الفصل الأول من رواية نجوى شعبان
إهداء إلى الغالية : إحسان فهمى
قالت إيزيس : " أنا ما كان ، وما هو كائن ، وما سيكون.. وما من إنسان بقادر على رفع برقعى " أليست " الحقيقة " نفسها كذلك ؟
" معظم التاريخ ظن وتخمين والبقية الباقية تحامل وهوى " ديورانت
( مفتتح )
يسأل غريب عن الطريق إلى باب الحرس ، يرد الدمياطى بترحاب : عليك أولا أن تمر بجامع المطراوى .. وما إن سمع المارة الكلمة "جامع المطراوى" حتى وقف أحدهم وسدد لكمة حانقة إلى فم من نطق بها. كيف لا ؟ وهم ما هدموا قصر المطراوى ، وشيدوا مكانه جامعا إلا لتتوارى فى البعيد سيرة المطراوى إلى الأبد. لكن ظل الناس يشيرون إلى التبة بحذاء النهر حيث كانت أبواب قصر المطراوى تطل على النيل مباشرة بأنه شارع المطراوى ، حتى نهاية القرن السادس عشر. عندما أستحدث لقب الشهبندر ، أطلق الناس على ذلك الموضع اسم شارع الشهبندر تارة وجامع اليقين والتقوى تارة أخرى. استغرق الأمر مائتى عام حتى صار الناس يدلونك على الوكالات التجارية بقولهم (عليك أن تتخذ يمينك حتى تصل إلى جامع التقوى) أو ( فى خلف جامع اليقين ستجد وكالات قصبة الثغر). هكذا وبتسويف شديد ، انمحى من ذاكرة الناس وببطء النسيان نفسه ،اسم المطراوى كبير تجار دمياط حتى يحل محله أو محل قصره "جامع اليقين والتقوى". اقتضى النسيان أجيالا فقد كان الناس يحبون المطراوى لإحسانه ورقة قلبه وإحساسه بالفقراء منهم ، صحيح أنه كان يسرقهم باعتباره أكبر التجار ، لكنه الوحيد الذى رأوه يعيد بعض ما سرق حيث يتصدق ويحسن وينشئ بعض المرافق لهم. لما عرف الناس دخيلة المطراوى بعد موته ، وقعوا صرعى ما بين حبه والاستياء منه ، كلمة الاستياء طفيفة قد لا تقترب من المعنى الذى يدل على حقيقة مشاعرهم ، ربما كان الكره هو الوصف اللائق الذى يشعرهم براحة ضمائرهم حيال آثام المطراوى . تساوى فى التأرجح بين الحب والاستياء الكاره :المسلمون والأقباط ، مسيحيو الشام والأرمن وأوربا ، وكذلك اليهود والسريان فى هذه المدينة العتيقة ذات الثغرين.
(الفصل الأول )
يجلس غياث الدين على صندوق متاعه قبالة مقدمة السفينة التى تشبه رأس الغراب ، داعيا ربه ألا تؤجل القافلة عزمها على الإقلاع الآن قبل الهبوب العاصف لأنواء الكرم بعد نحو يومين ، ولما كان اصحاب السفن يتلكأون فى مساومات مع رجال الجمرك والمصدرين ، تضرع متمتما : ياشيخ خراشى انجدنى.. تدور كالدوامة فى صدره وأذنيه استغاثة بائعة الفجل فى سوق الحسبة ، عندما ُقلبت بضاعتها وديست بأقدام جياد الإنكشارية ، دبت المرأة على صدرها وصرخت : يا خراشى!! سيعيد على السائلين انه ذاهب إلى رودس لبيع أجولة من أقراص النيلة وبذور شجرة السنط والقرض والحصير المصنوع من نبات البردى ، لن يذكر شيئا عن أخته المتوفاة أو بحثه عن ابنها ليكفله ، فلم تعد ُتعرف أية أخبار عن زوجها. يستنجد بعينين ضارعتين أن تتلبد السماء بغيوم لا تخيب ، تزمجر ، تهطل ، فى ذلك الأسبوع الأخير من شهر يناير ، لتذكر البحارة بقسوة نوة الغطاس التى هبت قبل أيام .. لكنه دهش ليس لصفاء السماء ، بل لظهور القمر واضحاً الى جانب الشمس فى تلك الظهيرة ، وكان غائبا قبل أسبوع خلف غيوم رمادية ثقيلة ليلة مقتل كبير تجار دمياط " عبد الجليل المطراوى" الذى يصدر البن والبكسماط و يملك معاصر الزيت والمقالى وعيدان الأرز لضرب وتبييض الأرز والحمامات وأيضا المصابغ جميعا.. ظل يردد : المصابغ..المصابغ!! يلقن غياث الدين (وشهرته غيث الصباغ) نفسه ما سيقوله ، ويستعرض خط سير قافلة سفن الأغربة التجارية وما يرافقها من سفينتين حربيتين من طراز "المسطح" فضلا عن سفينة التجسس "الشيطى".. فبعد مغادرة ثغر دمياط ، ستبحر فى بحر الروم الى أربعة ثغور : أزمير ، قبرص ، رودس ومرسيليا. مع اقتراب جنود الإنكشارية .. وجم غيث الصباغ :" أنا لا علم لى بذلك ، لا صلة لى بالأمر .. نعم !! ..بالطبع لا ، هذا المنديل الذى تقولون أن به جذور الفوة عود المخدر لا يخصنى".. نظر إلى امتداد البحر كأنما يموه عليهم اهتمامه الأساسى : الأغربة. إلا أنهم تخطوه دون أن يعيروه اهتماما. صعد الغراب ناظرا إلى القمر النهارى مرة أخرى ، فى نهار مقمر آخر صعدت أخته "ليل" مع زوجها إلى السفينة بعد أن دقوا وشما على كتفها باللغتين العربية واليونانية : " ليل بنت السيد بصل". سفعته لفحة برد قارصة " طوبة تخلى الصبية كركوبة" تقول ليل فى ليالى الحكاوى لإخوتها الثلاثة : التوأم غياث الدين وليث الدين وسنانية الأخت الصغرى التى نجحت ليل فى تزويجها صبيحة يوم الفل. ساءل نفسه: هذا اليوم أكان فى جزيرة الفل أم جزيرة القيامة ؟ قبل أن يستقر فى إحدى المصارى الصغيرة/ القمرات ، سمع ضوضاء عالية ،استطلع الأمر ، أخبره تجار خرجوا من مصاريهم الواسعة : عسكر القبودان هائجون. نزل عسكر القبودان إلى الخُن فى قلب السفينة الذى يحوى متاع التجار وبضاعتهم ، يفتشون بدقة وسواسية كل البضائع والمصارى ، يعترض صاحب السفينة الفرنسى :" لقد دفعت بالفعل عشر بارات ،اثنين رسم حق الميناء والثمانى الباقية من أجل المغادرة .. كما أنى لا أستغل الشح فى قمحكم وأسمح لتجاركم ببيعه لى". تجاهله العسكر .. توتر كتيم تخففه ثقة كل تاجر بأنه لا يهرب قمحا ، " لكن ما حال التجار الآخرين ؟".
