لأننا لم نفترق وسِفرُ الاغتراب

"لأننا لم نفترق" كان هذا الاغتراب المتقاطع أفقياً مع الحلم ـ الواقع، ومع الماضي ـالحاضر،إلا أن توتر ذلك الاغتراب قد أدّى إلى نشوب جدليْن...الأول ميتافيزيقي بين الكاتبة وأناها، والثاني سيكولوجي يُمثّله أبطال الرواية وحالة الفوضى والتناقضات التي يعيشونها...
الرواية وقائعُ أحداث حقيقية مضتْ..أمنيات لم تتحقق..رغبات مكبوتة وأحلام قاتلة صعبة كالحب الذي جمع بين البطل والبطلة الراوية والشاهدة "ليلى"..
أزفت لحظة الهطول..وهاهي الذاكرة قد بدأتْ نزف الأحزان التي نهشتْ روح الصمت فباتَ عارياً إلاّ من الوجع المطلَق والقلق المعلّق في آفاق الأسئلة ومدارات الذاكرة.
في القسم الأول من الرواية..استعرضتْ ليلى ست وعشرين رسالة كان البطل قد أرسلها إليها في حقبة غارقة بالصراعات الرومانسية والايديولوجية..
ومن خلال تلك الرسائل قامت ليلى بتعرية المجتمع الذكوري السائد البائد كما انتقدتْ أفكاره الشاذة والمتناقضة مع سلوكياته الحياتية الغارقة في الوهم...
هي الأنثى التي لم تلوّثها فسيفساء الحروف أو تهزّها نمنمة الكلمات بعد.. لكن رسائله الفلسفية الوجدانية قد أشعلتْ حلمها الأسطوريّ وعاطفتها التي تمرّدتْ إلى درجة الجنون المستحيل.. هذا ما كان يريده البطل في حقيقة الأمر، إقناعها بما يريد لكأننا أمام حالة احتلال أو سيطرة أو هيمنة..
إنها مأساة المجتمعات الذكورية التي علناً تنادي بالمثاليات والأخلاقيات لكنها سراً تقترف الدونية واللافضيلة..
وأعتبرُ ذلك موروثاً قد تجذّرَ في مجتمعاتنا ومنذ الماضي وبما أن الحاضر والمستقبل امتدادٌ للماضي فقد نتجتْ عُقدٌ أكبر من سابقاتها ما دفع بالكثيرين إلى هوّة التخلف والازدواجية..
وتناولتْ الكاتبة شخصية البطل المصاب برهاب الضياع نموذجاً للمجتمع الذكوري..كما تناولتْ شخصية المرأة الأخرى ـ الأفعوان ـ التي تزوجها البطل في لحظة سُكر مارقة..
وتفرّعت العقدة الكبرى في الرواية إلى عقد صغيرة تمثّلتْ على شكل ذكريات ولقاءات وحوارات وتساؤلات لتشكّلَ في نهاية المطاف سِفرَ رحيل الكاتبة في الزمن المتشظّي إثر تحولاتٍ نفسيةٍ طرأتْ عليها من جراء تلك العقد ـ التغيرات ـ..لهذا وبعد سبر أغوار الرجل الزوج ارتقتْ إلى المطلق الأرحب بحواسها ومخيلتها..ليلى هي الشاهد الأكثر التصاقاً بهموم المجتمع وتحولاته بفضل عمق وعيها بالتجارب والفلسفات والأديان والانسانيات.. 
" يا رجلاً احترق في محارق التناقضِ، يا رجلاً استُلبَ لضعفه وأشعل خلفه ألسنة النار ـ لوطنٍ آمنٍ، وأدخلتني أنا الشاهدة الوحيدة إلى زمن قلق الغرباء، وطوفان استجوابي من أسئلة المجتمع" ـ ص 70 ـ
" أليسَ الحب المطلق يعلّمنا القوة في أزمنة المستحيل وفي لحظات الضعف؟" ـ ص 88 ـ
" لابدَّ من إحداث فعلٍ قويٍّ يغيِّرُ كل الأشياء، وإلاّ ستبقى نظرية المساواة مصنَّفة على اللوائح الشفوية وما أكثرها" ص 105 ـ
تتصفُ تجربة ليلى بالانفتاحية على المفاجآت والاحتمالات، فبعد اقتران البطل بالمرأة الأخرى، كشفتْ ليلى الحقيقة الغائبة المتمثِّلة بنرجسية الأنثى وسادية الرجل المثقف إلى حدِّ الترف..
