دمشق - إبراهيم حاج عبدي الحياة - 06/05/08/
«حديث الأشجار» هو الكتاب الأخير، المطبوع للروائي العراقي فؤاد التكرلي الذي رحل في 11 شباط (فبراير) الماضي. الكتاب الصادر عن دار المدى (دمشق - 2007)، يضم 12 نصاً موزعاً بإنصاف بين قصص قصيرة، وحواريات مسرحية ذات فصل واحد. ست قصص قصيرة وست حواريات مكتوبة في السنوات القليلة الأخيرة، كما تشير التواريخ في نهاية كل نص، جمعها التكرلي ودفع بها للطبع، قبل رحيله بأشهر، ليكون هذا الكتاب هو الأخير له بعد تجربة امتدت على مدى أكثر من نصف قرن حاز خلاله التكرلي شهرة في العراق والعالم العربي.
بدأت تجربة التكرلي الإبداعية مطلع الخمسينات من القرن الماضي، بقصته القصيرة الأولى «العيون الخضر»، وانتهت بـ «حديث الأشجار». بين هاتين المحطتين يمتد مشوار طويل ووعر قضاه التكرلي في دنيا الكتابة، وعلى أجنحة الترحال ووسط أروقة المحاكم، إذ عمل قاضياً في محاكم بغداد. حمل قلقه وأوجاعه الصغيرة مذ كان طفلاً يسكن مع أسرته في دار عتيقة بمحلة «باب الشيخ» ببغداد حيث ولد عام 1927، وراح يفتش عن أسرار الكتابة والإبداع، مدركاً، في مرحلة مبكرة، أن السرد هو وسيلته المثلى للتعبير ومخاطبة الآخر. نشر مجموعته القصصية «الوجه الآخر» عام 1960 التي احتوت على رواية قصيرة، وعندما نشر رواية «الرجع البعيد»، مطلع الثمانينات، كان قد أصبح روائياً يشار له بالبنان. غادر العراق عام 1990 ليستقر في تونس مع زوجته التونسية الكاتبة والمترجمة رشيدة التركي. كتب هناك رواية «خاتم الرمل» التي صدرت عن دار الآداب البيروتية منتصف التسعينات، وفي نهاية العقد المذكور أصدر رواية «المسرات والأوجاع»، وعاد بعد ذلك من تونس إلى دمشق حيث أصدر مجموعته القصصية «خزين اللامرئيات»، وصولاً إلى روايته الأخيرة «اللاسؤال واللاجواب» التي صدرت قبل نحو سنة.
باستثناء الشعر، ربما، فإن التكرلي كتب في الأجناس الأدبية المختلفة، على رغم بروزه في مجال الرواية. تميزت كتاباته بالسلاسة والبساطة، وبالحوارات السهلة التي تقود إلى نهايات ملغزة، ومفتوحة. وانطوت هذه الكتابة على تحليل عميق لمعضلات الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في بلاده العراق. وإذا قيض للمرء أن يطلع على مجمل النتاج الإبداعي للروائي الراحل، سيتاح له، عندئذ، أن يكتشف ملابسات وتناقضات وأزمات المجتمع العراقي خلال العقود الأخيرة. أعمال التكرلي هي بمثابة أرشيف إبداعي يوثق للتحولات، والانعطافات الكبرى، وهي تنتمي إلى المدرسة الواقعية في الأدب، شديدة الالتصاق بتفاصيل الحياة اليومية التي تتكامل، من عمل إلى آخر، لترسم صورة بانورامية للعراق المعاصر، مرسومة بقلم روائي عاش الحوادث وراقبها ثم دونها، وأودعها دفتي كتاب.
