكلِّ أحدٍ هذا الخطابُ الجَّارحُ أوردة َالبحار/ وما بقي يكمنُ خلفَ السِّتارِ ..
إنّ امتدادات مفاصل الـ (خطاب) الموجّهة نحو الأمكنة والأزمنة والأشياء والضمائر والصفات (للسُلّمِ/للصبح/للسِلمِ/للقصيدة/للعصيدة/للقصر/لكَ،/لها،/لهم،/لأفواه الجِّياع،/لأحبِّتنا التَّائهين،/لكلِّ أحد)، هي جوهر العمل الشعريّ في القصيدة بوصفها سلسلة برقيّات تتفاعل فيما بينها من أجل تشكيل اللقطة الشعريّة في نهاية الأمر، وبما أنّه خطاب يتوزّع بصورة دائريّة على كلّ المكوّنات فهو خطاب عامّ ولا نهائيّ (لكلِّ أحدٍ هذا الخطابُ الجَّارحُ أوردة َالبحار)، إذ يستهدف تقطيع أوردة البحار كي يختلط الدم بالماء، في حين يقبع المتبقّي مستتراً (وما بقي يكمنُ خلفَ السِّتارِ..)، يراقب، أو يرصد، أو يختار الغياب، أو ينتظر اللحظة المناسبة متحفّزاً كي ينقضّ على الأشياء ويكمل خطابه في فضائها.
اللقطة الشعريّ التي تنسجها قصيدة ((هذيان)) تخضع لفعاليّة تصويريّة سرياليّة في الانبثاقة الشعريّة الأولى لها، حيث تتماهى مع عتبة العنوان وتكون اللحظة التصويريّة لحظة هذيان شعريّ تتموّج على يد المصوّر الجمعيّ، أمّا لحظة الاختتام الشعريّة فسرعان ما تعود إلى زمن الحكاية كي تصف الحال في مسيرتها التقليديّة:
«كنَّا حفنة/ هذيان مُمرّغة/ بضوءِ القمرِ/ تجري بنا/ خُطانا..».
الجملة الاستهلاليّة التي افتتحت بها اللقطة الشعريّة مشروعها السرديّ التصويريّ بعد عتبة العنوان (كنَّا حفنة َ/هذيان مُمرّغة/بضوءِ القمرِ)، تحكي أولاً حكاية الماضي المتجذّر في صُلب دلالة الفعل الماضي الناقص (كان)، فتعطي لاسمها الضمير الجمعيّ (نا) بوصفه راوياً كلّيّاً مهمّة قيادة الفكرة، حتى يأتي خبرها (حفنة هذيان) دالّاً على معنى القلّة (حفنة)، ويتضايف هذا الدالّ مع (هذيان)، في عودة دائريّة استطراديّة نحو عتبة العنوان تعمّق صورة الدالّ العنوانيّ وتعيد إنتاجه داخل المتن، ومن ثمّ تأتي الصفة (ممرّغة) لتفتح دلالة الهذيان على التباس أوسع وأكبر حين تتّصل مباشرة بشبه الجملة (بضوءِ القمرِ)، إذ تتحوّل الصورة الشعريّة إلى مستوى تعبيريّ سرياليّ فوق ـ استعاريّ، تحيل المعنى الشعريّ إلى فضاء الصعلكة والتشرّد والتمرّد والتماهي الحرّ مع الذات/الذوات.
لذا فإنّ جملة الأقفال الشعريّة بعد هذا الزخم التصويريّ المركّز تعود نحو تصوير الحال الصعلوكيّة التي تمخّضت عنها الصورة السرياليّة الاستهلاليّة (تجري بنا/خُطانا..)، وهي صورة سياقيّة تسلّم الأمر بيد الخطى (خطانا) التي تعرف طريقها جيّداً، ويستمرّ الـ (هذيان) داخل الصورة وخارجها في حراك شعريّ لا يتوقّف عند حدّ.