ينهي أحمد زغلول الشيطي كتابه مائة خطوة من الثورة الصادر قبل أيام عن دار ميريت باللحظة التي أعلن فيها عمر سليمان: قرر الرئيس حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية وكلف المجلس الأعلي للقوات المسلحة بادارة شئون البلاد والله المستعان بعد ثمانية عشر يوما ـ هي الأعظم والأهم في تاريخنا الحديث ـ من المظاهرة التي تحولت إلي انتفاضة, قادت بلادنا
في نهاية الأمر إلي ثورة25 يناير.
الشيطي أصدر من قبل رواية وثلاث مجموعات قصصية, ثم صمت طويلا منذ عام1994 وأصدر مجموعته ضوء شفاف ينتشر بخفة عام2009, وهي المجموعة التي اعتبرت قصصها ـ في مقال نشرته في هذا المكان نفسه ـ طعنات مفاجئة, وان كانت محكومة, واذا لم تخن الذاكرة, أظن انني كتبت عن لغته غير المنهنهة, وبلا زوائد أو حواش أو بلاغة مصنوعة, بل هي بالفعل طعنات مفاجئةأما مائة خطوة من الثورة فأنهاه الشيطي في22 فبراير, ولذلك من المؤكد انه كان يعكف علي تدوينه ابان الثورة, وقد أسعده زمانه حقا بأن يسكن أثناء الأحداث في شارع قصر النيل من الناحية القريبة من الميدان في أحد الطوابق العليا, مما مكنه من مراقبة الاحداث وتطورها لحظة بلحظة, ومن الميسور له بطبيعة الحال أن ينزل بنفسه, فقد كان بالفعل علي بعد مائة خطوة من مسرح العمليات, سواء كان ميدان التحرير الذي احتله الثوار, أو ميداني عبد المنعم رياض وطلعت حرب وكلاهما احتله البلطجية وعملاء النظام الذي كان يترنح.من جانب آخر, يحرص الشيطي علي أن يورد ما رأه شخصيا, مما منح شهادته تلك اللمسات الانسانية التي ميزت اغلب صفحات الكتاب. كما يحرص أيضا علي أن يخصص كل الصفحات لتجربة الملايين في ميدان التحرير, باستثناءات قليلة جدا, من بينها مثلا ما جري عشية الثورة في ميدان طلعت حرب, عندما قرر الكتاب والفنانون في3 يناير, في أعقاب جريمة كنيسة القديسين في الاسكندرية, الخروج والوقوف وقفة صامتة بالشموع والشارات السوداء في الميدان, وهو الأمر الذي دفع الداخلية لحشد المئات من القوات لحصار نفر قليل من الأدباء والفنانين, وليس المجرمين والمسجلين خطر وحاملي السنج والسيوف, بل ومنعوهم من الوقوف وقاموا باستخدام العنف, وكنت قريبا من كاتبنا الكبير بهاء طاهر آنذاك, وقد تعرض بالفعل وطاله العنف شأنه شأن الآخرين.ومن بين تلك الاستثناءات أيضا, التي يغادر فيها الكاتب ميدان التحرير, ذلك الحلم القديم بأنه نائم في بيته بدمياط, بينما تدور معركة بآليات عسكرية وطائرات وقنابل, وحين يستيقظ لا يري معارك قسم الشرطة الذي يلاصق جدارة بيتنا, أري عربات الأمن المركزي وهي تنزل المقبوض عليهم من الشوارع في الحملات الدورية, فيما تهرول نساؤهم وأقاربهم وراءهم لرؤيتهم وتبادل كلمات ورسائل سريعة معهم فيما يصعدون سلالم القسم, استيقظ ليلا علي صوت التعذيب بالتعليق أعلي الباب, أو بصعق الخصيتين بالكهرباء, أو بغمر الرأس في بالوعة المجاري.
والواقع ان هذه الاستثناءات قليلة جدا إلي حد أدي إلي المزيد من الحصار الذي فرضه علي نفسه لتناول ذلك الجانب الذي شاهده وعايشه من تجربة الثوار, بينما كان من الممكن أن تؤدي تلك الاستثناءات إلي التقاط الأنفاس والتأمل والحيوية في السرد, وربما كان الكاتب متعمدا أن يتناول تجربة حصار الثوار في الميدان علي ذلك النحو, بحيث يكون الحصار شاملا وكاملا ومستمرا مثلما كان الواقع بالفعل.ولآن ما جري في ميدان التحرير, وكل ميادين مصر, كان ثورة من طراز فريد وغير مسبوق من زوايا متعددة, ليست سلمية هذه الثورة فقط, ولا اشتراك غير المسيسين بالمعني المباشر, اولئك الذين كان أغلبهم يخرج في مظاهرة للمرة الاولي في حياتة فقط, ولا تصدي الأسر بكاملها للخطر بالانتقال إلي الميدان والاقامة فيه فقط, ولا هذا الاستبسال في المواجهة فقط( يكفي الاشارة هنا إلي ما جري في موقعة الجمل),ولا اعتماد الثورة علي الفضاء الافتراضي فقط, إلي آخر ما تميزت به ثورة25 يناير...
