بقلم : د. مصطفي عبد الغني- الأهرام 23 يوليو 2001
قرأت هذه الرواية اول صدورها( أهدانيها الصديق الكاتب الكبير صنع الله ابراهيم, لكن ـ لسبب ما ـ لم استطع الكتابة عنها كما فعل الكثيرون. ربما لأنها كشفت مصائر الغضب العربي في هذا الزمان( انتفاضة او ثورة), أو لأنها عكست هذه المصائر الانكسار في عالمنا المعاصر, أو ربما لأنها عبرت عن خيبات جيلنا( جيل ثورة يوليو) وما انتهي اليه الحلم العربي( هل مازال احد يتحدث بيننا عن ضرورة قيام وحدة فيدرالية؟).
هذه أسئلة لم أستطع الإجابة عنها. كل ما أستطيع قوله انني تركت النص بجانبي لقرابة عام, ولم أستطع الاقتراب منه بالفعل الإيجابي( فعل الكتابة), رغم وعي النص الفائق وحميميته بالنسبة الي, وهو ما خلفني عذابا طويلا لم استطع الخلاص منه حتي الآن.
هل يكون الخلاص بالكتابة؟ سألت وحاولت ان أجيب الآن, فالقضية قائمة والواقع هو هو.. واستعادة الوعي قبل ان يصبح مفقودا( فريضة غائبة) يجب التنبه اليها, وهو ما دفعني ـ اخيرا لاقتراف فعل الكتابة وها انا ذا احاول..
(2) رواية( وردة) لصنع الله ابراهيم نص يعكس حياة الفتاة المناضلة( وردة) ـ وهو اسمها الحركي والرمزي ـ التي آمنت بأسلوب التغيير( الثورة) في ظفار باليمن الشمالي ومن ثم, راحت تمارس هذا الأسلوب في التغيير في اليمن الجنوبي.. ولأن أحداث هذه المحاولة بدأت زمنيا ـ منذ الخمسينات ـ ومكانيا ـ من القاهرة ـ حيث كانت تدرس الفتاة الظفارية( شهلا), فمن الطبيعي ان يرصد الراوي ـ زميل الراوي في مصر الناصرية.. وعلي هذا نجدنا في فضاء الجغرافيا والتاريخ عبر التجريب الفني الناجح لصنع الله ابراهيم حيث تدور الاحداث داخل النص وخارجه, من الظاهرة الي بيروت الي مسقط الي صلالة الي صنعاء الي عدن فالربع الخالي حيث تقوم الفتاة بالنضال ضد قوي التخلف ـ سواء الواقع السياسي او النسق الثقافي ـ مع اخيها والآخرين في تنظيم سري وتقوم بدور عادي في النضال, لا يلبث ان يصبح دورا نضاليا واعيا لتنتهي الأحداث عمليا الي منتصف السبعينات حيث تغيب او تختفي الفتاة في الربع الخالي داخل النص وان استمرت خارجه اثناء تنقل الراوي الي المراكز الجغرافية الي التسعينات ليحاول ان يرصد ـ عبر ذكريات وردة التي اختفت او التي كان وراء اختفائها عدد كبير من المعارضين للثورة العربية.
أنها قصة الثورة ـ عبر الواقع او المجاز ـ منذ الخمسينات حتي التسعينات. انها قصة الثورة وما انتهت اليها عبر ثلث قرن تقريبا, فمنذ آخر مرة رآها فيها حتي كتابة النص كان لابد ان نستعيد ما حدث لنا ومازال يحدث..
انها قصة الثورة منذ صعودها في الخمسينات وهبوطها منذ السبعينات حتي اليوم. وهو ما نجح ان يعبر عنه النص الروائي بشكل واضح, فالكاتب حاول تتبع رحل وردة مع اخيها( يعرب) والشاب( دهميش) سواء خلال نضالها المستمر او بعد حصار الثورة, وتحول بعض المناضلين الي متحولين من الثورة الي الاكتفاء بما بقي من مكاسب, والانكفاء من المباديء التي خرجوا الي انتهازية تبحث عن الانتماء للقبيلة لا الوعي المدني المطرز بقيمة التغيير والتعبير عن الواجب..
اننا بين مظاهر كثيرة للتغير في هذا النص تغير زملاء النضال, تغير الواقع اشتداد حركة الامبريالية الجديدة, دلالة صعود المد الشعبي وهبوطه, ارتفاع موجة المد الثوري, وفلوله ظواهر التحول لدي السادة السياسيين او المثقفين او حتي الموظفين المنتمين الي واقع بعينه غياب القيم, الي غير ذلك مما حول( ثورة) وردة في النص ـ وخارجه ـ الي تخثر واحباط. وهذه الثنائية بين النضال والإحباط, او بين النضال والانتهازية او ـ حتي ـ بين الستينات والتسعينات ـ تمثل اهم خيوط هذا النص الروائي. وهو ما نسعي للإشارة اليه هنا.
