التقيا صدفة عند مدخل باب السينما.كانت هي رفقة صديقة لها تحمل بعض الأغراض بين يديها، تطل من بينهم كتبا و أوراقا.تكلم صديقتها بصوت خافت ثم تعود إلى صمتها في انتظار افتتاح القاعة.و كان هو في الجانب الآخر من القاعة يتفحص جريدة ،متكئا على الحائط.وفي غفلة عنها يسرق بعض النظرات ممزوجة بابتسامة جميلة.استوطن الظلام قاعة السينما و انجذب الكل إلى النور المنبعث من الشاشة الكبيرة.ظلت هي تبحث عن نظراته المضيئة وسط الظلام.صارت قادرة على اكتشاف العيون من مسافة بعيدة و وسط ظلمة حالكة.و كان هو بين الفينة و الأخرى يلتفت إلى الوراء باحثا عن ابتسامتها الهادئة.لما انتهى العرض تقدم إليها و قال :هل أعجبك العرض؟ضحكت كثيرا و لم تجب.و أعادت إليه نفس السؤال:و أنت هل أعجبك العرض؟ضحكا معا و كان اللقاء الأول.
توالت اللقاءات و كان هو الولهان المتيم لا يفارق ظلها، ذابت روحها و حلت في روحه.لقد كسرا كل القواعد المضروبة من طرف حاكم القبيلة و أعادا إحياء الحب العذري الغابر في الزمان.كان ينتظرها في مقهى وسط المدينة، يبتهج قلبه لما يراها قادمة و تنتفض فرحا لما تجده في انتظارها.كانت كؤوس القهوة ذات النكهة العذبة شاهدة على كل حوارا تهما. مرت ليالي و أيام و توالت الفصول و ظل هو عاشقا صادقا و ظلت هي عاشقة متيمة.
ظلت تحوم حولهما الشوائب و العيون المتلصصة، فالحب العذري مات من زمان أو لم يكن قط هو فقط أسطورة من اختراع البشر.هكذا كان يتكلم عموم الناس و حراس القبيلة.لم يعد للناس من حديث سوى عنهما.صارا أحاديث الجلسات و السهرات الليلية. كان يمضيان الليل كله بين أحضان البراري و الغابات العذراوات لأنه كان فيه خلاص لهما من القيود البشرية التي تِؤمن بكل ما يبرق.دعاها في يوم من الأيام إلى سهرة ليلية على جنب الأمواج الهادئة و النجوم البراقة التي كانت تحرسهما بأنوارها المتلألئة:كم اشتقت إلى الحديث معك و بعيدا عن أعين الحراس. تكلم بصوت خافت.ابتسمت وقالت:أنا أيضا اشتقت إلى الحديث إليك.وصمتت و تركت أصوات الأمواج تكمل الحديث بدلا عنها.أصر إليها بأشياء و أسرار كثيرة بكل ما هو مهم و غير مهم.تلعثم بعض الشيء و قال :أنا لا أخجل من قول كلمة أنني أحبك.سرت بين ضلوعها قشعريرة هزت وجدانها كله و كادت أن تقبله لولا خجلها الذي ورتثه عن أهل قبيلتها.هذا الخجل الذي يقول للبنت أن تنتظر الخطوة الأولى من الولد حتى لا تضيع بين بنات الهوى.قاما و مشيا طويلا بين دروب واسعة كأنها خالية من الحياة.قالت له:أنا أحب النضال الذي يجعل الفتاة قوية و مستقلة.حتى أن هناك شاعرا عربيا معروفا أحب فتاة سجينة بسبب أفكارها المغايرة لما هو سائد.مسح فمه بمنديله و قال:النضال هو الذي يعطي قيمة للحياة خاصة في الدول المتخلفة.وصلا إلى شارع مليء بالسيارات، كانت تمسك يده و تتفاخر بسلوكها هذا غير عابئة بالرقابة.لما وصلت إلى بيتها و دعته على أمل لقاء آخر في مكان آخر. في اليوم الموالي كانت الشمس تحرق الأبدان و العرق يتصبب دون بدل أدنى مجهود.احتمت الناس بالنظارات و أحيانا بالمظلات، و كانا على موعد في مقهى وسط المدينة.