غادر السفينة العسكر بوجوه جامدة ، استراح ركاب السفينة ، ُأشرعت قلاع السفينة وجلس مائة وثمانون من رجل سواعدهم كالجذوع إلى مجاديفهم ، وقالوا مهللين بلغة أهل البحر " ياللا ، ها نخطف " ، وبدأ الإبحار وئيدا.. وفى المقدمة والمؤخرة سفينة حربية عثمانية ، تدعمهما "الشيطى" السفينة الصغيرة التى تنطلق ليلا بلا شعلة أو ضوء ، لاستكشاف إذا ما كان ثمة قراصنة قريبين منهم .. رغم الهدوء النسبى لأنشطة القراصنة فى ذاك الوقت ، فسفن القافلة ليست كلها مطلية بلون مياه البحر للتخفى. ينخل اللون الرمادى نغماته على القافلة باقتراب الغروب قبل أن تتحول إلى أشباح طحلبية ، مائة وثمانون زوجا من العيون يستحلبون الضوء الأخير من النهار وسقف الحماية من القراصنة فوق رؤوسهم يراوحهم بين درجات الإعتام .. لم تعد تحمر أو تلتهب أكفهم ذات الجلد السميك ، ماتت الخلايا المبطنة لراحات أيديهم ، حتى أصبحت صلبة لا تحس تقريبا.. ومع رياح غربية مواتية انسابت الأغربة فى البحر كطيور تحلق بارتياح فى الهواء .. انسلت "الشيطى" مع مقدم الظلام تضرب بثمانين مجدافا واهن الصوت للاستطلاع عن أية سفينة ( ملبى) للقراصنة فى الجوار .. ظلت قابعة لفترة .. وبدا بحر الروم خاليا من أى حركة فيما عدا القافلة. تتهادى السفن فى بحر سطحه ملاءة من الزئبق فى تأرجح ناعم ، يتآلف ضى القمر مع الزئبق الفضى فى جمال يصعب حتى على رهبان الصحارى المصرية التنبؤ به أو احتماله. دلف غيث إلى ُقمرته ، ودَّ لو خلع عن كاهله سنوات عمره . مسئوليته عن اليتيم واتهامه بقتل كبير تجار دمياط هاجسان يطوقانه ، أمال رأسه فى إغفاءة مباغتة ، فزع منها غيث وقد ظنها أعواما ، رأى نفسه يطفو على سطح البحر وحيدا ، والطريق إلى رودس لا يزال طويلا ، طويلا ، هل سيقطع هذه المسافة سباحة فى هذا الشتاء القارس ، يرتجف من صقيع المياه.. هاهو الآن فى رو دس يبحث عن نور الدين ، النار تلتهم الجزيرة ، ما إن تقع عيناه على مبنى حتى تدكه النيران ، يترك الحى المحترق مخلفا وراءه أسواره وبوابته وقد ضربتها الصواعق ، يتجه الى جبال قريبة : إنه الطريق ، البيوت مخفية وسط تدرجات الجبل ، حتى هذه تشتعل. . ورأى دارا صغيرة ذات قبة باقية على حالها ، يقف على بابها صبى ، أشاح بوجهه الى جهة أخرى ، ثم صرخ : كيف لم أعرفه ، إنه نور الدين ، عاد ولم يجد الدار ولا الصبى.
(2)
لكز شيخ طائفة الكحكيين حماره :" همم ..يا حمار ، الطريق من المنشية لسوق الحسبة طويل ، لازم أوصل للمحتسب قبل صلاة العصر" .. قلقا من تضييق المحتسب عليه بأوامر ونواه عن كمية الدقيق المسموح بها للكحكيين ، وعن مقادير صنع الكعك والقُرصة والغريبة ، وأوزانها ، ونوع الزبد أو الزيت ، والنقوش على الكعك .. حتى النقوش بات يتدخل فى كيف ترسم ولم يكفه اتفاقه مع صناع المناقيش على رسم الهلال :الراية السلطانية ، لينقش بها كعك العيد. يشق الزحام واجما ، لا يخامره استبشار بالخير ، ربما يومئ المحتسب باستدعائه إلى وجوب تقديم هدايا وتقدمات عينية مقابل تساهله معهم فى الأسعار والأوزان. كان لابد أن ينتظر حتى ينهى المحتسب أموره مع موظفيه وشيوخ بعض الطوائف ، وتحدث خلالها مع نائبه " شاد الدقيق" الذى يشرف على كل صغيرة وكبيرة تخص عجين الخبز والكعك ، انتظر أيضا حتى فرغ من صلاة العصر فى الجامع القريب وعاد .. فقط عند المغرب ، مثل بين يدى المحتسب الذى دفع إليه ببضع قطع من الكعك ، قال : انظر أخذها شيخ الطائفة فى كفه كأنما يزنها ، يفتت جزءا من الكعكة ليعرف مدى الإلتزام بالمقادير وبأنها ليست متحجرة ، تذوب بضغط خفيف بين أسنانه ولسانه. زعق المحتسب : قلت انظر هنا فقط تنبه : ماذا؟ .. فرك عينيه ليزداد وضوح المنظر على وجه الكعكة ، ثمة راقصة تتعرى جزئيا فى رقصة النحلة ، رفع حاجبين مندهشين إذ أصابه خرس مباغت ، عندئذ دفع المحتسب إلى كفه بأخرى وأخرى : رجل يخاصر امرأة ، جسد أنثوى فرعونى عار ، غزالة وآيل فى عناق لطيف ، ملك وملكة من الفراعين فى قبلة. -انه لفسق ..تمتم شيخ الطائفة إنفراجة ضيقة لشفتيه ، ورعشة فى لحيته :" فسق ، فسق " وكأن حبات مسبحة فى ذهنه تتبارى كى يبرأ مما رأى. فى دفاع أخير عن نفسه أحنى جذعه ، وجرَّ ساقيه للخلف متقهقرا : سيكون الفاسقون بين يديك فى بحر يومين ، يومين فقط. انزعج المحتسب من كم الهرج والمرج والاختلاط غير المحتشم بين الرجال والنساء فى الطرقات والأسواق خلال أيام عيد الفطر الفائت ، ذلك المرح الهيسترى ، والتهتك المكتوم .. كان الشباب يتداولون المعجنات بحس تواطؤ رجيم ، وعيون بها لمعة رضا وشهوة لم يكتملا .. اشتكى الشيوخ ، وجاءته إخباريات من قرى البسارطة ، طرانيس البحر ، السنا نية ، عزبة البط ، عزبة النسوان ، عزبة البرج ، شرمساح ، محلة انجاق ، محكمة القنطرة وسوق الخواصين وغيرهم. كان موسما طيبا للكحكيين ، الذين حاول صغارهم تقليد هذه المناقيش بطريقة فجة ، ليست لها غواية المناقيش فى الأحياء حول الثغر ، ليست لها الرشاقة والشحنة الحارة كعطر معتق لأجسام ينبغى دوما أن تختفى تحت ستائر سميكة. لم يبحث شيخ الطائفة كثيرا ، فسرعان ما أشارت أصابع المتنصلين من هذا الانحلال إلى أشهر وأمهر كحكية فى بر دمياط المحروسة كلها: ليل بنت السيد بصل. ردد الشيخ : ليل .. هذه العانس ؟!
قال لها : بالطبع ستتبرأ منك الطائفة ، ويتم تجريسك على حمار يمشى من الشيخ درغام وحتى جامع البدرى قبل سجنك . نظرت له هادئة وقد تغضن جانبا عينيها ، ليعطيا ابتسامة عينيها جاذبية ملغزة ، مدفوعا لفهم لا مبالاتها غير المستفزة واستكانتها الطبيعية ، قال: تجلبين العار لنفسك واخوتك هؤلاء الذين قمت بتربيتهم وحدك. لم يصدق نفسه حين سمع منها صوتا محايدا : اعتبر أننى لم أفعلها - هكذا !! دون ثمن - طلباتك؟ - تلبسين ملابس تحضرها لك جاريتى السوداء ، وتضعين برقعا ثقيلا ، وتأخذك الجارية إلى حجرتها .
