الحاجة ” أم محمد” سيدة متدينة ووقورة، لم تكن تعرف من الحياة سوى في أركان منزلها العتيق، سيدة ذات عقلية متزنة، ولكنها محدودة في تفكيرها، فإذا حاولت أن تسألها شيئاً خارج مطبخها أو منزلها، فلن تجيبك عليه، لأنها ببساطة شديدة، تعوَّدت على هذا الروتين اليومي، وتعوَّدت أن تطيع زوجها، وتحترمه، ولكن ليس باحترام نساء هذه الأيام، فهي كما تقول أُمي تربية نساء أيام زمان، نساء مطيعات، يظللن يعملن بجد واجتهاد، ينظفن منازلهن، ويغسلن ملابس أزواجهن وأطفالهن، ويطبخن ويسهرن على راحتهم، ولو فكًّر أي رجل بالزواج من أخرى، فذلك حق له، ورغم عدم اقتناع والدتي بهذا الحديث لكنها كانت تحترم “أم محمد”، وتذهب لزيارتها بشكل مستمر.
كان الفضول يقتلني لمعرفة شكل تلك المرأة الوقور التي أثارت بنات حارتنا، كانت سيدة فاضلة، جلوسها معنا وحديثها المتواضع له طعم جميل ، وكنت كل الوقت ألتفت بحثاً عن أي شيء يشير إلى وجود ابنها “محمد” .
لكنني علمت فيما بعد أن “أم محمد” لم يكن لديها أي أبناء، وأن اسم “محمد” هذا إنما كنية تحملها هي وزوجها لأنهم كانا يتمنيان أن يرزقهما الله بابن يسميانه “محمد”، هذه المرأة جمعت عنها الكثير، وعلمت عنها أموراً عديدة قد تكون غريبة في زمننا هذا.
لكنها امرأة حقيقية جداً، ربما تكون من زمن آخر، وتعيش في زمن لا يتلاءم معها ولا مع طبيعتها وخجلها وانطوائها.
لم أصدق حتى لحظة كتابة قصتها أو حياتها أن تكون هناك سيدة بهذا التشكيل، فهي امرأة لم تفكر يوما في الخروج، لم تخرج خارج هذا المنزل إلا لزيارة محارمها، نادراً ما كانت تخرج للسوق، أو حتى ترىَ الشارع، لم تكن تعرف أن مدينتها تغيرت، وتبدلت مبانيها من العرشان إلى الطوب والبنيان المسلح إلا من خلال ما تبثه أجهزة الإعلام، حتى التلفاز لا تفتحه إلا حين يكون زوجها في العمل، فهو من الذين يرون أن التلفاز من المحرّمات على المرأة، لأنها قد ترى فيه رجلاً غير زوجها، وقد تطلع على العورات، لهذا قرر وضع التلفاز في غرفة الضيوف فقط، حتى يكون حقاً للرجال دون النساء.
فأصبح كلما دخل إلى غرفة الضيوف أغلق على نفسه الباب، وفتح جهاز التلفاز، ينظر إلى برامجه بحرية بعيداً عنها .
لم تجرؤ “أم محمد” أن تطرق عليه الباب أو حتى أن تزعجه، لأن هذا الأمر في رأيها يعتبر من الأمور المعيبة وهي أمور تخص الرجال، وليس من شأن الحريم التدخل في هذه الأمور، لذلك صارت على نهج والدتها الراحلة ، التي كانت تتعامل مع زوجها بمنتهى الحرص ولا
ترفع رأسها لتنظر إليه حتى يأمر هو بذلك، لذلك كانت قدوتها في كل تلك الأمور التي تحرص على القيام بها، فلم تجسر على مخالفة رأيه، ولم يكن يسمح لها سوى باقتناء جهاز مذياع صغير تضعه بجانب أذنها حتى تستمع إلى صوت الأذان أو أغاني أم كلثوم أو حتى نشرات الأخبار .
وحين يعود من عمله، الذي لا تعرف عنه سوى أنه يتاجر في المواشي، تظل جالسة بجانبه صامتة، تنتظره حتى ينتهي من طعامه، تحمل ما تبقى بصمت وتذهب إلى المطبخ كي تتناول وجبتها بمفردها، لم يطلب منها يوما أن تجلس بجواره ليتناولا الطعام معاً، لم يشاركها أفراحها ولا أحزانها، ولم يسألها عن حاجتها، فقد اعتادت أن تتصل بالفلبينية “سامية” التي تعرف قياس ملابسها، واختياراتها من الألوان التي لم تتغير يوماً طيلة عشرين عاما.
