أنا "كائن من حبر".. ومن أراد الجهاد فليكتب بالعربية
لا يهمني من أين تؤكل كتف القارئ! سأخترع جائزة للقراء في زمن كتابه أكثر من قرائه. أقول لسعدي يوسف: الذي يقتات من جراح الناس لا يشبع أبدا!
حوار: انشراح سعدي الجزائر – المثقف العربي
أحلام مستغانمي "كائن من حبر" انفجر على الساحة الثقافية العربية قبل بضعة أعوام، على جناح رواية مثيرة للجدل بعنوان "ذاكرة الجسد" التي وصفها الكاتب الكبير نجيب محفوظ بأنها عمل روائي فارق في تاريخ الكتابة النسائية بلغة الضاد، ولكن سرعان ما ظهرت اتهامات مفادها أن مستغانمي ليست الكاتبة الحقيقية للرواية، بل إن كاتبها هو الشاعر العراقي المعروف سعدي يوسف، الأمر الذي نفته "أحلام" نفيا قاطعا، مؤكدة أن الشاعر آثر الصمت وقتها عن عمد ليستفيد من الدعاية، وأنه –بذلك – اختار أن يقتات من جراح الآخرين.. فلا يشبع أبدا!
أصدرت مستغانمي فيما بعد روايتين هما "فوضى الحواس" و "عابر سرير" لتكتمل بهما الثلاثية الروائية التي جعلت من الكاتبة نجمة بكل المقاييس، وهو ما ظهر بجلاء في معرض الكتاب الدولي الذي أقيم في العاصمة الجزائرية مؤخرا، حيث حظيت الكاتبة بالكثير من الاهتمام النقدي والجماهيري.. وعلى هامش المعرض كان "للمثقف العربي" معها هذا الحوار:
في البداية سألناها: هل أنت سعيدة بالشهرة التي حصلت عليها أخيرا؟! أعتقد أن الكاتب لا يمكن أن يكتب ويعيش تحت الضوء، لأن الكاتب الذي يبحث عن الضوء هو كاتب يبحث عن الثرثرة والضجة على حساب الإبداع، وكل ما يستطيع الكاتب أن يقوله داخل الكتاب وليس خارجه، فمجدي صنعه قرائي ولم تصنعه الصحافة ولا النقاد ولم يصنعه أحد، يقول همنجواي: "الكاتب من له قراء وليس له كتب" وأنا لي ثلاثة كتب وهناك من لهم ثلاثون كتابا ولذلك من واجبي أن أتواضع لهم وأخصص لهم كل وقتي، يمكن أن أعتذر للصحافة، ولكن لا يمكن أبدا أن أعتذر للقارئ، وكان هناك قارئ مكفوف أعتبره نموذجا للقارئ الجيد، بل أسميه مجاهد القراءة، تصوري رجلا ولد مكفوفا، ولم ير في حياته حرفا مكتوبا ويشتري الكتب، لقد اشترى كتابي وثمنه عشرون دولارا وهو ليس له هاتف ويقول (الكتاب قبل الهاتف)، فهذا الكفيف يبحث عن المعرفة ولا عنوان له، تصوري أعطاني بطاقته لأكتب اسمه، وقلت له إني من أجله سأخترع جائزة للقراء في زمن كتابه أكثر من قرائه.
وكيف ترين القارئ العربي المعاصر؟! هناك قارئ يجاملك ويأتي لأخذ توقيع، هؤلاء الناس ليسوا معنيين بشيء، ولكن المكفوف على عكسهم تماما، فالكتاب يساعده على خلق عالم داخلي، لذلك أقول وأكرر ليتواضع الكاتب قليلا، فليس الكاتب بالقول ولا الشهادات التي حصل عليها ولا عدد الكتب التي كتبها، فأنا لا أقول إني دكتورة فالشهادة لا تثبت أني مبدعة أو كاتبة، أنا تمنيت أن أكون "أحلام" فقط لولا وجود مغنية بهذا الاسم، فالكاتب كلما يكبر كلما تصغر أسماؤه، مثل نزار لا يحتاج إلى تعريف فلا نقول الأستاذ الكبير نزار قباني، لأنه أصبح علما بغير لقب،حينما نقول "نزار" فلا يحتاج الأمر لإضافة أخرى حتى نعرف أن المقصود هو نزار قباني،أما الأسماء الكبيرة فهي دليل على أنها صغيرة.