تراكمت مشاعر التوجس والتشاؤم لدى ليل حين جاءتها جاريته السوداء ، رأتها موصولة الحاجبين ، وبرغم جمالها تذكرت ليل ما قالته أمها ، إن الحواجب المقرونة دليل الحسد ، حممتها الجارية بنفسها مستخدمة قشور الرمان لتنظيف جلدها وتنعيمه ، والريحان لصفاء بشرتها وازالة رائحة العرق ، جدلت مع شعرها ضفيرة واحدة سميكة وبعض الحلى الرخيصة ذات أجراس صغيرة بعدما ضمخته بدهن الماعز وخشب الصندل.. انساب شعر ليل إلى ما بعد خصرها ووضعت على رأسها عمامة من الشاشات الملونة فى شكل كعكة وأمالتها الى الجانب الأيمن من رأسها فأظهرت القصة على جبينها وخصلات الشعر المنسدلة على أذنيها. طبعت الجارية على خد ليل خال الحسن ، وكحلت جفونها بالأزرق القاتم ومدته إلى خارج عينيها فى خطين يتماسان حتى منتصفهما كذيل سمكة. وألبستها سروالا واسعا من الحرير الدمياطى وشدت زنارا من الكشمير على خصرها الذى بدا نحيلا ، وعليه صديرى مشغول بالسيرما ، وفوقه السبلة ونقاب من التفتاز ابيض ضارب الى الحمرة والذى يشير إلى عذرية ليل. واضح الآن لليل أنها ستتحرك مثل جوقة موسيقية متمهلة فى عزفها من الترتر والبرق بصفائحه الفضية الرقيقة المزين بها ضفيرتها وبرقعها وحزامها ، وبعد أن انتعلت المست من جلد الماعز وفوقه خف من الجلد المراكشى الأصفر ، وضعت الخلخال الفضى ذا الشخاليل مطوقة به أسفل ساقيها. مشت ليل الى جانب الجارية التى كانت مكشوفة الوجه وشعرها مرفوع فوق رأسها وعليها ثوب من الحرير الأسود الفضفاض..تباطأت خطوة ليل السريعة دوما تحت ثقل العديد من قطع الملابس وما تنتعله فى قدميها ، تباطأت متوحدة مع تدلل الخاتون والخوندات فى مشيتهن واحساسهن بجمالهن وثرائهن ، انها تلبس الآن ثروة لا بأس بها من الفضة على الأقل.
كان قلق ليل عظيما فرفضت عرض الجارية أن تؤجر مكارياً لنقلهما ، إنها معتادة على المشى من الأفران إلى حوانيت الكحكيين ، ضمت بيدها اليمنى فتحة صدرها المخفية تحت النقاب كأنها تستر عن الناس ما هى مقدمة عليه، وفى مشيتها الموسيقية ، مرت بجانبها فرس تخب وعليها إنكشاري ..كانت تصدر الصلصلة نفسها ، تلك التي تصدرها خطوة ليل. دار الإنكشاري بفرسه نصف دائرة ليكون عند رأس ليل تماما وبسرعة خاطفة أخذ شيئا منها لم تدركه في الوهلة الأولى ، أحست برأسها أقل ثقلا ، صرخت الجارية .. قص الإنكشاري ضفيرة ليل الطويلة الثخينة. صاحت المرأتان فى استغاثة ، وقف غالبية المتفرجين ذوى المزاج البلغمى بطيئي الاستثارة ، بطيئي الفهم ، ذوى الأخلاق المتزنة ، الذين لا يرتكبون الصغائر ولا يجترحون المعجزات ، وقفوا وقد تخشبت ظلالهم خلفهم في عصر يوم دفؤه سابق لأوانه في شهر كياك.. ثم أداروا أكتافهم وانصرفوا ، من سيقف أمامه؟ تشاءمت ليل أكثر : هاهى قد فقدت شعرها ، ومقبلة على فقد عذريتها ، صحيح أن نصف ُسمك وطول الضفيرة من الشعر المستعار ، إلا أنها تمنت للمرة الألف أن تقدر على البكاء ،هذه القدرة العصية عليها لشدة ما تعودت من ضنك الحياة. أما عصبيو المزاج ، المندفعون، المتهورون، فقد أشاروا على الفتاة المنقبة أن يتشكى والدها للمحتسب ، ابتسمت تحت برقعها ساخرة .. وفسر الفاهمون العارفون أن ذلك الإنكشاري لن يبيع شعرها ، إنه مهووس بالرغبة ، سوف يضاجعها في خياله ، وتساءلوا لم يحرم عليهم السلطان الزواج طالما ظلوا من العسكر العثمانلية. ألحت الجارية عليها أن يكتريا حمارين ، خاصة أن الطريق طويلة ، قالت ليل : لا أريد أن أصل بهذه السرعة وانتظر طويلا حتى يأتيني ليلا ، واستطردت : لا عليك !! حدثيني عما تفعلينه عندما تفرغين من الشغل ؟ قدرت الجارية هذه الإيماءة الرقيقة ، قالت خجلة أنها تقضى ذلك الوقت في مراقبة العصافير التى تبنى أعشاشها على الشجرة الوحيدة بالفناء ، شجرة زيتون عجوز يقال أن عمرها ثلاثمائة عام ، نافذتها تطل عليها ..ترقب صغار العصافير تجاهد للخروج من البيض رافعة مناقيرها طالبة الغذاء والحماية. اختل توازن ليل وتعسرت مشيتها ، فانحنت وخلعت المست واكتفت بالخف متعجبة : الثريات يلبسن حذاءين فوق بعضهما!! قالت الجارية : بل أربعة. لا تدرى ليل هل ستنجح مراوغتها ؟ حدثت نفسها : وقوع البلا ولا انتظاره ، تعجبت فى مشوارها الى عملها اليومي بين البيوت والأفران والحوانيت ، لم تتأمل هذه البيوتات الجميلة المفتوحة أبوابها على النيل مباشرة " بالطبع يمكننى معرفة من هم ساكنوها : كبير التجار ، القاضى ، المحتسب ، كبير الصاغة ، يهودى الجمرك ، أرمنى الصرافة ، تجار البندقية والشام ، قبودان ثغر دمياط".. بذلك تهرب ليل من إثمها المرتقب. عرجت المرأتان مخلفتين البيوتات الفخمة والنيل الى الشارع الأعظم حيث الجوامع الكبيرة والحى التجارى بقسيارياته ووكالاته ، تتذكر ليل وقت تشييد معظمها بالطوب الأسود من رشيد والأخرى من الحجارة ، سألتها الجارية : هل يعجبك الحجر ؟ خرجت من شرودها : الحجر وحتى الطوب الأسود أكثر حنية من البنى آدم. عبر أمام ناظرها قبل أن تكمل جملتها .. توقف محدقا فى عينيها بكحلها الأزرق الغميق ، ها هى ابتسامة عينيها .. فكت ضمة أصابعها للفتحة المقورة لصدرها ووضعتها فى زنارها الكشميرى المتدلى على بطنها وتشاغلت بتمشيط خصلات السوالف المنسدلة إلى جانبى وجهها .. كادت تمد يدها لضفيرتها المغتصبة . إنها تعرفه ، ولا يعرفها هو :انه المجبراتى زوج تلك السيدة المنعمة التى تذهب إليها فى المواسم لتصنع لها الكعك والفطائر، لم يرها المجبراتى إلا مرتين كان الطحين فيهما يغطى وجهها وجلبابها الأزرق. أمال المجبراتى عمامته ، ولاك بين شفتيه قلما من البوص ، حركه إلى أيسر شفتيه ودوره بينهما ، وغنى كأنما لنفسه: خصرك الناحل نحل عظمى ردفك البارز برانى ما برانى فردتين فى ( شنتيان) أطلس كم سبا عشاق قبل إن سباني
ضحكت كلتاهما بصوت حيي.