عشرون عاماً وهي تتنقل بين الرمادي والأسود، غير آبهة بأي رأي من صديقاتها اللواتي يزرنها بين الحين والآخر للاطمئنان على حالها، لم تكن تصغي إلى شقيقاتها اللواتي حاولن أن ينبهنها إلى وضعها وحياتها، ولكنها ظلت كما هي، تصم أذنها عن الآخرين، مكتفية برأي زوجها ، ولكني أشك بأن هذا اختيارها ورغبتها، فمنذ فترة طويلة، لم يعلق “أبو محمد” على ملابسها ولم يسألها عن احتياجاتها، لم يستفسر عن شعرها الأبيض الذي أهملت أن تصبغه من سنوات، ولا وزنها الزائد الذي بدأ يزيد بطريقة مرعبة، لم يسألها شيئا سوى عن طعامه اليومي وملابسه التي يغيرها في كل فترة، وحين يعود من مشاويره اليومية إلى المنزل لا يجدها إلاّ جالسة في المطبخ تعد الطعام، أو ترتب الملابس أو حتى أمام الطاولة منهمكة في كي ملابسه، وقد مرت السنون عليها سريعة دون أن تشعر بها، ودون أن تتساءل عن وجودها؟ عن حياتها؟ وعن مشاعرها وأحاسيسها؟
وعندما خرج في ذلك المساء، وطال الوقت أكثر من المعتاد، وقد قربت الساعة إلى منتصف الليل، لم تكن تقلق عليه بهذه الصورة، فقد تعوّدت على سهراته خارج منزله بحجة عمله، ولم يخفق قلبها إلا حين رؤيتها لذلك الشرطي وهو يطرَق بابها.
كانت خائفة، مرتجفة تشبه طيرا مبتلا ظل طيلة اليوم تحت المطر، كانت تجر قدميها برعب، وهي تقترب من الباب..
– خرج صوتها متحشرجا وهي تسأله: أبو محمد ليس موجودا، إن شاء الله خير؟
خفق قلبها، حينما تحدث الشرطي بنبرة تشوبها الأسى: معذرة سيدتي، ولكن زوجك توفي قبل قليل في الحادث، ولم نستطع انتشال جثته، لقد وجدنا أوراقه فقط..
الشرطي استمر في حديثه، وهي في عالم آخر، لم تتخيل حياتها بدونه، لم تتخيل أنها سوف تكمل ليلتها لوحدها، والليالي التي بعدها وبعدها وإلى الأبد، لقد أدركت في هذه اللحظة بأن حياتها قد ضاعت، ولم يعد لها أي وجود، لم تعد أم محمد، لم تعد تستطيع النظر إلى عين صديقاتها ولا أن تفتخر برجلها الذي ذهب هكذا، لقد ذهب إلى الأبد، لقد أصبحت لا شيء، النساء من حولها يعزينها، وهي في عالم آخر .
تسافر بخيالها وبحزنها مع “أبو محمد”، ونظرات الجارات يعزينها بمزيد من الأسى والحزن ، كن يعرفن مدى تعلقها بزوجها وبمنزلها، بحياتها التي جعلتها لزوجها، فلم تعرف في الحياة سواه، ولم تفكر بأحد سواه، ولم تحلم إلا به، حتى أن رفضها للتغيير كان يكبر في داخلها بوجود زوجها، أملاً في إرضائه، لقد كانت سيدة مطيعة..
النسوة يغادرن منزلها ببطء، نهضت من مكانها، واتجهت إلى غرفتها، جلست على طرف فراشها، إنها أول ليلة سوف تقضيها بدونه، أول ليلة تنام في هذا المنزل الخاوي لوحدها دون أبا محمد، بكت بألم، بكت طويلاً وهي تسترجع ذكرياتها معه، لقد فتشت طويلاً في ذاكرتها، فتشت عن أي شيء تتشبث به وسط أحزانها وتحاول أن تخرج نفسها منه، فلم تجد سواه..
