إنِّي أتدفئ بشمس يوم اللقاء ، ووقع خطواتي نحو بيتها تنملم في قدميَّ ... تشعرني بالطريق اليَّ...
ملامح ووجهها الجميل ..تنهداتها موشومة أطيافا في مخيلتي ، حين عقد لنا القدر موعد للقاء ، غدا حلم الصبا حقيقة أجمل مما تخيلت ..كأنه يقتحمني واقعه ، ويهز دهاليز نفسي .. ينفض غبار السبات ، ويغسلني بماء الحياة لأحيا ..وتشرق أعماقي في وجه شمس يوم جديد. لما اجتمع الزمان بالمكان في لحظة توهاني في اللازمكان ، وقد تشابكت عليا الممرات أمام الموت القادم مع نشرات الأخبار ...في يدي تدلت أعلام آيات العروبة .. وقدمي تنزف حافية ، قد فقدت حذائي في المسيرة ..
نددنا ، صرخنا ... ضربونا .. فرقونا لأننا نحلم بالنصر ، لكننا إنهزمنا في عيون المذيع الحائرة وقد أوقعني في جب الشطائب مرددا على شفتي َّ :
ـ " ...لا أفهم شيئا... سيداتي سادتي ! " .
حينذاك فهمت .. أحسست بوجودي لما شلَّ تفكيري ، كنت أسمع الأشياء المقدسة بداخلي ترتطم أرضا وتتكسر ، تتناثر كالكرستال الثمين .. استجمعت أشلاءها المبعثرة على امتداد مد مارد ، كذاك الممتد من المحيط إلى الخليج.. وحملتها إليها .. وحدها جميلة ... أأتمنها لتعيد إليَّ أواصر الحقيقة ...
فتحت لي ذاعيها شراعا ، وسع صدرها جروح وطني ، وتشتت نفسي ..لم أكن أطارد في حضنها الكوابيس التي تفزعني في قلب الليل .. أصرخ بألم :
ـ " أماه.. ما السبيل للنسيان ؟ " .
تضمني أميِّ خائفة عليَّ منهم ..لكني أأنًّ في حضن جميلة مؤمنة أنها تخاف عليَّ مني ِّ. القهوة التي نرتشفها معا .. كالحبر كتبت بها خلجاتي ، وهي تلهمني جالسة على أريكة صالونها الشرقي .. وترتل كلاما أعظم مما قرأت.. أهرب بين اللحظة والأخرى من نفسي على بساط بصري ، أتفحص ما حولي ..تشدني بساطة بيتها .. أسافر بأصالته ونقوش التحف وأيقوناتها ..كما حروف أصيلة تحاكي ذاتي..
ثم أرفرف على جناح عينيها السابحتين في بحور التاريخ ... أقتحم من شرفتها ، دون إذنها ، سقف المدينة البيضاء ، المسدلة على صمت غامض يعلو على أبواق الحياة المقيدة .. تلك الحياة المرعوبة في بلد يشتهي الآمان .. كما ترقبه الأنفس المحترفة للعبة مراوغة الخوف.. تلك شكوة العضو ، كسائر جسد الوطن الكبير ، المتداعي بسهر الخوف وحمى الذل والهزيمة.. يحط الطائر على الحائط القصير .. يصطاد شتات نظراتي التائهة ويخبط بجناحيه الأرض ليطير ثانية ، فيوقظ في قرار الرحيل المؤجل.. تحل الأدمع ما أستغيبه من ذاكرتي من ألم الاغتراب .. ربما ندما على تأهبي السفر حيث لغة أخرى ، نهرب بها من ويل ما يكتب لنا هنا ، أو ربما الوطن أضحى أشدَّ المنافي ضراوة.
اجتاحتني جميلة .. تدفئني ، خفت أن تقرأ في عيناي الخذل وقد سلوت ذات بكاء السيف القاطع بين المتخيل والحقيقة ، وهي بما يفيض منها تقطع عن جسدها أيقونات الخيال وتحسسني بمسحها على شعري ، بأنامل الواقع..أصفع نفسي التي ضعفت يوم آمنت :
ـ " العظماء لا تصنعهم إلا مخيِّلة الشعوب ..! " .
