كنت أظن أنني أسير وحدي ،بعيدا عنه ،لذلك استخفى الطرب وأخذت أردد في صوت أكاد أسمعه وحدي :
يا زمان الوصل بالأندلس
ولم أكن أتوقع أبدا أنه يمكن أن يلحق بي ،ويسير خلفي هنا ،في زحام القاهرة الكبرى ،مدينة الألف مئذنة وأم الدنيا ،وكيف له أن يجدني وسط خمسة عشر مليونا من البشر ؟ لكن خاب ظني ،وانعكس توقعي ،لقد كان وهما مثل وهم المساطيل في حكايات ألف ليلة وليلة.
عندما اكتشفت أنه يتبعني مثل ظلي ،لم يسقط قلبي في ركبي كما تقول العامة ،وإنما الذي سقط هو ساعة يدي القديمة الخربة التى أخجل عندما يسألني أحد عن الوقت ،فأقول له ساعتي واقفة ،كنت أشعر وأنا أقول ساعتي خربة بأنني أكذب ،على الرغم من أن الحقيقة تقول أن ساعتي واقفة بالفعل.قلت لم يسقط قلبي في ركبي ،وبتعبير آخر لم أخف ،لقد اعتدت على مطاردته لي في الغيطان والحواري والمقاهي وها هو الآن يتبعني إلى القاهرة أم الدنيا ،ومنتجع السياح العرب ،والمكان المفضل للسفير الإسرائيلي .كان لابدان أتوقف عن الغناء ،وتوقفت بالفعل وأخذت أفكر وأنا أسرع الخطى وسط الزحام بينما خطاه الثابتة كظلي تتبعني .
ماذا أفعل دبرنى يا وزيري ..قلت ذلك لنفسي ،وأنا أعنى شيطاني ،الذي أسرع بالحضور بمجرد سماع هذه الجملة .قال في خبث ،أعنىشيطانى :
-استلق على الأرض مدعيا الموت .
ولأنى لا أثق فيه ،فكرت وقلت لنفسي :خبثاء هم الشياطين .ستدوسك الأقدام يا ابن عبد الحليم ،وتصبح تحت أقدامهم كالفطيرة فيحملون لحمك وعظامك ،ويضعونها بجوار الرصيف ،ولن تجد من ب\يجمعها ويضعها في كفن ،ويدفنها ولو في مقابر الصدقة .وهكذا ناقشت الأمر مع نفسي ورفضت اقتراح الخبيث..ولكنه عاد يلح محاولا إقناعي.فقال:
يكفيك أنك لو مت أي ميتة ستحرمه من المكافأة
وراقني اقتراحه هذه المرة ،وكدت أفعل ،فالمطلوب أن يسلمني حيا ،وليس جثة ،غير أنني في تلك اللحظة التى كدت أرتمي فيها على الأرض وأنا أخرج لساني ل،ظهر فجأة أمامي رجل في ملابس حريرية بيضاء ،ولحية بيضاء أيضا،لم أشك لحظة أنه ملاك ،نزل من السماء كي ينقذني ،وسمعته يقول في صوت غريب ،وهو يمرق من جواري :
يا متعوس هو لم يستطع
فقلت على الفور :
_ إذن لماذا لم يقبض على ؟
وأخذت أنتظر الإجابة ولكن دون جدوى ،ولما لم أسمع ردا ولم أجد أحدا ،التفت إلى الوراء ،فوجدت الرقيب خلفي مباشرة بيني وبينه مقدار خطوتين لا أكثر ،فشككت في الأمر ، هل هو الذي كان يتحدث إلى منذ قليل ؟غير أن العجيب في الأمر أنه لم يعطن أي اهتمام ؟هكذا قررت ،وهكذا تأكدت أيضا عندما وجدته يحدق بعينه الوحيدة – نسيت أن أقول أنه اعور- في باطن ساق إحدى الفتيات ،التى تكشف أيضا عن جزء من فخذيها ،وكان الجو شديد الحرارة ،ووجدتني أنا الآخر أحدق مثله في هذا اللحم ،أكاد التهمه،وقد ذكرني بالجوع ،حتى كدت أنسى غريمي ،الذي كان قد نسيني هو الآخر،ولكن هل هذا معقول ؟لماذا لاتكون هذه الفتاة جزءا من اللعبة ؟ وأنها مجرد طعم لاصطيادي .