انتظرها بعض الوقت حتى ظهرت تشع نورا كالهلال بلباسها البسيط المكون من سروال و قميص.قام و استقبلها بابتسامته العاشقة و احتضن يدها بين راحتيه.تركتها لم تبد أية مقاومة، لأن فيها برد جميل يسري بين العروق اللاهثة و ينعشها.قال لها:ماذا تشربين؟قالت وهي تحاول التخلص من بعض الشعرات نامت على جبهتها:شرابا منعشا. طلب عصير يين من الليمون و تكلما كثيرا عن التعاونيات التي غزت البلاد و مشاكلها الكثيرة و الغير القابلة للحل.قال لها:لقد اشتركت في تعاونية من أجل الحصول على قطعة أرض و بناءها،لكن المسئولين كثرت حججهم و تبريراتهم و لم نر شيئا. قالت له بكل جدية:لماذا لا تنسحب إذ هم لم يلتزموا بوعودهم؟تنهد ووضع كأس العصير جانبا وقال:لو كان بهذه السهولة لفعلت هذا منذ زمان.قالت وعيونها كلها دهشة:لماذا؟ ابتسم وحاول أن يشرح لها بأن التعاونية ترفض إرجاع المال لأصحابه بحجة أن تلك المصاريف دخلت إلى الصندوق و...و يجب الانتظار حتى تكتمل القائمة للبدء في البناء و لو بعد سنوات.حاول تغيير الموضوع حتى يستمتعا باللحظة أكثر.اخترقا شوارع المدينة بخطى ثقيلة وفي كل مرة يسرق إليها بعض النظرات و يبتسم و هي فرحة بوجوده تشعر بنظراته التي تزيدها ثقة أكثر.في يوم من الأيام في غفلة عنهم جميعا قال لها:أنا كنت دائما أبحث عن الفتاة التي تحبني كثيرا.و قالت له:الحب الكثير يؤِدي إلى التملك.رد بكل ثقة:أريد أن أشعر بقوة إحساسها ناحيتي. تجادلا كالعادة و ضحكا حتى نسيا موعد العودة.تطورت علاقتهما و صارت متينة كالجبل.لا يمر يوم دون لقاء. كانت تكره لحظة الفراق على أمل اللقاء في الغد وتتمنى أن تتوقف جميع ساعات العالم حتى تتيه معه في بلاد العجائب. كانت تلك لحظة ملعونة من لحظات الزمن القاتل، يوم رد عليها بعنف أمام الملأ معتبرا إياها متملكة و مترددة.سقطت كل الكلمات تباعا من فمها و تحجر لسانها و بكت كثيرا دون إرادتها، انسحبت تحاول أن تفهم ما حصل.قالت وهي في غيبوبة "هل هي فعلا عين الناس كما يقولون؟"تمنت أن تصرخ و تعلن ألمها من جراء طعنة الغدر في الظهر.تاهت و استحالت المدينة في عيونها إلى ركام من الجنائز لا تشم فيها إلا رائحة اللحم البشري. بحتث عنه في كل الأماكن التي يرتادها، تبخر مع السراب.لا أثر له لم تبق سوى كلماته العاشقة و الحنونة منذ اللقاء الأول.انزوت في ركن من أٍكان بيتها الذي شاركها كل أفراحها منذ لقاءها الأول، نامت على الأرض دون أن تفهم ما حصل.عادت بشريط ذكرياتها إلى اللقاء الأول، ابتسمت ثم انهارت الدموع على جفونها الحزينة، و استوطن المكان صمت رهيب و راحت الدموع تحدث لها مكانا خارج الأسوار.مرت الأيام و السنون، جفت دموعها و عادت إلى حياتها الطبيعية، لكن أحاديث المقاهي و الجلسات الليلية أعادوا تواجده،فرفضت النظر إلى الوراء رغم شوقها الكبير إلى لمساته الناعمة و همساته العاشقة.
و كان اللقاء الأول
بقلم: أمينة شرادي - في: الاثنين 5 يناير 2009 - التصنيف: قصص
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...