قالت الجارية : إننا نقترب من البيت - لا ، لا .. خلينا نمشى قرب خليج النوارى - ده مشوار طويل ومتعب - أنا متعودة على المشى ، دمياط مش كبيرة
تجولتا قرب الخليج الذى يخاصر دمياط ويصب قرب قرية شطا ، وتوسلت الجارية : لنعود - لا ، ألا تعرفين أين أوقاف السلطان قايتباى ؟ - لا أعرفه - هناك .. فوق جزيرة القصبى فى بحر النيل - أنعود الى هنالك ؟ سيضربنى سيدي - قدامنا وقت قليل حتى تغرب الشمس .. يالا نمشى - بتهربي ، لازم تستريحي في أوضتى حتى يأتى سيدي ، يمكنك التسلية برؤية الناس من شباك الجارية البيضا لأنه على الشارع.
الذى لم تعرفه ليل – كما قيل لها فيما بعد- أن الأجساد السماوية فى الميزان والقوس والدلو كانت تعمل حينذاك بأقصى ما يمكنها لتيسير الأمور عليها.
قابل شيخ الطائفة جاريته فى الممر المفضي إلى حجرة زوجته الثانية. همس لها : أين هى ؟ - فى أوضتى يا سيدى - مش موجودة على الإطلاق!! - غير ممكن سيدى ، انها جلست وخلعت البرقع والدوارة و..... -لا أحد فى الأوضة ، غير الملابس اللى أرسلتك بها لها.
(3)
تمشى ربان السفينة قلقا على سطح السفينة ، يعرف المجدفون سبب قلقه وقد فردوا قاماتهم وأصابعهم الحمراء بعد انتهاء نوبتهم ، ليأخذ آخرون دورهم فى التجديف ، قال أحدهم : - أشم رائحة عاصفة رد الآخر : إنها متوقعة كان وهج الزبد فى ضبابية النهار يتألق بينما تشقه السفينة ، يتراجع إلى الوراء طويلا مخلفا رغاويه التى تمتد خمسة أذرع بعد المؤخرة ، زبد ينتشى ويتشبث ، ينتشى ويتشبث طالما ظللته سماء الأبد. تنعقد خيوط عنكبوت فى السماء ثم لا تلبث أن تنحل لتتجدد شبكة أخرى تتطاير ، تفترسها غيوم أقرب الى السواد تتسارع وقد كنستها رياح قوية .. تضئ السماء بالبروق وتظلم صفحة البحر ، كان صوت الرعود الصاخبة ( أروع ما سمعه غياث ) فهى حبلى برعود أخرى تكونت مثل آلام الطلق الذى يسبق مخاضات زوجته ، يترقب مستثارا وخائفا المطر .. حتى ذلك الحين كان صوت مطر يهمى هو البهجة بعينها ، غير أنها ترتطم قوية بسطح السفينة وترتد رذاذات ذات شفرات حادة على الوجوه ، ويزيد من ألمها الصقيع والعاصفة.
خطوط المطر مستقيمة فى هطولها حينذاك ، انتفخت فتحتا أنف غياث عن آخرهما تجاوزاً لدرجة انحراف المطر الذى يوخز حواف الشفاه .. توارت ابتسامة الانتصار الخفيفة لاستثارته ، وتذكر متضايقا ما سمعه من الناس انه من الضرورى تجنب الأنواء والرياح الشديدة لأنها قد تسحب الهواء من الفم .. حين ناضل الرياح والمطر ليلوذ بقمرته ، إذ بالسفينة تميل بشدة إلى جانبها الأيسر ، انزلق إلى ذلك الجانب وامسك بإصبع أحد المجدفين ، غامت أعينهم لفترة ولما هدأت الريح ، رأوا ثلاثة توابيت تسبح إلى جانب السفينة والتاجر "حاييم سرياقوسى" يصرخ ويلطم ويتهم الخنان بالغفلة عن أداء واجبه ، فعل ذلك والكل ُمْقع على وركيه ، وأذرعهم تتشبث بالسقيفة فوق رؤوس المجدفين. انفتحت دوامة كادت تشفط السفينة الى قرارها ، لولا أنها رضيت بالتوابيت الثلاثة مؤقتا. موجة واحدة كالجبل داهمت سفن القافلة فردمتها ، بعثرتها ، أهاجتها ففقدت الاتجاه والتوازن ، انفتح كهف داخل الأمواج ، فظلت تدور حول بعضها ، حتى توقفت الرياح والأمطار واصطخاب الأمواج مخلفة البرد القارص ، أحدث ارتطام سفن القافلة بعضها بعضاً خسائر أفدح من أنواء الكرم نفسها ، تتطوح سفينة لتأخذ اتجاه العرض فتأتى أخرى مندفعة تضربها فى منتصفها لتتحطم وتغرق فى حين تتهشم مقدمة الثانية وتتسرب المياه إلى جوف السفينة. كانت سفينتنا الأحسن حظا ، إذ لفظت إلى البحر كل مؤونتها والبضائع فى الخن وبعض البحارة والتجار ثم استوت متوازنة ثم مالت يمينا فانزلقت اندفاعات الأمواج إلى البحر من جديد . لا يدرى غيث الصباغ فى أى بقعة بالسفينة هو ، يشعر أن يده تجمدت على شئ معدنى بارد وثقيل : لعله الهلب ، فى محاولة السفينة استعادة وضعها العادى ، وصل الماء إلى صدر غيث ، ثم رقبته ، ففمه ، ظن نفسه قد غرق.
