بثينة الناصري
وأنا اقلب كتاب نعمات البحيري الجديد "يوميات امرأة مشعة" الصادر عن مكتبة الاسرة ، وقبل ان اخطو خطواتي الاولى في مدارجه ، أجدني محاصرة بجدران عديدة :
على الغلاف وصف العمل بأنه "رواية " في حين انه كما هو عنوانه "يوميات" واليوميات هو شكل من اشكال الابداع الادبي المتعارف عليها ولاينقص من قيمة العمل ان نقول انه ليس في خانة الرواية .
الجدار الثاني والثالث والرابع : توطئة – تقديم – مفتتح . علينا ان نزيح او نتفادى كل هذه العقبات قبل ان ندخل مباشرة الى رأس نعمات لنقرأه .
كما يتصدر الكتاب اهداء خاطيء وجهته نعمات "الى كل الذين امتدت اياديهم البيضاء لنجدتي من بين مخالب الوحش" وكان يجب ان يهدى الكتاب الى نعمات ذاتها لأنها هي التي قامت بعملية انقاذنا من اوهامنا ومخاوفنا وضعفنا . فكما ترنح بطل كافكا على خشبة المسرح بعد ان اصيب بجرح قاتل ، كما تقتبس نعمات من كافكا ، تترنح بطلتنا في فصول يومياتها بين التموجات البنفسجية والطابق الخامس وحالات الاستعداد القصوى ومراثي صدرها والايام المغايرة والاحلام واللغات المستحيلة والوجوه الغائمة وامها ورجل الامن ويوسف والولد بعربة وحمارين والالم مرة اخرى والتحاليل والحنان الرسمي وبيانها الاخير ضد الموت .
ونحن نتابع بلهفة وقلق وخوف وارتياح احيانا ، نجد المفارقة في ان ترنح نعمات بين الرجاء واليأس والمقاومة والاحباط ، يصلب عودنا ويجعلنا – ربما لأول مرة – ننظر في عيني الوحش ونسميه باسمه دون ان نشيح بوجوهنا فزعا .
يوميات نعمات البحيري.. المرأة المشعة التي واجهت الوحش وقطعت اشلاءه في فصول كتابها .. اول نص عربي درامي اقرأه لقتل الوحش الاسطوري وهو ينمو في داخلنا وليس قادما من خلف ضباب رمادي او منبثقا من بحيرة غامضة او من تحت الصخور او هابطا من كوكب مجهول .
تعرفون ان اهم مايثير غضبنا – نحن النساء الكاتبات – ان ينظر القراء الرجال (واحيانا النساء ايضا ) الى قصصنا ورواياتنا باعتبارها يومياتنا الحقيقية ، وهم يتتبعون سطورنا بعين المخبر ، ويمتعض ازواجنا او اولادنا او آباؤنا وحتى امهاتنا ويشعرون بالخزي اذا تطرقت الكاتبة للمحظورات الاجتماعية ، ولهذا فالكاتبة – في جيلي على الأقل – كانت في حالة دفاع عما تكتبه مذكرة القراء دائما ان هذه الرواية او هذه القصة هي محض خيال .
وهكذا كانت "يوميات" نعمات فتحا شجاعا ، حيث لم تكتف الكاتبة بسرد أدق ما جرى لها وانما استخدمت نفس الاسماء الحقيقية لأبطالها الواقعيين ، وهكذا نجد بين طيات الكتاب صديقاتنا المشتركات الرائعات : وفاء حلمي وهالة البدري وسهام بيومي وشوقية الكردي وأخريات وآخرون: اشقاؤها و جيرانها واصحابها . وهي في اطلاعنا على عوالمها القديمة والجديدة من ذكريات طفولتها الى حاضرها .. وقفت أمامنا – اذا جاز القول – عارية من كل الاقنعة . ولهذا لايحتاج القاريء الفضولي ان يتشكك في ان الكاتبة هي بطلة اليوميات فهي تقف امامه لتقول بتحد : لاتتعب نفسك .. أنا هي !
لم تكن هذه الشجاعة هي الفتح الوحيد للكاتبة . فمن يتصفح اليوميات يجد شيئا عجيبا ورائعا يحدث له ، فكأن نعمات هي الطبيب المعالج ونحن المرضى وحين تغلق الكتاب على آخر كلماتها ، تجد نفسك تتساءل :" الله .. هل مقارعة السرطان بهذه السهولة اذن ؟ علام كان خوفنا الدائم منه ؟"
ولكن الامر لم يكن بهذه السهولة بالتأكيد ، فقد كانت تجربة الكاتبة التي نقلتها الينا بكل تفاصيلها المريرة ، مصهورة بالنار ومغموسة بالألم . ومع ذلك فهي تأخذ بيدنا الان كما تأخذ ألام بيد طفلها المرتعش لتجول به داخل ارجاء غرفة مظلمة لتريه ان لاشيء يستدعي الخوف .. لاوجود للوحش في الغرفة ، فقد قتلته ، ولا تترك طفلها الا بعد ان يألف المكان .
هكذا تدخل بنا خطوة خطوة في تلافيف روحها ونبض ألمها ومسرى شرايينها وتأرجحها بين اليقين والشك حتى نجد انفسنا اخيرا جزءا لا يتجزأ من انتصارها الاخير .. الانتصار على النفس ، الانتصار على الخوف .. الانتصار على الضعف .. والانتصار على قناعات كثيرة كنا نعيش في وهمها، وكأن بيانها الاخير ضد الموت كان صرخة انتصار بإسمنا .
هل قصدت نعمات البحيري ان تفعل هذا بنا ؟ لا استطيع ان اتكهن بالجواب ولكن الاكيد انها كتبت يومياتها بصدق ، والصدق هو كلمة السر للنفاذ الى وجدان المتلقي .
* صورة نعمات في الفيوم بكاميرا بثينة الناصري