أكل كتف القارئ اجتمع في القاعة أثناء إلقائك المحاضرة ما لا يجتمع عادة من مختلف التيارات.. كيف تفسرين ذلك؟ أنا لم أنتبه لهذا، ولكن أنتبه لهذا عندما أوقع كتبي، فلقد حدث في لبنان أن جاءتني راهبة وبعدها محجبة وفي نفس القاعة جاءتني واحدة نصف عارية، وفي نفس الوقت قالت لي المحجبة والسافرة إني أعبر عنهما، الجميل هو هذا، فلو نكتب ونحن نفكر في إغراء قارئ بالذات لن نوفق فسنربح ربما القارئ ولكننا نخسر عددا كبيرا من القراء، والسر هو أن تكتبي عن النفس البشرية، عن أحاسيسك دون التفكير في لعبة المراوغة مع القارئ أو التفكير في كيفية "أكل كتف القارئ" وهذا هو سر نجاحي.
هل أصبت بالغرور بعد هذا النجاح؟! الكاتب لا يقاس بإبداعه وشهرته، بل بتواضعه، والغرور هو نهاية الإبداع، وأنا أقول إن الكاتب سارق ومتهم بسرقة حياة الآخرين والسطو على أحاسيسهم، أحيانا الكاتب يمشي ويسجل لكن بأمانة، كيلا يبتعد عن أخلاقيات الكتابة، فيمكن أن تتغذى من قصص الآخرين ومن تأملاتهم، في كثير من الأحيان تتعلمين من سائق أجرة، أنا أسرق قارئا ولا أسرق كاتبا.
نسبت رواية "ذاكرة الجسد" للشاعر العراقي سعدي يوسف، واستغل الأمر استغلالا كبيرا، كيف تلقيت الأمر؟! رواية "ذاكرة الجسد" التي نسبت لسعدي يوسف لم تكتب في مقال وانتهى الأمر بعد ذلك، ولو كان الأمر كذلك لاعتبرته أمرا هينا، ولكن الخبر انتقل إلى "وكالة الأنباء الفرنسية" التي رفعت ضدها دعوى قضائية، ولكن ما يؤلم أكثر هو أن الطعنة جاءت من الجزائر، فجريدة "الخبر" الأسبوعية أوردت الخبر تحت عنوان "سرقات أدبية" وفي الصفحة الأولى أيضا، فهل يمكن أن يصبح من كتب بروحه عملا تمجيديا لوطنه سارقا؟ والسارق الحقيقي يكرم ويمنح وساما ويرسل لتمثيل بلده في الخارج؟ لا يعقل أبدا أن أسرق عملا وتفاصيله المنقوشة في مخيلتي تشفع لي، فلا يمكن لأحد أن يكتب هذا العمل، فلا كاتب من العراق ولا من فلسطين يمكن أن يؤرخ لهذا الجسد ويجعل له ذاكرة.
كيف استغلت القضية؟ وكيف ترين موقف سعدي يوسف؟ ستة أشهر وأغلفة المجلات تنهشني ولم يأت أحد لنجدتي، سعدي يوسف اختفى تماما ولم يكذب الخبر إلا بعد شهر ونصف ظنا منه أنه سيبني مجدا وصرحا، لكنه صرح في خياله فقط، لأن الذي يقتات من جروح الآخرين لا يمكن أن يشبع أبدا، ولا يمكن أن يصل إلى إقناع الآخر، لأن القلم قلمي والأهم من ذلك الذاكرة ذاكرتي أنا، سعدي يوسف سكت ولم يتكلم حتى استفاد من الدعاية، رغم أنه من الناس الذين دافعت عنهم وكنت أقول: إني لا أدخل العراق مادام سعدي يوسف منفيا، أنا آذاني سكوته، ولكن بالنسبة له سيتبعه الأذى طول العمر.