(3) ان تداعي الصور في فضاء التاريخ تهبنا هذه المقارنة بين تفتح( وردة) الثورة, ثم النيل منها, ثم غيابها في الربع الخالي بعد ذلك, وهذا كله يتم عبر تهادي الأحداث وتراجعها بألم شديد. اننا يمكننا التوقف امام ثلاثة مشاهد تعكس لنا هذه المقارنة وتقررها امامنا.
ان ثمة مشاهد نجدها في اوراق وردة ابان فترة نضالها طيلة الستينات والسبعينات حين بدأت الثورة في عمان او حين تحددت الانتفاضة الشعبية في جبال ظفار. كانت الخمسينات تحمل انتصارات عديدة, نستعيدها من الذاكرة ونحن نقرأ كيف بدأت الثورة في عمان حين نقرأ( كان ربيع57 ساخنا للغاية, في مصر كان يجري الاستعداد لأول انتخابات ديمقراطية بعد الثورة وفي الجزائر كانت المقاومة ضد الفرنسيين تدخل مرحلة حاسمة..
ثم تواصلت انتصارات الستينات. (1) نحن نقرأ تحت في تاريخ اول يناير1966 هذه الفقرة لوردة ـ ساهمت في اعداد تقرير موقف بعد ستة أشهر من بدء الثورة, هناك روح جديدة في الجبال, في البدء كان رد فعل السكان حذرا او حتي معاديا اذ تعرضوا لضغوط جبارة من جنب المشايخ والعملاء, ثم انكسر طوق العزلة ببطء وكان اول المتعاونين مع الثورة ابناء القبائل المستضعفة والأسر الفقيرة من قرا وكثير وفي يوم آخر( انتصار تاريخي للشعوب) وفي يوم ثالث مواجهة كبري في رابضات الكلاب حسرنا مقاتلين ونسفنا سبع عربات عسكرية وقتلنا وجرحنا58 من العدو( و) كشفت لجنة الإقطاع في مصر عن... و( المواجهة الكبري مع الامبريالية...) إلخ.
(2) نقرأ تحت تاريخ22 يونيو1969 ـ القوات المصرية تواصل سياسة انتهاك العدو بالقصف المدفعي عبر قناة السويس ديان يصرح قناة السويس تحولت الي جبهة حرب جديدة, عمليات فدائية فلسطينية علي كل الجبهات, الغام وكمائن ونسف سيارات..). ونصل لتؤدة ومرارة لابد من ذلك..
(3) وحين ينتقل بنا الراوي الي مسقط في نهاية1992 نسمع احد ابناء البلاد يتحدث عن التحديث: ـ اي تحديث هذا الذي يتم تحت سيطرة الأجنبي؟ هناك مستشار انجليزي في كل وزارة وهناك قواعد امريكية جوية وبحرية في اماكن مختلفة في جزيرة مسندم في تمريت هناك قاعدة بريطانية حولتها الولايات المتحدة في75 إلي محطة تموين لطائراتها المنطلقة من الفلبين بل هناك قاعدة جوية في السيب بجوار مسقط, هناك ايضا اسرائيل, علاقات وتطبيع وجواسيس يمرحون في كل مكان. وحين يحدثه الراوي عن التحديث في مصر يرد برد عنيف ويضيف:
اسمع التحديث المزعوم انتهي خلاص آخر مول بيني هذا العام ولا جديد بعده. وحين ينتقل بنا الراوي الي صلالة في نهاية عام1992 نتعرف علي مشهد مغاير تماما ننظر لبعض ملامحه. ـ مررنا بمبني الاذاعة والتليفزيون وذكر خلف ان هناك مصانع اخري لتعبئة الموز واللبن وبيبسي كولا وسفن أب. وتظل يوميات وردة التي اصبحت الآن( شهلا) ورشيد الذي اصبح الآن( الراوي) تنقل لنا بشكل مباشر أو غير مباشر بما أبحنا عليه في التسعينات, نقرأ: النظام مسخر لخدمة مصالح التجار الكمبرادور من الأسرة الحاكمة والوزراء وشيوخ القبائل ووجهائها ثم نسمع عن نشاط رجال الاعمال العرب وظواهر عامة يسمع عنها كل يوم مدير بنك سرق عدة ملايين وافتضح امره فحكم عليها بالسجن سنتين مع ايقاف التنفيذ. وكيل وزارة البلديات قبض رشوة من شركات اجنبية قدرها ثلاثة ملايين ريال وابلغ عنه شريكه فحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات مع ايقاف التنفيذ ويمكنك ان تتصور المستقبل المظلم الذي ينتظره خلال عقد او عقدين.. الخ.
وما حدث في التسعينات داخل النص وخارجه اكثر مما يختزل في مثل هذا الموضع الذي تتهادي كلمات كثيرة من امثال كونتكطي والماكدونالدز والانتهازيين وصندوق النقد الدولي والبيبسي كولا وسفن واشادة الصحف عقب تحرير الكويت ببوش... الخ. وبعد هل كتبت عن( وردة) وانا مذبوح من الوريد, الي الوريد؟ هل عبرت عن الزمن الغائب/ الحاضر/المرير؟ هل؟ حدثت نفسي, وعدت أحاول من جديد..