على الساعة الرابعة فجرا فتح وحيد باب الجناح الذي تقيم فيه سلسبيل فتصل إلى مسامعها حشرجة مفاتيحه وضربات مداسه المتناغمة، وفجأة توقفت الأصوات فعلمت أنه يجلس بالصالون ينتظرها.وصلتها رسالة منه على الهاتف:
· هل أنت جاهزة؟
انتفضت روحها من مكانها كما الزمن الأول بشوارع القصبة أين تم البوح بالحب. لم تتوانى في الرد برسالة على هاتفه:
· هل تعطيني بعض من الوقت لأسرح شعري.
رد برسالة أخرى:
· لك كل الوقت
مرت ساعة لتطل عليه بقميص وسروال جينز رافعة شعرها الكثيف إلى الأعلى، نظر إليها وكأنها المرة الأولى التي يراها فيها، تأمل عيناها اللتان تفيضان عسلا وابتهجت روحه بتلك الغمازة بالخد الأيمن التي ازدادت عمقا حين ابتسمت.
بدأت الحديث معه:
· صباح الخير
· صباح النور
· هل تأخرت؟
· ليس كثيرا، علينا الانطلاق لأنه يجب أن أعود إلى العاصمة قبل الثالثة ظهرا.
· حسنا
نهض وحيد بقامة معتدلة واقترب منها حتى كاد يلتصق بها وخلع معطفه ووضعه على كتفها ولفه على عنقها بكثير من الحميمة قائلا مبتسما:
· السميقري برا( البرد قارص خارجا)
· لكن سنركب السيارة.
· أجل، لكن من هنا إلى السيارة مسافة صقيع وأنت من المقربات لأمي نورة وإهمالك خطيئة بشرائعها.
ابتسمت وقالت بسريرتها‘‘ كم تغيرت يا وحيد‘‘
· وماذا عن شرائعك أنت ؟
بوجه منشرح لا يشبه وجه أول البارحة:
· لا شرائع عندي، لكن يهمني أمرك وجدا.
قال هذا واكتفى ثم سارا معا متوجهين إلى أحدث سيارة ايطالية اقتناها من أيام لامبورجيني فينو رودستر ذات المقعدين. ابتسمت وسألته:
· كيف أجلس أنا؟؟
· لم أفهم؟
· لا يوجد مقعد خلفي فأين مكاني؟
· بالمقعد الأمامي.
ابتسمت وقالت ببساطة:
· لتكن مشيئة السيارة إذا.
· بل مشيئتي أنا.
· من أين لك كل هذا الغرور؟
أجابها وهو يحدق بوجهها الذي مال للاصفرار
· انسي أوجاع يوم وصولك الشرس وافتحي ذراعيك ليوم جديد.
· لا عليك فأيامي كلها شرسة وأنا ألفت شراستها منذ زمن.
توقفت ثرثرتهما اللطيفة حين ركبا السيارة، لفت حولها معطفه المبلل بالعطر وأغمضت عينيها في غفوة طويلة أما هو فانطلق بسيارته السريعة الصامتة قاصدا عنابة.
بعد ثلاث ساعات وصلا الى مدينة الجسور المعلقة قسنطينة وارتئ أن تفتح خيبته عينيها أمام الجسر التوأم لجسر أدولف بلوكسميورغ جسر سيدي راشد أين اخترقت قلبه ذات يوم كما اخترق هذا الجسر الحجري قلب واد الرمال فجمع شتات المدينة، أين عانق الأفق وطوق المدينة وأقواسها السبعة والعشرين حين سرق قبلة من ثغرها الحلو متحديا عقم قوانين الشارع القسنطيني.
التفت إلى وجهها وغرق في لجة ثناياه المعتقة بالحزن والفرح وخطوط أخرى لا يفهمها، غير أنه فهم أن قدرتها على الاتصال والانسلاخ عن الأشياء والأحداث باحترافية جعلتها تسقط التزامها بأي شيء غير الطموح الذي يمكن أن يحملها كريشة فكت ارتباطها بأي جناح وقررت التحليق بالأفق، فوق أي جبل وأن تحط على أي موجة أو فوهة بركان.
أمعن جيدا في تلك الغمازة وتسلل الحب إليه ورحل به إلى وعد قسنطينة فوق جسر الشيطان على أصوات مياه ماردين واد الرمال وواد بومرزوق المجتمعة عند أسفله الهادرة المخترقة للكهوف المصتدم صداها بجدران المغارات وسط المدينة. كان الحب في أوجه متحديين جسر الشيطان الفاغر فاه لابتلاع أي شئ حين همس بأذنها أن تقبل التصاقه بها كطفل متعب فشعت فرحا وأهدته قبلة طويل طول جسر سيدي راشد العتيق.
كانت كقطة تطمر نفسها بمعطفه المخملي المشع دفئا عذبا قابعة بجانبه، تذكر كيف طمرت نفسها بين أحضانه على سريره بعد أول التصاق بينهما بمنزله الفخم حين انزلقت مدينة الصخر العتيق في أحضان الظلمة والصمت. مد يده إلى المذياع يفتحه وإذا بإذاعة قسنطينة تبدأ يومها بأغنية ‘‘ باسم الله بندأ كلامي.... قسنطيمة هي غرامي..‘‘ لتستفيق سلسبيل على أجمل الأغاني التي تحبها وترددها بكل حفلة تقيمها.
· شو وصلنا لقسنطينة؟
· نعم
· توحشتها بزاف.
· هل ترغبي في جولة بجسورها؟
· لا أريد أن أتأخر لابد أن أصل إلى عنابة بأقرب وقت لدي الكثير لأعمله.
· إذا دعينا نستريح بمقهى لبعض من الوقت.
· جيد
استقبلتهما قسنطينة كاهنة الشرق الجزائري أين الصقيع رحيم، والنهار جميل بأشعة الشمس الذهبية والليل أليف بعيون بأهداب ودموع رغم الجو المشحون بنبض الترقب حين تحب. لم يقاوم وحيد سحر سيرتا عش النسر وانطلقت سيارته تجوب أزقتها الواحدة تلو الأخرى وتعبر جسورها الثمانية على انغام ‘‘قسنطينة هي غرامي‘‘ التي اختصرت جغرافيا المدينة لحد بعيد.
- بسم الله نبدا كلامي قسنطينة هي غرامي
قسنطينة مدينة الهوا و بلاد الريَّاس
قسنطينة بلاد الدين و العلماء....