والغاية من هذا الكشف لم يكن إثارة الفتن أو الفضائح بل تنبيه المجتمع بهدف الاصلاح من الداخل المهترىء حتى النخاع.. وقد أشارتْ إلى حقيقة المرأة الشرقية بقولها:
" أحسُّ الآن أن المرأة في شرقنا ضعيفة حتى بقوتها حتى بثقافتها حتى بأخلاقها وقيمها" ص ـ 105 ـ
لكأنها تهمسُ بأذن المرأة بصوت المعاتب المحب الغاضب لتدعوها إلى الابتعاد عن العبثية والضياع،عن الزيف والسطحية.. و قالت في الرجل الشرقي :
" لماذا يحمي القانون الرجل في حالة فورة الدم ولا يحمي المرأة؟.. هل ليس فيها دمٌ يفور مثله في لحظة الخيانة؟".. وهي بذلك تنتقدُ القوانين التي تكرِّس هيمنة الرجل وتهميش الأنثى..
هناك الكثير من التساؤلات فيما يتعلق بالرجل والمرأة والمجتمع الشرقي عامةً في هذه الرواية،  تُرى هل نحن بحاجةٍ إلى التغيير القوي لئلاّ تبقى مفردة المساواة على لائحة الغياب كما قالت ليلى؟..
فقد تغير كل شيء إلاّ القوانين وبما أن لكل عصرٍ رجال فإنني أقول أنه يجب أن يكون لكل عصرٍ قوانين تتلائمُ وتطوراته وأحداثه وهمومه وأفكاره..
ثم لماذا نحن متناقضون اجتماعياً وفكرياً ، ثقافياً ودينياً؟.. بل كيف وصلنا إلى التناقض؟.. بل كيف استطاع التناقض أن يلجنا بسهولةٍ،أن يستوطننا من الداخل لا من الخارج؟..
فمن المعروف أن لكل فعلٍ متخفٍّ ومستور لابدَّ وأن يكون إما شذوذاً أو خللاً نفسياً..
فهذا التناقض السائد لم يكن موجوداً في الزمن الغابر..لماذا إذن في زماننا؟..
هل السبب هو التخبط في حوار الحضارات وحضارة الحوار، أم عبث الثقافات وثقافة العبث؟.. أم أن السبب أننا أسأنا فهمَ حرياتنا وقيمنا وأخلاقياتنا؟.. ومن المسؤول عن استفحال هذا التناقض؟.. وكم نحتاج من الوقت لتطهير أنفسنا بغية استعادة حصانتنا وقوتنا في زمن الجهنميات وما أكثرها؟..
" ربما التجربة القاسية التي قادتني إلى فلسفة الأمور وما أنا بفيلسوفة، وما أحاول أن أعمل فرزاً لإخراج الأشياء بصورة واضحةٍ من خلط الأحداث، وأنقل الصور المختَصرة عن الواقع بحذرٍ شديد وقدر المستطاع أتجنَّبُ الاساءة إلى أحد، وقد يتمركز القارىء معي في الهم الوجودي،هم الحرية، هم الثقافة، هم التطوروالتمرد والحداثة الحضارية، إنما أليستْ كل الأشياء تُمارس ضد الانسانية المضطَهَدة؟..". ص 119 ـ
ومن خلال التطور الوجداني والروحي لدى الكاتبة كانت القوة المنبثقة من أعماق نفسها المذبوحة صبراً ووجعاً وتعباً... تقول ص ـ 127 ـ
" لأني مسكونةٌ في تكوينك وأنتَ مسكونٌ بذاكرتي... أما القلب يعلنُ حداده بأثواب كل ليالي عتمتي المدلهمة"
وفي ص ـ 128 ـ تقول:
" أحبسُ نفسي من الأوجاع التي تعاود ظهورها في كل حوارٍ بيننا حتى لا أصرخ"..
وفي ص ـ 129 ـ تقول:
" أتغلّبُ على تعبي..سلاحي أبيضٌ شفاف رغم غبار الحزن، سلاح الحب الهادىء، أهناك أجمل من أن أحاربك ( أيها المجتمع الذكوري) بالحب بدل العنف؟..".