دائما كان" ليث الدين" يسبقه ويحتكر حجر أخته الكبيرة ليل ، فتمد ذراعها تحوّط به الكتف النحيل لتوأمه غياث الدين ، أختها الصغرى سنا نية تقف أمامها ، تحبو ، تكبش فتات الخبز ، تضعه فى فمها ثم تبصقه. فى هدهدة تغنى ليل للأطفال ، لا يعجبهم ، ثمة بقية من طاقة للشقاوة ، تحكى :
( كان ياما كان فيه راجل وحرمته ، الراجل اسمه السيد بصل متجوز بنت عمه بدور بصل ، وبلدهم طرانيس البحر ، وجار الزمان على عيلة بصل اللى كانت عيلة مستورة كل أطيانها تزرعها بصل ،فى سنه من السنين مقدروش يدفعوا جباية الملتزم ، وسنه ورا سنه تراكمت عليهم الديون ، باعوا أرضهم لكن مش كفاية ، علقوهم زى راس البصل وهات يا ضرب بالكرباج ، أخدوهم فى العونة يشتغلوا بالسخرة ، لكن كل ده لم يسدد ديونهم لمال السلطان يعنى ضرائب الخراج .. قال الرجال والأعمام والشباب نهرب من الملتزم ، نمشى ناحية بساط أو دمياط ، لكن المماليك قبضوا عليهم وقالوا انهم فلاحين "متسحبين" ، السيد وبدور قدروا يفلتوا منهم ، كنت أنا الصغيرة وفى ديل أمى تلات عيال تانيين ، سأل المملوك أبويا : عندك كام عيل ، قامت أمي ردت وكنت ساعتها على صدرها : ما فيش غير المولودة دى. - يعنى كان لنا أخوة ، هم فين؟ - ماتوا - وليه كذبوا على المملوك - خايفين يدفعهم ضرايب عن كل عيل ، والأهم من كده كانوا خايفين من الحسد - لكن أهمه ماتوا - لأن الشوطة بتيجى كتير ، وما فيش غذا كفاية - زى ما حصل لأبونا ؟
بعد مولدكم بحجتين ، ودمياط بتجهز للحجاج والناس تخرج لرؤية جزء من المحمل اللى اتنسج واطرز هنا ، ظهرت كُبة شديدة فى شهر بؤونه والحر شوية شديد، كانت صحة أمنا ضعيفة ، ووالدنا كان زى الحصان و ما كانش عندنا بوظة العرق يحمينا من الكُبة ، ولا نقدر نشترى واشتغل السيد بصل عند صباغ حرير ، لابد ان الشوطة ضربته فى حانوت الصباغ ، لأنه بيمسك عبايات وقمصان وسراويل الناس ، ويكون المرض مستخبى فيها .. وكلها ساعتين وظهرت خراريج تحت ابطه وفى بطنه ، وأمي قعدت جنبه ترعاه ، لكن أمر ربنا سبق ، لم تحضر أمي دفن أبويا لأنها كانت عيانه بالكُبة .. وفضلت أصلى وأدعى لربنا ينجيها. -ازاى ؟ - قلت يا رب الجو يبقى سخن جدا - ودا بيعمل ايه ؟ - يموت المرض ويفضل البنى آدم صحيح - وفضلت أمنا .. الحمد لله.. لكن الكبة دى بتيجى منين ؟ - بيقولوا من ثغر دمياط - فيه ثغرين هنا .. مش كده ؟ - أقصد الثغر اللى على البحر المالح .. وعشان كده فى عيد الغطاس اللى فات فى 11 طوبة ، أنا غطستكم كلكم فى ميه باردة. - مش كده نبرد ونكُح ؟ - لا ، ده عشان تتمتعوا بالعافية طول العمر.. كنتم بتمرضوا كتير فى شهوركم الأولى.
تذكرت ليل أنها كانت يائسة من توعكهما الصحى الدائم ومن ضعف أمها ، خرجت إلى الحوش ورفعت رأسها رأت القمر حديث الولادة كأخويها ، دخلت البيت وعادت بغياث الدين الذى ولد أولا ، رفعته بيديها صوب القمر ، وابتهلت ، ثم عادت بليث الدين .. وتضرعت أن يمنحهما الله سبحانه وتعالى الحظ الطيب ويبارك فى نموهما وان يصبحا " فلقة قمر". كانت الشفقة على أمها ومواليدها الأموات قد شرختها ، سألت شيخة صوفية وعجائز الغجر العابرين ، وتاجر فى الطريقة الرفاعية كانت تخبز لامرأته ، ضحك قائلا :" لا اعرف غير الابتهال إلى الله عز وجل، ولكنى سمعت من تاجر يمنى أن حشو تمره بجزء من مشيمة الطفل يحفظه ، بل ويحدد مستقبله"
زعقت الأم بصوتها الضعيف : لا تدعوها تدخل على وأنا باولد ، عمرها 13 سنة وان كانت تظهر بسن بنت عندها عشر سنين. اكتفت ليل بإمداد القابلة بالماء الساخن ، وطلبت منها سرا أن تزودها بجزء من مشيمة المولود ، سألت ساخرة : ليه ؟ ردت : اعمل له حجاب يحميه بعد نصف ساعة طلبت القابلة المزيد من الماء الساخن - مش اتولد الطفل ؟ - نعم ، لكن فيه واحد تانى.. ها عطيك جزءين من المشيمتين.
عندما استسلمت أمها لنوم عميق ، تسللت ليل الى الخارج ، مشت حتى السوق والقيساريات ، رمت وهى مغمضة العينين تمرة غياث الى زنبيل قرض أحضره غجرى لتوه عسى أن يغدو عطارا ثريا ، ثم استأنفت سيرها الى بحر النيل ، وقذفت بتمرة ليث على امتداد ذراعها الى النهر عسى أن يصبح صيادا وصاحب مراكب. فى قرارة قلبها لم تكن تريد لأخويها الشقاء كما والداها وعائلة بصل التى كانت من المساتير ثم انحدرت إلى فقراء أجراء ثم إلى معوزين بلا حدود. انتهب القلق عقل ليل ، كيف يتأتى لأخويها أن ينالا حظا طيبا مع صخب ميلادهما ، فى نوة رأس السنة الميلادية ، والأقباط والمسيحيون الآخرون فى دمياط يحتفلون آملين ليس بعام طيب ، بل بقرن جديد طيب. لقد هرعت هى وأبوها فى عز المطر والبرد وحبات البّرد الكبيرة للبحث عن داية ، تقبل الخروج فى نوة تطير الأجسام وأغصان الأشجار فى الهواء .. كم من ساعات ذاقت فيها أم ليل الألم منذ العشاء حتى منتصف الليل ، حتى سمعت وأبوها صوت بكاء الوليد "غياث الدين".
ولد التوأمان فى الساعة الأولى من الأول من يناير (كانون الثانى) عام 1500.
سرى خدر فى ذراع غياث الدين ، فتململ ، أدهشه أن جسده كله يتجمد من البرد ، ما عدا ذراعه القابضة على شىء لا يدرى ما هو؟! خدر موجع ..تساءل : وهل يتألم الغريق؟
من السهل التمييز بين التوأم مع تطابق ملامحهما ، غياث أسود الشعر والعينين بلون قمحى فاتح ، أما ليث فأزرق العينين ، عسلى الشعر ، وبشرته أفتح قليلا من لون أخيه .. متلازمان دائما ، يتشاجران فى الغالب ، يعتمد أحدهما على الآخر كحق أصيل. فى البداية لم تشغلهما نظرات النساء لهما ، يمصمصن الشفاه وعيونهن تفيض رثاء ، يشوحن بأيديهن لإبعاد الشر أو اللعنة عنهن ، ما استغربا ذلك فهما سابحان فى عالميهما الغنى عن الخارج ، حتى سمعا عرضا، لكن بوضوح : دول ولاد المنتحرتين ، استغفر الله العظيم ، الشر بره وبعيد. تسأل أخرى : نعرف أن أمهما انتحرت ، من الأخرى ؟ - جدتهما - الجدة للأم أم الأب ؟ - المصيبة أنها الجدة للأب .. يعنى تحدى إرادة الله فى دمهم من الجهتين :الأم والأب - العرق دساس ، عيلة مجانين ، تنتحر فيها النساء دائما. - صحيح ، دى عيلة غريبة قوى. نظر التوأم إلى بعضهما ، ولن يعودا أبدا كما كانا ، ولكل طريقته الفريدة.
سألا ليل ، ردت مضطربة : لم يحدث ، دى تخاريف نسوان
- عشان ايه دايما تقسمى الرغيف خمسة أقسام ، وكأن أمنا معانا ، ده كان ايام فقرنا الشديد ، وحتى الآن مع إن شغلك خلانا والحمد لله مستورين بطلنا نستلف فلوس من الناس ، ليه بتخلى كل واحد منا يقسم رغيفه خمسة ، ويعطيك الجزء الأخير ؟ - رحمة ونور على المرحومة - مش باين إن دى الحقيقة ..قولى - أمنا كانت صحتها ضعيفة قوى بعد ولادة سنانية هز التوأم كتفيهما غير مقتنعين.