لكن هذه المرأة في هندامها ، تحيي الشبيبة في جسدي الهرم ، وحده التاريخ كفيل بإنصافها ، عندما تخذلها الأجيال كما تأكل الثورات أبناءها ، ليخلفوا بموتهم البطيء ضحايا آخرين ، يتامي وثكلى الحرية .. وسقطت وأترابي من رقعة الوطن الأكبر ذات ربيع كاذب ، كذلك التمثال البرونزي الصدىء بسنوات العظمة الوهمية ، وتشنجت أسلاكنا المقطوعة كما جذور الحلم العربي ، ويبست موتا .. وتجر أعناقنا خيبة وذلا .. ونضرب بالنعال رؤوسنا لنستفيق على مصير مدفون في حفرة جرذان .. تلك حياة الحفر الواقعون فيها أبدا ً ، كلما نتسلق على سلالم الأمل ، تقيدنا سلاسل الخذلان العربية ، لنعود إلى الهاوية .
اودعت حلمي في الحفرة لأنسلخ عن الواقع .. وأتألم بسكرات الانسلاخ ، فهربت من الموت أطلب الأنفاس من الروح التي سكنتني زمنا ً ، وأنا أتطاول بقامتي القصيرة رفوف المكتبة المدرسية ..لأطفئ لهيب فضولي في تكملة حكاية تلك المرأة . علها "جون دارك" التي تحكي لي أميِّ عنها ، الشغوفة بها منذ ولوجها المدارس الفرنسية إبان الإحتلال ، حتى اليوم تحتفظ بصورها تحفا ً على كراريسها القديمة .. ربما أورثتني أميَّ هواية التنقيب عن الأسماء في غبار الذاكرة.
أعود ثانية إلى مجلسي مع "جميلة " ..قد عثرت عليها لما تخليت عن هوايتي لما خذلونا وبعثروا الأسماء من حوصلتنا الذاكراتية.. ببدلتها الرياضية .. وقبعتها الصوفية تتلفع حياة وحركة .. ومنذ أن فتحت لي بابها ، وطلت عليَّ بعينيها البربريتين .. كقنديليّ معبد كانتا ..ووجهها مرمريّ لم يتمكن الزمن الذي صنعت بعضه ذات سبع وخمسين ان ينحت فيه شيئاً .. ظلت تحاول ان تبث في بعضي الذي أبحث عنه فيها .
أراوغ نفسي وتراوغني ، أتمتم في سري ويجيبني صمتها .. علاَّها نظراتي تشفع لي أن تنقذني فتفعل ، كما شفعت لي أمام صاحب العمارة وقد صرفني طاردا لخطوات لما وجدني خلسة أتربص بمدخل العمارة .. ثم طرت عليه معانقة شاكرة :
ـ " إنها في الطبقة الخامس عشر .." : قال .
لحظات قرعي بابها ، وتحسسي حركاتها صوب الباب ، أضحت سنون عذاب ، .. علَّها من أفشلتني لأفصح لها عن الطارق من .
ـ " أنا ..فائزة ..أنا..! " : متلعثمة.. ثم أفكر.
خلتها تعرفني قدر معرفتي لها ، وأضحت تعرفني أكثر منِّي .. فتخلط أوراقي كلها .
ـ " ما قمت به بنيَّتي واجباً لا يستدعي الإعجاب بتاً " : قالت لي.
... ودعت جميلة ، بخطوات مثقلة لا تقوى على دفعهما غير أسطورية هذا اليوم .
إستفقت على وقع ما حدث ، أريد نزع صورة الأبيض والأسود عن ألوان المدينة .
أنتكس عن نظرات المحيطين بي في القطار فأهرب إلى الفضاء المترامي خلف النافدة .. أحارب العبوس بإبتسامة طفل يقابلني في المقعد الجانبي ، لفتته عيوني الحائرة ، أراوغه بإبتسامة مهرج عريضة ، أفتح حقيبتي .. أخرج تذكرة السفر ، أمزقها حتى لا يحيا هاجس الهرب ثانية..
" لا ... إلى جميلة بوحيرد "
بقلم: فايزة مصطفى - في: السبت 18 نوفمبر 2017 - التصنيف: قصص
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...