والعنفُ برأيي لا يعني إلاّ الدمار .. لأنه حين صار العنفُ من الميزات التي يتفاخرُ بها الرجل ويطبِّقها بل ويتفنَّنُ في خلق أنواعٍ جديدةٍ منها خسرَ نفسه أولاً ثم كل شيء ..وبقيت الأنثى هي الرابح الوحيد في معركة الوجود تلك، لأن سلاح الحب من أقوى الأسلحة وبالحب تُبنى المجتمعات والحضارات وبالحب تتطور فكرياً وانسانياً وأخلاقياً... إذن أي السلاحيْن هو الأقوى؟.. ولماذا لم يتوصَّل الرجل إلى معرفة ذلك؟..
بكل صراحةٍ لأنه لايقوى، وبهذا يقدّمُ اعترافاً واضحاً عن ضعفه النمطي...
وأثارتْ الكاتبة قضية الرجل المنساق وراء إيديولوجياته ما أدى إلى ابتعاده عن التفكير الحر والمستقل وبالتالي فقدانه الحس الوجداني والروحي..وحين يفقد الانسان ذلك الحس بالطبع يتحوَّل إلى أداةٍ طيِّعةٍ بيد أيديولوجياته التي تعلو على إنسانيته فيفرِّط بجزءٍ من العالم الأكبر أو الكون الإلهي ، لهذا نراه يُمارسُ بل يقترفُ سياسة أو جريمة إلغاء الآخرـ الأنثى، لأنها الأقرب إليه.. لكنه لم يتنبَّه إلى أنها تمثِّلُ نصفه الآخر وبذلك يكون بدونها مجرد قشورٍ تتقاذفها نظريات الوهم والأفكار المستوردة..
القسم الثاني من الرواية ( رسائله النور الخفي) يعود إلى فترةٍ زمنيةٍ تسبقُ القسم الأول من الرواية، فالكاتبة ابتدأت بالخاتمة ثم استعرضتْ الوقائع حسب تسلسلها الزمني.. " النور الخفي" لم يكن عبثاً اختيار الكاتبة هذا الاسم فالنور الخفي هنا يعني شفافية البطل وصدق مشاعره والبراءة والعفوية التي ربما كان البطل يتحلَّى بها ثم تغيَّرَ فيما بعد أو ربما كان يتخفّى وراء تلك الميزات للوصول إلى غايةٍ ما..
يقول البطل :
" أنا إنسانٌ أُخِذَ منه كل شيء ولم يعدْ له شيء يقدّمه لكِ".. ص ـ 172 ـ
" انسبَ المتفرِّجون من حولي..كانت المسرحية تتحدثُ عن الفشل لذا أسدلتُ الستارة بعد الكلمات الأولى" ص ـ 171 ـ 
" لا أحد يبحثُ عني في الطرقات المهجورة، أسيرُ حاملاً وحدتي لأتلمس من خلالها طريقي المنفي بين أجساد الظلمة، عشتُ أيامي أبحثُ عن الأحلام والسحر والايمان بهما.. يابسةٌ أوهامي..". ص ـ 167 ـ
" أشعرُ أني قد أسأتُ إليكِ حين حاولتُ أن أُدخلكِ إلى عالم الحقيقة".. ص ـ 164 ـ
وقد استخدمَ ألقاباً لمناداة حبيبته ليلى : " سيدتي،صديقتي، يا أشقى طفلةٍ في العالم، أم الليل، أيتها القديسة،
يا ابنة زوابع الحب، يا شهيدة العطاء، يا راعية حقول الضوء...."
" حين أكون معكِ أفقدُ معنى الزمن والحركة والحوادث وكل ما يوحي بالتغيير، أعيش معنى الثبات الأبدي الذي يتحدث عنه المتصوفة"... ص ـ 213 ـ
رباه!.. جميلٌ هذا البوح وتلك المشاعر والأجمل لو أنها بقيتْ ينابيعَ عذوبةٍ تتدفقُ من أعماقِ الأرض لتمسكَ وبقوةٍ عبر جريانها بيخضور الضوء..
لستُ هنا بصدد إعطاء القارىء درساً في المشاعر أو العواطف بل لأثيرَ قضية كارثيةً يعيشها مجتمعنا ومنذ عهود لكنها تفاقمتْ مع تطور الزمن والأحداث.. ألا وهي تبخُّر أو زوال مشاعر الحب بعد الزواج...