بعد وفاته احترمت حتى ذلك الفراش الذي جمعها به، فلم تحاول مجرد أن تغيره، كانت تشم رائحته في كل مكان، كانت غارقة في الوهم والضياع والتشتت، لقد حاولنا جميعاً مساعدتها, حاولنا تغييرها لترك تلك الذكريات التي تحيط نفسها بها..
لكنها وقفت أمامنا كالحائط، وبقوة، رفضت كل شيء.
حتى مجرد الخروج من عتبة هذا المنزل يعني الضياع في نظرها، كل شيء كان الحاج يقوم به، لم يعد هناك رجل تعتمد عليه، وفي وسط كل تلك الذكريات، بدت حياتها الطفولية واضحة البياض، فقد عادت إليها التفاصيل بنهم واضح، تذكرت منزلها، وأوامر والدتها، والعمل في المطبخ، صديقاتها اللواتي تعلمن ودخلن المدرسة، حتى التعليم رفضت أن تكمله بعد زواجها من أجل أبي محمد، يقول بأن المرأة مكانها في بيتها وراحة زوجها، كانت تطيعه بدرجة عمياء ولا تطيق أن تعصيه أبدا..
طافت بها حياة شقيقاتها المتزوجات اللواتي يخرجن ويتسوقن في أي وقت، وصديقاتها، خفق قلبها في قوة، فلم تعد مقيّدة كالسابق، لم يكن ذلك قيدا، بل كان حبا، لا لا ، لم يكن حباً، بل كان طاعة عمياء دون إرادتها…
إنها حرة الآن..
حرة كتلك الطيور المهاجرة في السماء..
لم يعد بومحمد موجودا، لن يعاقبها على تصرفاتها، ولن يعرف عن حياتها شيئا، فهو قد غادر الحياة، لم تبق منه سوى الذكرى، كم سوف تبكي عليه؟
كانت تعيش في عالمين متناقضين، كل عالم يسحبها بعنف إليه، وكل عالم يبدو أمامها مضيئا أكثر من الآخر، فوجهه يغادر ببطء ليصبح نقطة باهتة ثم يعود بقوة ليحاصرها من كل الجوانب، فتحس بالخوف منه، ثم تعود فتتذكر الوحدة التي سوف تعيشها بدونه، والأيام القادمة التي سوف تدور عليها بين هذه الجدران الحابسة..
دارت في رأسها كل تلك الأفكار، فقضت ليلتها في سريرها وهي في شبه غيبوبة..
كان وجهه يتضاءل أمامها، يتضاءل في أحلامها وحياتها وفي المنزل .
حتى صار مجرد ذكرى تطوف بها كلما تذكرت بعضاً من أغراضه، التي حرصت على ترتيبها ووضعها في أماكن مغلقة، ولكنها أحيانا تعثر عليها بالصدفة أو ربما تتعمد وضعها في أماكن معينة حتى تذكرها به..
لقد تغيّرت حياتها، وبدأت خطواتها الأولى كالوليد الذي تنتظره أمه حتى يخطو خطواته بسعادة، كنا ننتظرها بفارغ الصبر، ننظر إليها وخطواتها تسير إلى مركز التسوق المجاور لمنزلها، دون أن تلتفت يمنة أو يسرة، فهي من الآن لن تظل الليل كله ساهرة حتى الفجر من أجل نظرة الحاج العاتبة، سوف تعيش حريتها، وسوف ترتدي ما تريد، وتخرج إلى الحدائق تمشي وتنظر إلى الشوارع والسيارات، إلى البحر والكورنيش، وتضع قدميها في الماء المالح، وسوف تشاهد المسلسل التلفزيوني الشهير الذي تتابعه كل صديقاتها..
فهل كان حباً ما جمعها بالحاج طيلة ثلاثين عاماً ؟ أم كان مجرد طاعة فرضتها الوقائع والأديان على المرأة لزوجها؟ لا تعلم! أصابها التردد والحيرة، كانت علاقتهما قائمة على الطاعة من طرفها، وتأدية واجبات الزوجية بكل حذافيرها، لم تقصر فيها يوما، ولم تخرج عن طاعة أوامره، كان طيباً ويعاملها بمنتهى الاحترام، لم يكن يتحدث عن عمله أبدا، ولم يفتح لها قلبه، لم تكن تعرف عن عالمه الخفي شيئا، ولا عن خروجه المتكرر ولم تحاول سؤاله، كانت ترى هذا الأمر عيبا، لقد علمها والداها هذه الطاعة، وعدم السؤال عن أي شيء يخصه، فهو رجل .
