هذا جناه الأدب على أحلام

ربما لم يفكر كاتب في توثيق ونقل تجربته في الاطلاع والقراءة إلى قرائه في رواية، إلا ما ندر، فعلها الكاتب الكبير عباس محمود العقاد في كتابين بديعين ملهمين ومهمين هما كتاب "مطالعات في الكتب والحياة" (إصدار المطبعة التجارية الكبرى ١٩٢٤) وكتاب "ساعات بين الكتب" (الأعمال الكاملة، المجلد ٢٦، الأدب والنقد ٣، إصدار دار الكتاب اللبناني).
هذان الكتابان للكاتب الكبير عباس محمود العقاد، كانت كتاباته فيهما مباشرة، وانطباعاته صادقة ذات أغراض فكرية موسوعية، ينقل فيهما العقاد، هذا الكاتب العملاق عصارة فكره ومبلغ عشقه العظيم للقراءة والاطلاع إلى قرائه. لكن ربما أستطيع، وذلك اعتمادًا على ذاكرتي وقراءاتي، الادعاء بأن رواية "هذا جناه الأدب على أحلام" للأستاذة نهى عاصم ( هي الرواية الوحيدة عربيًا التي استطاعت الكاتبة من خلال السرد، وفي إطار الشكل الروائي نقل تجربتها في عالم القراءة، أو تجسيد رحلة الفتاة "أحلام" مع الثقافة والاطلاع.
قراءة هذه الرواية كانت رحلة ماتعة، استطاعت من خلالها الكاتبة استعراض عددًا من الكتب القيمة في شكل روائي محبب للقارئ، وكذلك استطاعت بناءً على هذه القراءات العميقة والواسعة التي أحدثت أثرًا بالغًا في نفسها، أن تنقل هذا الأثر إلى القارئ، فإذا به يرتبط بالأحداث إما من خلال خبراته الذاتية إذا كان قد اطلع على العمل أو من خلال العيش في سرد الكاتبة والإندماج مع الأحداث، فيتعرف على الكتاب الذي تتناوله أحلام من خلال تقمصها للشخصيات، وأحلامها الشائقة، كذلك ينسج أفكارًا تتعانق مع أفكار الكاتبة وربما تتعارض معها، لكن المهم والأهم أنه يجد نفسه داخل العمل الروائي دون قصد أو نية مبيته، فإذا به أمام فتاة تركت الواقع وتعيش أمامه في السرد، تنسج لذاتها واقعًا من الخيال الروائي، وتتقمص شخصيات قرأتها وتأثرت بها إلى حد الإندماج والذوبان، حتى يصل بها الأمر إلى الاستعانة بطبيب نفسي، كل هذا في صور رقيقة وناعمة، وخيال ممزوج بتجارب حياتية وواقعية للمؤلف، هي تجارب ذاتية، ورحلة ثرية من الاطلاع والقراءة ليست قصيرة أو هينة.
لهذا جاءت الرواية في غاية النعومة، بديعة استطاعت الكاتبة من خلالها منح القارئ عصارة خبراتها في القراءة، وساعات بين الكتب والروايات دون تعمد ودون إشعار القارئ بتعاليها أو بما نسميه "فزلكة" والتباهي بسعة الاطلاع.
في الوقت ذاته؛ استطاعت الكاتبة اقتناص الفرص لتوظيف ما لديها من خبرات في القراءة، وما لديها من حصيلة روائية مبهرة، في خدمة الرواية التي هي في صدد كتابتها وتقديمها للقراء، واختيار المواقف التي تجسد الحالة النفسية التي تريد التعبير عنها، لذلك لم أشعر أثناء القراءة بالتأفف أو السأم والشعور بالإعراض عما تقدمه من مواقف وشخوص خيالية وحكايات جاءت من روايات شهيرة أو ربما مغمورة، كل ذلك حسب قراءاتها واطلاعاها ومدى تأثرها بكل ذلك.
في النهاية كنت أنتظر من الكاتبة عرض وجهة نظرها الخاصة، بعيدًا عن التمثل بوجهة النظر التي جاءت في الروايات والكتب التي قرأتها، وبالفعل لم يخب رجائي، إذ بالكاتبة تخصص فصلًا ربما هو شبيه بالعرض المسرحي، أو الديالوج بين الدكتور المعالج وبينها -أحلام- تتناول فيه رؤيتها الخاصة بعد أن شارفت على الشفاء.
الرواية تتميز بالبساطة والعذوبة والعذرية الناعمة، تلك التي نفتقدها في الوقت الحالي، حيث المادية والخشونة واللهاث خلف المال والرغبات المادية دون المشاعر والأحاسيس الرقيقة، لهذا فهي للقارئ مرفأ يستطيع أن يلتقط عنده الأنفاس، ويبعد ولو قليلًا عن الضوضاء وحركة تروس الحياة التي تفرم مشاعرنا وتستهلك عواطفنا فنصبح جزءًا من هذا الترس، وتلك المفرمة العنيفة الغبية.