ورداً على هكذا سؤال لا أملكُ إلاّ القول بأن تلك المشاعر إما لم تكن صادقة بمعنى أنها كانت وسيلة، أو أننا لم نكن نملكُ الوعي والنضوج العاطفي والجنسي لهذا خلطنا بين الطرفيْن.. وأعتقدُ بأن القول الثاني هو الأصح فكلنا نسيءُ استخدام المفاهيم العاطفية لكن حين تتضح الأمور بعد خوضِ التجربة نكون قد أدركنا متأخرين حقيقة الأمور..يقول البطل:
" أنا النقيضُ الأبدي للكون لذا أراني مهجوراً في الحضور" ..
أعود للرواية، إن الحدث لا يسيرُ بخط مستقيم والشخصية قد تتفرَّعُ إلى شخصيات عديدةٍ وِفقاً للإنتماءات الطبقية والفكرية والاجتماعية... وفقاً لحالات السكون والحركة ، الضعف والخيانة والحب...إلخ وبذلك تتطور وجهات النظر فتنشأ علاقات واهتمامات وطروحات جديدة...يقول البطل ص ـ 169 ـ :
" لكل شيء في هذا العالم منطقه الخاص، ولكن منطقَ أصوله في اللايجب، وتنفيذ هذا اللايجب متوقف على عمق وأصالة الشعور به، وعلى طبيعة الحياة القائمة على أساس التناقض وأنها لا تتوافق دائماً في مساراتها مع الانسان"...
إن الرؤية الانسانية لدى الكاتبة قد غلبتْ الرؤية الذاتية لدى البطل..
يقول ص ـ 177 ـ :
" لكل عصرٍ قيمه ومعتقداته وأصول عيشه ومن لا يعرف ذلك فسيعيش في حالة فصام...الانسان في مجتمعاتنا دون أي ظلمٍ له لا يحملُ هوية واضحة فهو تقدميٌّ في بعض الأمور ورجعيٌّ في الأخلاق، خلوق المظهر، إباحيٌّ كسلوك، كريمٌ في الشكل، بخيلٌ وأنانيٌّ جداً في المحتوى"..
إن البطل على حق، فالانسان فقد انسانيته حين ارتكبَ التناقضَ وارتدى أشكالاً لا حصر لها من الأقنعة ليسترَ عريه الداخلي المهترىء العفِن إلى درجة البذخ...
يقول البطل ص ـ 189 ـ:
" إن الكلمات التي قلتها جديرةٌ بأن تُقال من آلاهةٍ لإله وليس لصعلوكٍ مثلي"..
" أنا وأنتِ أبناء تاريخٍ مقهور..أبناء لحظاتٍ مصروعةٍ من الجنون في دوامات البحث..ما أقسى أن تكون الحرية هي الله وأن مات الله ماتت الحرية.."..
بعد الاستعراض اليسير من اعترافاته..أقفُ باحترامٍ شديد لصراحته في لحظة لاوعيٍ واعِ..لأنه قدَّمَ لنا أصنافاً من البشر ص ـ 202 ـ فهناك الانسان الذي يجهل والآخر الذي يعي أنه يجهل والثالث الذي يجهل أنه يجهل... بمعنى أن هناك ثمة فروق وأنا أوافقه الرأي، فالانسان إما تاريخٌ أو لا تاريخ، إما وجودٌ أو عدم، إما حاضرٌ أو غياب وإما انسانٌ أو لا إنسان... لهذا يقول البطل ص ـ 215 ـ:
" وضعتُ كل فلسفات العصور تحت أقدامكِ فجوهر الموسيقا والشعر الخالص بعضٌ من عوالم براءتكِ الاسطورية"...
لكنه لم يتنبه إلى أن من يصنِّفَ البشر يكون عرضةً للتصنيف أيضاً فمن أي صِنفٍ كان البطل؟..
ومن خلال سياق الأحداث يتعرَّفُ القارىء وبسهولةٍ إلى أن البطل لم يكن إلاّ من الصنف الأخير...
بدليل قوله ص ـ 217 ـ
" أنا عاجزٌ عن تعريف إيماني بحبك".. لأنه لو كان يعي معنى الحب لما اقترفَ خيانة ليلاه راعية حقول الضوء وابنة زوابع الحب على حدِّ قوله...
