كانت الفتاةُ الواقفةُ بمظلتها هناكَ تختلسُ النَّظرَ يمنة ويسرة، وتسترقُ السَّمع إلى بعض الجالسينَ على الكراسي الشبه فارغة، المبعثرة في الحافة أمام المقهى تنتظر أحداً غير آبهةٍ بالمارة...
المارة، لا أحد يعيرُ اهتماماً لأحد في هذا الشارع، غير العجوز الأعور الَّذي غرزَ عينهُ الوحيدةَ نحو طفلٍ بائسٍ ماسح للأحذية، يجلسُ بجوارِ متجرٍ عتيقٍ في الشَّارِعِ الطَّويلِ...
في الشارع الطويل، اصطفَّتِ الأكشاكُ والأبناكُ وصاغةُ الذَّهبِ والفِضَّةِ وأضواء المحلاتِ والمتاجر والشُّجَيْراتِ القصيرة الَّتي لا تُثمر... وزعيقُ السيارات المسرعة وطابور من الدراجات، والمنبِّهات العصَبِيَّة المزْعِجَةُ والفوضى العارمةُ والصَّخَبُ والأضواءُ، والرَّصيفُ العَريضُ المحاطُ بشجيرات قصيرة وقد امتلأ بالناس والأحذية ذات الكعوب العالية تضربُ الرَّصيفَ بشدة، والأصواتُ والوجوهُ الكالحةُ شاحبةٌ حزينة، وقد صفعتها الظروف...وعلى الرغم من الغيومِ الواعدة وزخات المطرِ الموحية بيوم مشتاةٍ، فقد كان الهواء فاسداً مشبعاً بالسُّمومِ وحزيناً مُتعبا...
متعب أنا أيضا في هذه الزحمة في متاهات تفكير مشتت، تائهٍ لاقرارَ له، دُنيايَ شوارع لاتنتهي، وليس لها حد، أمشي دون هدف، مثل الوُجوهِ المزدَحِمَةِ التي تمرُّ بخيالي الآن، حادَيْتُ نحو الواجهة الشبه المضاءة فوق الرصيف، لأحتمي من زخات المطر، قرأتُ إعلاتاً عن فيلم سينمائي لوجوه ووجوه، ثم قطعتُ ذلك الشارع الطويلَ المزدحمَ الَّذي يُفضي إلى البحر...
في البحر، شممتُ رائحته، رائحة البَحْرِ والبَرِّ تتمازجانِ، عزمتُ على حرقِ القاربِ والمجذافِ كَمَنْ لا ينوِي العودةَ، أو الرجوع إلى اليابسة، أو كقرصان وحيدٍ مَبتُورِ السَّاقِ وبعينٍ وحيدةِ يرقبُ، بلا أملٍ أو حيلةٍ أمامَ شِدَّةِ هَيجانِهِ..يقفُ على رجلٍ يتأملُ المدَى...مثل اللَّوْحَةِ الأثريةِ هُناك في المقْهَى...
بالمقهى ثلاثةُ أصدقاءَ يجلسونَ، شاعر وحيدٌ بحزمة أوراق وكتاب، وفنانان تشكيليان توأمان يتأملان رسوماتهما، كلهم يتلذَّذون نكهة القُطران، وأمامهم نصوص ولوحات شاخت، تبحثُ عن يدٍ تنشلها من الصَّمْتِ القاتلِ والضَّياعِ في انتظار من لن يجيءَ...مثل النَّوافِذِ والشبابيك هُناك...
نوافذ وشبابيك سئمت الوقوف عندها حسناوات يلمحن طيور السنونو في الفضاء كالمعتاد...ويرتقبْنَ من لن يجيء عبر درُوبِ المدينة...
دروبُ المدينةِ تلتَفُّ حول المارَّةِ في هذا اليوم شبه المشتاة...الرذاذُ ينْتَشِرُ في اتجاهِ الشَّارعِ الطَّويلِ الَّذِي يُفضي إلى البحر...مثل المجاري والقاذورات والمياه المتعفِّنةِ الَّتي تَنْسَكِبُ ولا تتوقَّفُ إلا حين تجتمع هناك...حيث حرب البحر ..وحرب المياه...
لم أَعْهَدْ نفسي سائغاً كالماءِ في تلك الدروبِ الضيِّقةِ والزَّوايا العتيقَةِ والأزِقَّةِ الباردةِ والَّتي سقطَتْ فيها أجسادُ المارة اتباعا..وأنا أجولُ ببَصري كسائحٍ مَلَّ الترحالَ في الدروبِ الضيقَةِ حتى قاع المدينة...
في قاع المدينة، لم تَكُنِ الفتاةُ الواقفةُ بمظلَّتِها تنتظرُ أحداً، ولم يَكُنِ الشَّارعُ الطَّويلُ يُفضي إلى البحرِ، ولا النَّوافذُ والشَّبابيكُ، ولا الحسناواتُ ولم يكنِ الصَّباحُ مشتاةً... ولم أكنْ أنا بِدَوْرِي أطوفُ بين دروب وشوارع أرجاء المدينة..ولم يكنِ السُّنُونو تطيرُ كما اعتادت ..ولم يرها أَحَد..!!
كلُّ ماكانَ هو أنَّني كُنْتُ أكتشفُ نفسي في الشَّارِع الطويلِ الَّذي أخذَ ينسَحِبُ من تحتِ قدمي، وأنَّ أيامي هذهِ شتاءٌ عجوزٌ ..إلى حينَ تمطِر...