ابتعدت عنه ،هكذا ظننت ،ودخلت في الزحام ،وأنا أشعر ببعض الأمان،حتى كدت أغنى من جديد،ولكن وا أسفاه !عندما ألتفت خلفي ،وجدته خلفي يكاد يصطدم بي ،والفتاة متعلقة في ذراعه،ويالها من فتاة كانت ذات وجه قبيح مثله !بل هي صورة منه ،أسرعت الخطى مبتعدا وأنا أصرخ هذه المرة ،عند ذلك مرقت سيارة نقل عام تشق الزحام ،تكأكأ عليها الجمع وأنا معهم ،ووفقني الله وركبت ،لا أعرف إلى أين تسير السيارة ؟ لا يهم ،المهم أنني تخلصت منه ،وأصبحت الآن داخل السيارة ،حمدت الله وشكرته .وفى السيارة صدع رأسي المحصل ،قائلا في سماحة :
الأجرة يا أفندى
فقلت :
حاضر
وقال جارى في صوت رقيق :
من فضلك ..لو سمحت
فقلت أيضا :
حاضر
وعاد المحصل ولكن بصوت غليظ هذه المرة :
-ياأفندى
فقلت مرة ثالثة وأنا أضع يدى في جيب سروالي الداخلي الذي أحتفظ فيه بالبطاقة الشخصية وبعض الجنيهات القليلة
حا…
ولم أكمل الكلمة حتى اكتشفت أنني نشلت .لم أفكر وقتها في المحصل الذي كان يبتسم ،ولم أفكر حتى في الرقيب ،لقد صرت في موقف لا أحسد عليه ، قلت بصوت يسمعه كل من في العربة :
-سرقني ابن اللئيمة .
وهنا ضجت الأصوات في العربة بين مبسمل ومحوقل وهازئ ومتشف ،ووسط كل هذه الضجة احترق أذني صوت يقول :
-يا زمان الوصل بالأندلس
فكدت أجن
أخذت التفت وأبحث عن صاحب الصوت ،من المؤكد هو الذي سرقني ،غير أن رجلا جعلني أشك في نفسي ،عندما قال :اتركوه يا جماعة .. هذا مجنون ..بيغنى ويقول :
-يا زمان الوصل بالأندلس
وعند هذه اللحظة وجدت المحصل يندفع نحوى في قوة ، وأنا أيضا اندفع نحوه بحكم دفع الناس لي ،ليمسكني من رقبتي قائلا وهو يوجه حديثه إلى الركاب :
-أنا أدرى بألاعيب هؤلاء الحواة .
ثم أضاف بلهجة آمرة وساخرة في ذات الوقت :
-طلع الفلوس يا ابن اللئيمة .
حاولت أن أقول شيئا أو أن أدفعه بعيدا عنى فلم استطع ،ووجدتني أحدق في وجه ليس غريبا عنى أبدا ،وخارت كل قواي ،إذ كان هو نفسه الرقيب الذي يراقبني منذ الصباح . والغريب أن شيطاني الخبيث قال لي :
-فرصتك أتت ،ادع الموت واستلق في العربة هنا ،لن يمسك أحد بك.
واوفقته وحاولت أن أفعل فلم أستطع ،لقد كنت محشورا بين الأجساد الساخنة ومرفوعا عن أرض العربة بمقدار عدة قبضات .
مطاردة محسومة
بقلم: محمد عبد الحليم غنيم - في: السبت 18 نوفمبر 2017 - التصنيف: قصص
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...