" أنتِ شبيهةٌ جداً برموز السيد المخلص الذي ملكَ صفاتكِ قدرة لفِّ التشويهات البشرية".. ولو كان يعي رموز السيد المخلص وجوهرها لما تخلَّى عنها ..ولو يدري حقيقة أناه لما عرَّضَ نفسه لهذا الكم الهائل من  التناقضات المشرقة في لحظة الغروب..
هل ذلك ما يُسمَّى بهفوة العالِم؟.. وعلى افتراض أنها كانت كذلك إذن لا ضيْرَ لو أن العالم مضى في لجج الهفوات... ها هو يتحدث عن طفولته فيقول ص ـ 211 ـ
" وكانت أمي تعتني جداً بشعري الطويل، وتُلبِسني أزياء البنات لترضي شيئاً خاصاً فيها وكانوا يحدّثوني دائماً بصيغة المؤنث ثم تعمَّقتْ وحدتي..."..
هي إذن حالةٌ نفسيةٌ أطلق عليها البطل اسم ــ ثمة فواصل بينه وبين الأشياء ــ ما يعني أن تلك الحالة كان لها تأثيرها عليه فيما بعد فقد تحوَّلتْ إلى عقدة رهيبةٍ .. بدليل قوله ص ـ 225 ـ
" إنني لا أستطيعُ أن أفهمَ لمَ لم يسأم الله من ألأبدية؟..".
ويرد بنفسه على سؤاله في صفحة 239 :
" أعودُ مثقلاً بنضوج الهموم، فمتى يموت الله من الفكر البشري يشعر الانسان بضياع كل شيء"...
والقسم الثالث من الرواية يحمل عنوان " رسائلها زهرة غضب.."، وفيها تحدَّثتْ ليلى عن قضية الحرمان  والأمنيات الواهمة والأحزان والصمت وأنواعٌ شتى من الألم..
كانت تروي قصتها المثقلة بالصفاء السرمدي والصمت المؤبد، إنها ابنة الحزن الغارق والوجع المستغرق  في متاهات الانتظار ومدارات الاغتراب..
في إحدى رسائلها كانت تتحدث عن عالم الحيوان ص ـ 250 ـ فتقول:
" أجدُ فيه الثقيل الدميم اللئيم، وفيه العنيف الطيب الجميل، وفيه المتعجرف الشرس الغاضب من كل شيء.."..
أعتقدُ بأنها لم تقصد إلاّ عالم الانسان انطلاقاً من مقولة أن الانسان حيوانٌ ناطقٌ ، والنطقُ هنا عبَّرتْ عنه بالدماثة واللؤم، بالعنف والطيبة والجمال، بالعجرفة والشراسة والغضب..
وتحدَّثتْ أيضاً عن غموضِ البطل الحبيب واصراره على رفض الاعتراف بغموضه ما أدّى إلى حدوث شرخٍ بينه وبين العالم...وكذلك عن تخبطه واختلاط الأمور عليه...وعن وجومه وقسوته ص ـ 256 ـ تقول:
" رغبتُ أن أداعبكَ وأرى تأثيرَ تأخيري عن المنزل...... عدتُ متأخرة.......وفور دخولي أنهيتَ الحديث مع أفراد أسرتي وخرجتَ...... كان ردُّكَ في اليوم التالي غريباً لأنكَ حكمتَ على تصرفاتي بأنها طفولية وأنني أتصرف كالحمقى"..
هي ذي ليلى ، نبضها نبض الطبيعة التي لاتعرف إلاّ العطاء الدائم والمستمر، شامخة في مواجهة أعتد الظروف، مرهقةٌ تدور تارةً في أفلاك الوجود والغياب، وتارةً أخرى في مدارات الحزن والوجع النبيل الذي لا يفارقُ نظرتها المجروحة...
حروفها سلالٌ من الحبقِ الليلي المبلل بمطر النشور وعطر الخيال، حبرها زيتونٌ يشفي من به ألمٌ ، فزيته بالمحبة والتسامح والصفاء والسلام يفوح.... منذورةٌ للاغتراب والعطاء الكوني...
ولأنها والبطل لم يفترقان كانت رسائله ـ النور الخفي ـ ورسائلها ـ زهرة غضب ـ تاريخ تجربة ملونة بآفاق لاوصف لمجراتها ومداراتها المعتَّقة في زمن اللازمن....