كيف دافعت عن نفسك؟! تقصدين كتابي، الكتب لا يمكن أن ندافع عنها، لأنها تدافع عن نفسها، ما جدوى كتاب نضع فيه خلاصة الروح والفكر والتأمل ونأتي بعد ضجة قامت من فراغ ونقول إنه لنا، أنا أدافع عن شرف الكتابة فقط، فعندما يموت الكاتب فإن كتبه تتولى مهمة الدفاع عنه، ولقد قلت في ذلك: نحن نكتب كتبا لتدافع عنا وليس لندافع عنها، وإذا لم يستطع "فيلعن أبوه كتاب".
فوضى الحواس جاءت بعدها "فوضى الحواس".. أليس كذلك؟! لا.. "فوضى الحواس" كانت مكتوبة أثناء الحملة، جاءت "عابر سرير"، ولكني أحب "فوضى الحواس" بقدر ما أحب الراحل بوضياف، صحيح أن الراوي امرأة وهي تحمل من مشاعر الحب ما تحمل لكنها طريقة هربت بها التاريخ إلى صفحات بيضاء لا يمكن الآن أن تغتال حروفها ولا أن تسلب حقائقها، أرخت فيها لمرحلة من مراحل التاريخ الجزائري تنتهي باغتيال الرئيس بوضياف، وهي مهداة إلى روحه وروح الشهيد سليمان عميرات.
قيل إن فوضى الحواس ليست بمستوى ذاكرة الجسد، فما رأيك؟! ذاكرة الجسد هي الرواية الأولى، هي وجعي الأول، ربما افتقد القراء في فوضى الحواس الحرقة الموجودة في ذاكرة الجسد، ومع هذا فأنا أظن أنه عمل جميل وسيدافع عني حتما، سيدافع عني على الأقل لأنه جزء من الثلاثية هذه ومن خلال تاريخ لـ 50 سنة من تاريخ الجزائر في فضاء ورقي تجاوز 1000 صفحة، ولا أظن أن الذي يقرأ اللحظات التي وصفت فيها اغتيال بوضياف يمكنه أن يحبس الدمع، حاولت بحرقة كبيرة أن أهرب بذكرى هذا الرجل لورقي الروائي، إلى العالم العربي الذي لا يعرفه، التاريخ يحفظ الحدث ولكن من سيعود إلى التاريخ؟ ولكن الرواية الوصفية والتي تقرأ على مدار الزمن ستحفظ أدق التفاصيل.
هناك من يقول إنك تكلمت عن الحب بطريقة رائعة جدا، وهناك من اعتبر هذا الوصف الشعري توظيفا للجنس فإن كان توظيفا فعليا فما القصد من ورائه؟ أنا لم أكتب عن الجنس بالمفهوم المتعارف عليه ونصوصي وورقي المطبوع أكبر دليل على ذلك، أنا كتبت عن الحب وإن كان الجنس جزءا من حياتنا اليومية لا يمكننا إغفاله، والكاتب يقاس بطريقته في التعامل مع موضوع الجنس بالذات، ففي رواياتي يصل القارئ إلى النهاية دون أن يعرف ماذا حدث بين البطل والبطلة، فأنا أنقل الأحاسيس التي تخلفها الرغبة وراءها، وأنا كاتبة رغبة وليس كاتبة متعة، الرغبة شيء والمتعة شيء آخر، فالمتعة تغتال الأدب بشكل من الأشكال، وفي هذا المقام عندما يقولون لي إني أباع روائيا لأنني أوظف الجنس؛ أقول لهم اقرأوا ما كتبته الروائيات اللبنانيات والمصريات، وأنا لست ضد هذا،ولكن قلمي نسخة مني يتكلم كما يتكلم رجالي، فرجالي هم هكذا وأنا "كائن حبري" ولا أعطي إلا باللغة والأدب تطهير الذوق، فكيف أسعى للمتعة كي يباع عملي.