تململ غياث الدين فى رقدته على سطح السفينة وقد سكن شهر طوبة عظامه.
فى تلك الأثناء فى بر دمياط ، اقتلعت أنواء الكرم شجرة ليمون عتيقة ، جابت بها أرجاء المدينة وقراها فى دواماتها ، قاذفة من جسدها شظايا ابرية تخترق أجساد الناس ، والفقراء فى بيوتهم الطينية وعششهم من عيدان الغاب والجريد ، بملابسهم الرثة كأوراق الكرنب المخلل ، وجدرانهم وأسقفهم الواهية. ما إن استقرت بقايا جثة الشجرة مترهلة ، مشعثة ، حتى دبت آلام رهيبة احتلت الأجساد ونفختها كما قربة الماء ، مع حمى شديدة. ساد فزع واحساس فظيع بالذنب ، لا بد ان طلسم سحر وراء ذلك ، لم تصل أنواء الكرم لهذه الدرجة من الدمار والفوضى ، يصيبان هدفهما بدقة بالغة .. تعالت فى البيوت أصوات النساء والأطفال والرجال والشيوخ : استغفر الله ، استغفر الله ، اغفر لنا يا رحمن يا رحيم ، لم نكن نعرف انه كافر ، متهتك ، اغفر لنا يا رب ببركة الصلوات الصادقة ومجالس الضالعين فىالعلم والدين هنا تلك التى يقصدها المؤمنون من أقاصى مصر وبلاد المسلمين للسماع إليهم . اغفر لنا يا رب ، أنّى لنا أن نكشف سريرته وهو حى بيننا .. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .. وارحمنا. تساءلوا فيما بينهم : هل ندفع ثمن جهلنا واحتضاننا هذا الرجل الشيطان ومهرطقيه وزنادقته من أتباعه الأوربيين ؟ خرج أهل المصابين قاصدين دور العبادة وشيوخها والمبروكين بالمدينة ، يقف " الترجمان " كعادته محدقا فى الأشياء التى تصلح للكتابة عليها ، وعبه منفوخ ببقايا قراطيس وورق وجلود ، وكذلك سيالة جلبابه وتحت الطاقية .. غاضب لأن النوة كنست الشوارع من كل ما يصلح للكتابة عليه ، متأملا حوزته وهل ما بها يكفيه للكتابة ، تنبه إلي تجمع الناس حواليه بوجوه مستخذية مستجدية. مد أحدهم إليه قطعة صالحة للكتابة من جريد النخل. - ماذا ستكتب يا ترجمان ؟ - الفقراء هم القرابين الصامتة المذعنة - قرابين ؟! أ وضح آخر : أضحية يعنى - أو نذر - كيف يا ترجمان ؟ - هم ضحايا غضبة الطبيعة وغضبة البشر .. والغزوات عندما سمع الناس الكلمة الأخيرة شحبت وجوههم خوفا وانفضوا عنه ، فقد نطق الجملة بالعربية والتركية والفرنسية والقبطية واليونانية. استهان البعض الآخر به : دا لسه عايش فى أيام سيدنا نوح ، غزو إيه !! هو فاكر نفسه طومان باى ؟! رد الترجمان : أنا فاكر نفسى المغفل ده قنصوه الغورى اللى أقام ورمم وسلح القلاع والأسوار فى دمياط قبل الغزو بخمس سنين ، الترك كانوا أخبث وجاءوا مصر من البر. تجمهر الناس حول جثة الشجرة يخافون مسها ، حتى شقت الجموع ثلاث لحيات طوال لشيوخ الديانات الثلاث الواصلين فى العلم .. راحوا يفحصونها ، كل متسربل بأدعيته وتعازيمه الخاصة خشية وجود طلسم فيها يؤدى إلى المزيد من الأذى ، ومزيد من الضحايا ، غير أنهم لم يعرفوا هل هذا الحدث هو بداية البلاء أم نهايته .
أهذه أنت يا ليل ، جئت بهذه الأغطية لتدفئينى ؟ آه ،إننا الآن من الأموات ، أنا كنت ماضيا لاستعادة ولدك .. ثم ، ثم... أحكمت ليل الغطاء حول جسم أخيها .. غفا وتملكه دفء هو فى حاجة إليه ، فتح عينيه ممتنا وحامدا لأخته حنانها ، ابتسمت ثم تلاشت. لاحق بناظريه طيفها الآخذ فى الأفول : آسف يا أختى ما كنت متعمدا سماعكما.
فى الحديث ترد ليل على سؤال لم يسمعه غياث فى مروره بالبيت لغرض ما. - كان عندى يومها 35 سنة قمرية يا آمونيت - كيف أفلت منه فى المرة الأولى؟ - أتعرفين فى شهر كياك - طبعا ، كياك : صباحك مساك تقوم من نومك تحضر عشاك - كان يوما دافئا فوق العادة فى ذلك الشتاء ، لدرجة أن بعض الأشجار تفتحت براعم أزهارها قبل الآوان. - وما صلته ذلك بموضوعنا ؟ - لما دخلت بى الجارية إلى حوش المنزل لاحظت شجرة كبيرة جدا ، وعصافير كثيرة حولها مناقيرها مليئة بالقش ، سألتها عن القش فقالت إنها وضعت تحت قاعدة الشباك كومة كبيرة من القش على سقف خشبى لشباك فى الدور الأول ، لتهون على العصافير بناء أعشاشها. - ثم ؟ - ما إن تركتنى لأستريح حتى اقترضت ثوبا من خزانتها ، واختفيت داخل القش ، وكانت رحمة الله واسعة ، أمطرت ليلتها ولذلك لم يدر بذهن أحدهم أنى مختبئة داخل القش فى العراء تحت قرقعات سياط المطر. - ظللت هكذا حتى الصباح ؟ - لا ، تسلقت الشجرة واحتميت فى قلب أغصانها الداخلية وعندما طفئت أنوار البيت خرجت. جاءتنى الجارية صباحا وحكت كم استشاط شيخ الطائفة غضبا وضربها وسألتنى كيف خرجت ، تظاهرت بالدهشة ألم َيقل لك الخدم أنهم خلطوا بينى وبينك لأنى استعرت ثوبك وخرجت ، لكنى وضعت على وجهى برقعك ذلك الذى كان مهملا فى صندوق ملابسك . وأضافت أنها توسلت إلى الشيخ أن يمنحها ويمنحنى فرصة أخرى . - ما هى ؟ - أن أذهب بنفسى إلى مكتبه فى مضرب الأرز الذى يمتلك نصفه - وذهبت ؟ - نعم - وأفلت أيضا ؟ - بعون الله أفلت - كيف ؟ - ألا تتذكرين يا آمونيت ماذا أفعل حينما يدور المنادى معلنا منع خروج النساء من بيوتهن ؟ - طبعا .. أيام خاير بك - تقصدين خاين بك ، وغيره ، وغيره .. أحيانا يكون المنع خاصاً بدمياط وحدها - حقا ، ولكن لمَ ؟ - إنها حكاية أخرى يا أختى - أتذكر انك كنت تلبسين لباس الغلمان ، يساعدك فى ذلك جسدك النحيل - وأحيانا ، ألبس جلبابا رجاليا مع عمامة وغرقت ليل فى الضحك - بالله عليك ، أضحكينى معك - تعرضت لمغازلات من مصريين وشوام وعسكر عثمانلية وأنا بلباس الغلام ، فاقت المغازلات لى كامرأة ، بل تفوق حتى المغازلات لرجل فى جلباب - ماذا كانوا يقولون؟ - يشيدون بالسيقان المنتوفة المعتنى بها ، والتدويرة اللطيفة لمؤخرتى وبطنى ، ويشهقون إعجابا عندما يرون رموشى الطويلة الكحيلة .. وهناك من يجوف يده أمامى مليئة بالنُقل والعملات الذهبية. - ماذا تفعلين ، ألم تخافى ؟ - إن خفت فلن تنفع لى أية حيلة - أيتها الداهية الشقية !! - هززت كتفى بالإجابة : لا ، ونظرات عينى ساهية - يا لجرأتك !! - ما كان بإمكانهم التحرش بى علنا ، إذ أمشى فى الطرقات المزدحمة - هيه .. لبست كالغلمان ، وذهبت لمضرب الأرز .. - نعم ، بل وأشهدت العمال أن يبلغوا شيخ الكحكيين أن اسمى ليل وأننى قد وصلت - بم أبلغوه ؟ - تخابثوا عليه كما سمعتهم ، غامزين فى ندائهم إلى الشيخ بأن الغلام ليل قد وصل. دخل وأغلق الباب بالقفل الخشبى من الداخل .. كنت قد التحفت بزنبيل للأرز الميرى المخصص تصديره إلى المطبخ السلطانى فى اسلامبول ، وسط ثلاثة صفوف من عبوات الأرز المختلفة من مطبوقات وغزاويات وزنابيل ، بالطبع لم يجدنى ، تحسس بنفسه عبوات الأرز الدمياطى ، لكنى كنت فى الصف الثانى لصق الجدار ، تحتى أربعة عبوات وفوقى عبوتان أخرتان. لما لم يجدنى فتح الباب ، وصاح على العمال : أين الغلام ؟ - سمعت من النمائم ، لا اقصد ذلك ، أنك السبب فى أن قاضى دمياط ، أمر بإزالة جميع الترابيس الخشبية من داخل الدواوين أو هؤلاء المتعاملين معها مثل شيوخ الطوائف. - كان ذلك صحيحا ، وقد دفعت الثمن ، وأشارت إلى ساقها المتدلية على حشيتها ، والفضل لله ولك فى شفاء ساقى. - الفضل للرب وحده ، أنا مجرد وسيلة - لولا أن وهبك الله اللمسة الشافية والحكمة ، لظللت أجرها ورائى - حقيقة .. انت شجاعة يا ليل ، امرأة أخرى ما جرؤت أن تنام فى ظل الهرم ، وأن تتسلل إلى سراديبه الخفية لتبيت فيها .. وتحلم .. ألن تقولى لى ماذا قيل لك ؟ - آمونيت ، ليس مسموحا لى ، فقط عرفت كما قلت قبلا أننا منذ تلك اللحظة لن نفترق أبدا. - وها نحن صديقتان حميمتان منذ بضع سنوات.
عندئذ يا ليل تنحنحت ، فانتبهتما لى ، قالت آمونيت مبتسمة : ما أتيت إلا لأعرف شكواك. خجلت فقلت : كأنكما أختان. ردت آمونيت : نحن بالفعل كذلك ، صف لى اتجاه الصداع الذى تشكو منه. وعلمتنى بعض طرق التدليك بأطراف أصابعي على جبهتى وصفحتى وجهى. - الآن اجلس معنا ، سوف يذهب صداعك حالا ، عليك أن تعرف هذه الطريقة - ما هى ؟ - سأصنع لك قهوة - معذرة فقد حرمها الشيوخ - لا أعرف لمَ حرموها ولكنى سأريك أنها نوع من الدواء وضعت آمونيت بكرج القهوة على منقد الفحم حتى قاربت مياهها الفوران ، فرفعتها ، وأخذت جمرة صغيرة وأسقطتها فى البكرج وغطته لدقائق ، ثم شربت منه فذهب الصداع فى الحال بحمد الله. وصرت يا ليل تشتكينى لآمونيت لآن زوجتى وبناتى أخذونى منك ولا أطل عليك إلا قليلا.. اعرف يا ليل ما فعله زواجى بحالك ، والسوداوية التى ضربتك ، أنت التى عزفت عن الزواج لأجل تربيتنا.. وأيضا رفضك بيع أحدنا عبدا وكان فى هذا تخفيف حملك ومسئوليتك. لا يزال وجهك معاتبا؟ حدث غياث نفسه : إن لم أكن قد مت ، فلسوف أجد نور الدين فى رعاية آمونيت ، ربما داخل المدينة العتيقة أو خارجها. شعر انه تلقى صفعة ، صرخ فى وجه المهاجم ، لكن صوتا لم يصدر منه ، نظر حواليه فأحاطته عيون والديه حانية عطوفة ، وعرف بالحدس جدته التى يقال أنها انتحرت ، وملائكة صغاراَ هم اخوته الذين توفوا فى شهورهم أو سنينهم الأولى. أخبرهم كأنه يطمئن نفسه : أعرف أن أمى لم تنتحر.
أكد أئمة الجوامع فى صلاة الجمعة انه بالرغم من شح القمح الآن ، فالحال أهون كثيرا من المجاعات المماليكية ، فالفرمانات السلطانية تحظر تصدير القمح والشعير وتراقب الأفران وتثبت أسعار الخبز. سمعت ليل خطبة الجمعة من زاوية بالقرب من المنزل ، تهكمت متوجهة بالحديث إلى أمها : إذاً ما الذى يفعله " دايان السرياقوسى " صاحب إدارة جمرك دمياط والمطراوى كبير تجارها غير تصدير القمح ، مما اضطر الناس لنهب مخزن الدشيشة ، نعم البارات معانا ، لكن لا يوجد عيش كاف بالأفران ، حتى الشعير الرشيدى الذى كنا لا نحبه فى خبيزنا ، لم يعد موجودا أيضا. بعد أيام نفذت البارات واختفى الخبز ، خرجت ليل بنت الستة عشر عاما للتسول من البيوتات الغنية على النيل ، كانوا يردونها ، ومرة أدخلها الغفير إلى المطبخ حيث تقوم الجارية بلت العجين. رمقتها : ماذا تريدين ؟ - رغيف واحد - هلمى ، ساعدينى فى العجين مقابل الرغيف. كان الرغيف يوزَّع فى المساء على خمسة أفراد ، إلى جانب نبات الرجلة الذى ينتزعونه من أرض زراعية مجاورة ، منافسين العصافير فى طعامها الذى تعتمد عليه. همست بدور بنت موافى بصل : لازم الرغيف يتوزع على أربعة بس. ردت ليل مستنكرة : بتقولى إيه يا اما؟! محرجة قالت : و لا حاجة ..كله بسبب رأس عشم الخير* - يا أما قلت لى إن رأس عشم الخير اللى خسرت الناس الجلد والسقط ، كان قبل ما تتجوز جدتنا. - آه .. صحيح استمرت الأم أسبوعا تكرر الكلام نفسه. فى اليوم الثامن وجدوا جلبابا أزرق يطفو فى منطقة جرداء من شط النيل.