وأخيراً مر يوم كامل دون أن تعمل في المطبخ، وأن تحمل ملابسه وتضعها في الغسالة وأن تحضر له طعام العشاء، قبل وفاته كانت تقوم بأعمالها في صمت، ولم يحاول أن يطلب منها يوما أن تأخذ إجازة وتستريح، وتحاول الجلوس في فراشها، لم يكن يفكر بمشاورتها حتى في إحضار خادمة تهتم بها رغم كبر سنها، بكت بصوت عال، لا تعلم سر بكائها هل هو فرح للحرية القادمة، أو حزناً على زوجها المسكين الذي لقي مصرعه مع باقي رفاقه ولم يستطيعوا التعرف على جثته؟
كان إحساس الحرية قد انعكس على وجهها، فكست ملامحها فرحة لم تعرفها طيلة الخمسة ثلاثين عاماً، رغم إنها لم تشتكِ من معاملة زوجها أبدا..
انتشت للحظة، وأحست بجسدها يشبه عصفوراً قد كتبت له الحرية من جديد، إنها تشم رائحة الحرية وكأنها آتية من بعيد، فتحت النافذة، عبير هواء مرَّ نحو أنفها، وتسلل بدفء نحوها، خلعت حجابها، ولأول مرة تطاير شعرها، ورقص في حرية، البيت خالٍ لا أحدٌ فيه سواها، أشعلت الشموع ورقصت سعيدة على ضوئها ، ملأت البيت ورداً وزهوراً وموسيقى كلاسيكية، جلست ساعات طويلة أمام التلفاز، رأت المسلسل الشهير، تابعت أحداثه بلهفة جنونية، خرجت إلى المراكز التجارية، اشترت كل شيء كانت محرومة منه، كان جيرانها وأهلها يشجعونها، وبعضهم كان يقول بأنها قد جنت بعد رحيل زوجها..
وفي خضم هذه السعادة، كانت تلك النقطة في ذاكرتها قد بدت تكبر على غير العادة، تكبر بصورة سريعة، وكأنها تتغذى على عقلها وجسدها، لتفاجأ بوجه زوجها الميت، صرخت بقوة، ثم أغمي عليها، لم تشعر سوى بعشرات من الحجارة تتساقط عليها من كل مكان، لا إنه مجرد حلم، وتلك النقطة التي بدأت تكبر إنما هو انعكاس لأحلامها وخوفها السابق من المرحوم، ولكن المرحوم استيقظ، نعم استيقظ، قد لا تصدقون ما أخبركم به الآن .
عندما سمعت حديث والدتي بأن الحاج “أبو محمد” نهض من موته، وخرج من قبره، ضحكت عليها مراراً، وتكرارا، واتهمتها بالجنون والخرف، وطلبت منها أن أصطحبها إلى طبيب عيون كي يفحص نظرها، ولكن عندما حملتني معها إلى منزل أم محمد لزيارتها بسبب مرضها ورأيته جالسا في الصالة، خفق قلبي بقوة غير عادية، وعذرت المسكينة “أم محمد”، لا بد إنها الآن في انتكاسة قوية، وقد انهارت كل خلاياها دفعة واحدة.
لنعد لنرى ردة فعل الحاجة “أم محمد” التي اكتفت بالتحديق فيه طويلا، ثم سقطت فاقدة الوعي، لتجده بجوارها ينظر إليها بنظرة عميقة، فتسارع بتغطية شعرها، لم تنسَ نظرته العاتبة.
في الصباح الباكر، كنا مع جموع المعزِّين في منزل الحاج “أبو محمد” يهنئونه بعودته سالما ، ونعزيه بوفاة زوجته الناجمة عن أزمة قلبية، قيل إنها دخلت غرفتها وأغلقت على نفسها الباب، مرتدية حجابها، كانت تصلي وهي تبكي وتطلب من الله المغفرة على ذنوبها الكثيرة، وعندما دخل الحاج في الصباح الباكر ليطمئن عليها وجدها ميتة على سجادة الصلاة ..