بسبب طبيعة هذه الثورة وملامحها الفريدة فإنها صالحة لاثارة دهشة الجميع, وسوف يتناولها في الأيام والشهور والسنوات القادمة عشرات من الكتاب والفنانين.. فعلي سبيل المثال, وفي اليوم السادس عشر للثورة يطل من شرفته ـ علي بعد مائة خطوة من الميدان ـ ويري جماهير المظاهرة الجدد من عائلات وربات بيوت يرتدون ملابس جديدة ويدخلوان إلي المظاهرة كما لو كنا في عيد كان أمامي شيء عجيب لم تتح لي رؤيته علي هذا النحو.. كان معظمهم مجرد أولاد المباريات الكبري للأهلي والزمالك والمنتخب القومي, بالرغم من ذلك كانوا عظاما كما لو أنهم تمثلوا كل دهاء التاريخ وقاموا بتجاوزه بروح مصري خالصة ويضيف: حتي أن هذه الثورة بدت كثيرا أنها ليست ثورة وأنها تظاهرة شعبية أو تظاهرة تشبه زحام معرض الكتاب أو مولد السيدة زينب أو السيد البدوي, أو مهرجانا للفنون الشعبية أو الساحر, وبالرغم من ذلك لا تكف عن أن تكون ثورة, يكتشف القائمون بها ماهيتها وهم يمارسونها ويتفاعلون معها فيكبرون وتكبر بهم, ليس لها حزب ولا قائد.
ولما كان من عادات المصريين العريقة كسر قلة وراء الأعادي حتي لا يعودون مرة أخري, فإن أحدهم حمل زيرا طوبي اللون, زيرا جديدا لم يمس, يطوف به انحاء الميدان, وهو يقول ارحل بقي تعبت, يريد أن يرحل حسني مبارك حتي يكسر الزير وراءه, وينتهي من حمل الزير والمظاهرة في وقت واحد.والحال ان مثل هذه التجربة التي ليس من السهل تكرارها في حياة الشعوب, تصلح علي الدوام لإثارة الدهشة, وتصلح في الوقت نفسه لتناولها من أكثر من زاوية وتفصيلة وملمح فعلي سبيل المثال يخلو كتاب الشيطي من التوثيق والتأمل والاستطراد والتوقف للخروج من التجربة والعودة إليها, كما يخلو من الاعتماد علي المصادر المختلفة, ونادرا ما يتحدث إلا عما شاهده بعينيه.
أعرف بالطبع انه اختار هذه الطريقة في الكتابة متعمدا, أعرف أيضا أن هذا هو ما منح كتابه كل هذا القدر من الصدق والتلقائية, ومع ذلك أشعر بأنه مضي في الشوط إلي أكثر من نهايته, وربما كانت تلك هي الخسائر الضرورية التي تنجم عادة عن التدوين اليومي للتجربة.وفي النهاية لابد من الاشارة إلي لغة الكاتب التي ابتعدت إلي اقصي حد عن القعقعة والصلصلة دفاعا عن الثورة, وخلت من الحماسية المفرطة أو الغنائية, إنها لغة للتوصيل وابلاغ الرسالة دون زوائد وبأقصر الطرق وأكثرها وضوحا, فتجربة الميدان كانت محض شخصية بالنسبة للكاتب, أي مسيرته الذاتية وأصدقاؤه باسمائهم الحقيقية وجيرانه ومسكنه.. كلها أمور حقيقية في الواقع كما في كتابه.
مائة خطوة من الميدان سرد نجا من مأزق عديدة, ويظل محاولة لا شك في أهميتها, ويضيف إلي كاتبه, وإلينا نحن القراء..
أحمد زغلول الشيطي في شرفة قصر النيل
By: Editor - on: Wednesday 1 June 2011 - Genre: Book Reviews
Upcoming Events
Online discussion of The Vegetarian by Han Kang Nobel Prize winner 2024
November 08, 2024
This discussion of Han Kang’s The Vegetarian...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
October 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
Book discussion:Chimamanda Ngozi Adichie 's Half of a Yellow Sun
September 28, 2024
Chimamanda Ngozi Adichie 's Half of a Yellow S...
Edward Said – Culture and Imperialism
July 27, 2024
Discussion of Edward Said's Culture and Imperi...