يقف الترجمان غريب الأطوار ، بأسماله البالية ولسانه السليط ، وقد فرد ورقة مكرمشة ، يسأل الناس فى المقاهى والخارجين من صلاة الجمعة : اقرأ .. اقرأ - لا نعرف القراءة - وأنت ؟ - ما هذا إنه عقد إيجار قديم - لا ، اقرأ ما كتبته - لا شيء بخطك - هذا القلم البوص وهذه الدواة فى خدمتى ، اقرأ ، اقرأ - محبرة فارغة ، وقلم لم يتبقع بالحبر .. قل لى أنت ماذا كتبت ؟ - الغاياتى - من هو الغاياتى ؟ - بل قل من هم الغاياتى ؟ .. إنه القاضى الذى يتحدث عن العدالة والغايات النبيلة ، وجاويشية الثغر وبحر النيل : النزهاء الذين يسرقون موارد الثغور من أجل غايات الإخلاص للسلطنة الزاهرة التى غايتها أن تكون صوت الله على الأرض. تكفهر وجوه البعض ويضحك البعض الآخر ، والغالبية تضرب كفا بكف وتمضى. - هل تعرف غاياتى رابع ؟ يعدد الشبان بغير حصافة أو حرص : أتعرف السرياقوسى ؟ متخابثا سأل الترجمان : بيشتغل إيه ؟ - هو كمان غاياتى!! لم يطق المحتسب صبرا على هيبة الحكام ومساتير الناس وكبارهم التى تضعضعت بسبب مساخر الترجمان ، فأمر بالقبض عليه ، وألقى به فى سجن " العرقاناه" الذى يسمونه سجن الشرع الشريف.
ما صدق الناس الشائعات فهو بالنسبة لهم " مجذوب حقيقى " يحدق فى عيون الشخص ولا يراه ، تصيبه دوامات من الوجد فلا يردد سوى : الله ، الله ، بعدها يقع صريعا وبدنه ينتفض ، وعلامات رضا الله عن تقواه كثيرة فجيوبه دائما عامرة بالمال يوزعه على المساكين والمتعطلين ، ولا يقبل إحسانا أو طعاما ، بل يشترى طعامه ، ويوم حاول صبى غرير من الزعار أن يقطع جيب جلبابه بخنجره ، تساقطت البارات والنصف فضة ، جمعها الصبى متلهفا والترجمان ينظر إليه مبتسما .. لم يمض سوى سحابة نهار حتى وجدوا الصبى معلقا من قدميه فى سوق الحسبة ، مع أن الترجمان لم يتظلم أو يشكه إلى أحد. دارت فى البلد شائعات تقول أن الترجمان ذمي هالك ، فلا يعرف له دين ، ولا أهل أو ولد .. فضلا عن أنه لم يطع يوما أولى الأمر ، وانه يتلاعب بمشاعر الناس حتى يعتبروه وليا وفقيرا من فقراء الله المكشوف عنهم الحجاب. احتار الناس بالفعل ، فما كانوا على استعداد للتخلى عنه ، فلقد تنبأ بنبوءات حدثت ، فى الوقت الذى يقرع فيه الناس على غفلتهم .. لو تخلوا عنه فكأنهم ينبذون لسانه الذى ينطق بدلا منهم ، ويهدئ البراكين التى تفور فى صدورهم وعقولهم .. فهو بنظرهم مثل شيوخ الصوفية الذين يعينونهم على التحمل ، ولكنه خلافا للصوفية لا يدفعهم دفعا إلى أن يتحملوا صاغرين ، بل يحضهم على الانفجار. استدارت فى أفق دمياط تكشيره كبيرة ، فكوك تصطك وأسنان يُجز عليها ، تتسع خطوات الناس يسابقون حنقهم كى لا يتآكلهم من الداخل ، يكورون قبضة اليمنى تضرب الكف الأيسر ، ترتع الآن تغضينة الغضب على الجباه وتختفى تجاعيد الانكسار تحت الجفون. لم تنم دمياط ثلاث ليال .. حول الأدباتية كلام الترجمان الى أغان ذكروا فيها اسمه سليمان ولد يؤانس العطار تارة وسليمان بن يونس مرة أخرى ، انتشرت النكات حول سُجانه ، وحورت تعليقات الترجمان الساخرة. تحرش الزعار بعسكر الجاويشية والإنكشارية والسباهية ، احتل المنفيون من الأمراء وعلماء الدين المنابر وحكوا قصة الترجمان وسبب جنونه وهددوا بإذاعة أسماء أطلق عليهم " المفسدون فى الأرض " ، بات الشباب تلك الليالى حول السجن ، وعندما شرع العسكر فى رفع السياط ، كان الزعار أسرع فى رشقهم بالحصى المدببة. تكاتف شيوخ فقراء الصوفية بفرقها المتعددة : القادرية والرفاعية والأحمدية وغيرها على عبارة واحدة انطلقت من داخل تكاياهم والزوايا ، يهللون فى الشوارع والأسواق وأمارات الانجذاب والبركة تكلل محياهم : " سلطان غشوم ولا فتنة تدوم ".
تلقى غياث صفعة أخرى ، فز جسده ،فتح عينيه غاضبا : ألم أقل لك ....؟ كان الخنان أمامه ، وقد جره " حاييم السرياقوسى" إلى الخن الذى امتلأت أرضيته بماء البحر ، أشعلا نارا للتدفئة ، ثم واصل السرياقوسى ما بدا لغياث انه رآه من قبل – كان يلطم بالفعل- سأل غياث: أين نحن الآن؟ رد الخنان : لا ندرى ، السفينة وحدها فى عرض البحر ، والقافلة تشتتت وربما غرقت سفن. نظر غياث للسرياقوسى : ربنا يعوضك أسرع الخنان : يعوضه إزاى وهو يبيع جثث للفرنساوية. - يا جماعة ، انتو مش فاهمين حاجة ، جثث الفراعين دى ، بيدرسوا بيها الطب ، ولازمه لكل حكيم هناك. فند غياث حجة السرياقوسى : ربنا كرم جسم الإنسان فى حياته وبعد موته. السرياقوسى : تفتكر إزاى عالجوا الأمراض ؟ غياث: باللبخة والحجامة والكى والأعشاب. السرياقوسى : وتفتكر العطار والحكيم قادرين على علاج أمراضنا كلها. الخنان : لا يبقى سوى الدعاء بعد الأخذ بالأسباب. غياث : والفرنساوية دول كفار . السرياقوسى : الكنيسة عندهم حرمت تشريح جسم البنى آدم المتوفى حديثا ، وكان المخرج هو التشريح فى جثث الفراعين. زم غياث شفتيه وأشاح الخنان بوجهه. سأل غياث : والغشية اللى كنت فيها استمرت كتير ؟ الخنان : كان شكلك زى الميت ، عرفنا انه مغشى عليك ، ضربنا على خدك ولم تفق ، وبعدين جذبناك من السطح إلى هنا. - يعنى وقت قد إيه ؟ - مفيش دقايق. - ياه.. دا أنا حسبته دهر ، وافتكرت إنى مت وقابلت أهلى فى الآخرة. تمتم لنفسه : الآخرة!! وتذكر ما خبأه فى مكان سرى فى بيته من أجل حياة اليقين والتقوى ، ولام نفسه أشد اللوم أنه نسى فى غمرة هروبه أن يخبر أحد الرفاق عن : النفط ، الحبال ، زنبيل من جذور" الفوة عود " لتخدير الأعداء ، وبعدها يسهل الانقضاض عليهم ، عدد من دوبارات خيوط الصوف البنية التى تلف حول المعصم الأيسر ، أدوات للوشم سمكة بلطى طولها بوصتين ( كعلامة للتعارف بينهم ) ، وحفر بارز على الخشب للكعبة الشريفة لطبعه على الحيطان. طأطأ رأسه ، واستل من ح