إذن أحلام تلعب على ثنائية اللغة والإحساس؟! نعم.. ولذلك تصعب ترجمة أعمالي، لأنني أزاوج بين السرد والشعرية، وهذا ما حبب قرائي فيما أكتب، وعندما أسأل عن العربية التي أكتب بها أقول إني تعلمتها في الجزائر، وأنا لا أعرف العربية أكثر منكم، فأنا أكتب وفي كتاباتي كثير من الأخطاء اللغوية والإملائية، وأتساءل أحيانا عن موضع الهمزة "إن كانت على الكرسي أو على السرير" وبرغم هذا أكتب بلغة جميلة، ليس لأني أتقنها أكثر منهم ولكني أحبها أكثر، لأني على قناعة بأن الذين ماتوا ماتوا من أجل هذه اللغة، والكتابة بالعربية في نظري ضرب من الجهاد، فمن أراد أن يجاهد فليكتب بالعربية ليس فقط لأنها لغة القرآن ولكن لأن 25 لغة تنقرض سنويا من العالم "وهذا تقرير رسمي من اليونسكو"، تصوري هناك تطهير عرقي لغوي، وسيأتي يوم لا تبقى فيه إلا اللغات الكبيرة والتي ستكون اللغة الإنجليزية هي الأميرة لأنها لغة العلم والتكنولوجيا، لابد أن نستميت في الدفاع عن اللغة، أنا لا أدافع عن العربية فقط؛ بل عن لهجتي الجزائرية داخل العروبة، أن أقف أمام العالم كعربية وأمام العرب كجزائرية.
تكلمت عن الرؤساء ولم تذكري "بوتفليقة".. لماذا؟! رغم أن بوتفليقة هو صديق جيد وقارئ جيد وناقد جيد ولو تحدثت عنه لقلت إنه يصلح أن يكون خير من يمثل وزير الثقافة الرائع لأنه على درجة عالية من الثقافة، حتى في غربته كان يطارد الكتب في كل مكان، وله علاقة وطيدة بالكتاب الكبار أمثال غبريال جارسيا ماركيز ، وهذا جانب آخر لا أريد أن أقول عنه شيئا حتى لا يحسب علي لو أن العلاقة أصبحت مع السلطة.
أخيرا.. ماذا تعني الكتابة بالنسبة لك؟! الكتابة تصفية حسابات، كتبت الثلاثية لأثأر لأبي وأنا لن أتوقف، فحتى وأنا أكرم أشعر بألم، فلا يعنيني التكريم ككاتبة، فالأهم عندي أن أكون مواطنة، أهم من ذلك المقولة الشهيرة "لا كرامة لنبي في قومه" ولا يعنيني أن أكون نبية، ولا يعني ذلك بالقدر الذي يعني أن أكون فيه مواطنة، أريد أن أعيش حياة مواطنة كريمة لا أن أكون مكرمة، وقلت الجبن بالمجان لا يوجد إلا في مصيدة الفئران، فلا يوجد من يكرمك لوجه الله، لا يوجد نظام يكرم المبدع بلا مقابل، فالنظام له حساباته، يكرمك عندما تصبحين كبيرة، فهو يحتاج إلى رفات مبدعيه مثلما حدث مع محمد الديب وآخرين.
ــــــــــــــ أحلام مستغانمي لـ "المثقف العربي" أنا "كائن من حبر".. ومن أراد الجهاد فليكتب بالعربية. الروائي إبراهيم عبد المجيد: حب الجماهير هو أهم جائزة حصلت عليها حتى الآن.
العدد40 , السنة الخامسة , 2005