في القصص القصيرة الست التي يتضمنها «حديث الأشجار السابقة: سلاسة اللغة والسرد، الوصف الدقيق، والمقتضب للمكان، ولدواخل الشخصيات، وضوح المقاصد والنيات لدى أبطال قصصه، الحوارات البسيطة والصريحة، الالتزام في أغلب قصصه بالتسلل الزمني، والمنطقي لتصاعد الأحداث والوقائع... فالتكرلي، إذ ينأى بنفسه عن استخدام الرموز، والألغاز، ويغلق الباب أمام التأويلات، فإنه يجتهد في تقديم قصص صادمة، ومؤثرة، فهو، وإنْ كان يستمد مادته الكتابية من وقائع الحياة، لكن الحس القصصي الرفيع لديه يشعر المتلقي بأن هذا الواقع الرتيب، والمألوف يفوق، أحياناً، الخيال، ويقترب من الفانتازيا.
ففي قصة «قضية خاصة» يرسم التكرلي صورة بطل غريب الأطوار. موظف حكومي في الأربعينات، يعكتف في غرفته في منزل ببغداد، يتقاسمه مع والدته. عند الاعتكاف يشرع في رسم خطوط، و «خربشات» مبهمة على أوراق بيضاء. تصل هذه الرسومات الغامضة، والمحيرة إلى بروفسور جامعي استطاع أن يفك اللغز على انه «نوطة موسيقية نادرة». لم يدر في خلد الموظف البسيط أن هذه الخطوط، التي رسمها بعشوائية، وكيفما اتفق، كي يتغلب على الملل والكآبة، ستكون لها هذه القيمة التي أسهمت في تشويش أفكاره المشوشة أصلاً. في قصة «سر الطفل»، المركّبة، يساعد الأب ابنه على كتابة قصة قصيرة عن الجارة الأرملة. لكننا نكتشف أن ثمة علاقة غرامية تربط بين الأب وبين تلك الأرملة، فيحجم الأب عن المضي في مساعدة ابنه لإتمام قصته، لأنها ستكشف تلك العلاقة السرية. وحين يستفسر الطفل عن سبب هذا الإحجام يرد الأب: «لأن الخيال، يا بني، يعجز أحياناً عن الإمساك بواقع الحياة العجيب هذا».
وتروي قصة «الاختيار» حكاية رجل شرير، ومغلوب على أمره، في آن. يخطط الرجل، على نحو غامض، لقتل أمه التي تتشاجر مع زوجته، مستفسراً من صديقه المحامي، في شكل موارب، عن العقوبة المحتملة لجريمة مماثلة لتلك التي يفكر في اقترافها، بينما تسرد قصة «البجعة»، وهي القصة الأطول في الكتاب، حكاية أستاذ لغة عربية يعيش وحيداً مع موسيقاه وطيوره في بيته الكائن في أحد أحياء بغداد التي تعيش مخاض حرب مقبلة. يساعد الأستاذ جارته، ابنة الـ17 سنة، في مادة اللغة العربية، وتنشأ بينهما علاقة من نوع خاص تذكرنا بأجواء رواية «لوليتا» لنابوكوف. تغادر الفتاة بغداد، مع أسرتها، هرباً من الحرب الأميركية الوشيكة. تقع الحرب، وتصيب الأستاذ شظية تودي بحياته، حين تعلم الفتاة بذلك، تنطوي على ذاتها، وترثي حكاية الحب المحرم الذي نما في زمان ومكان غير مناسبين. أما قصة «الأغنية الأخرى» فهي تكشف عن نوازع، ومشاعر فتاة تخطط لها أسرتها زواجاً تقليدياً، مضموناً، بينما هي تغني «أغنية أخرى» لحبيب بعيد غائب.
في الحواريات المسرحية الست نسمع إيقاعاً مختلفاً. نستشف خلف السطور صدى صوت التكرلي المتعب، والمفعم بهواجس، وتأملات هي ثمرة خبرة طويلة في مضمار الحياة والكتابة. التكرلي، هنا، يغوص نحو الأعماق الأكثر غوراً للشخصيات، ويدفعها إلى البوح والمكاشفة التي تثير أسئلة وجودية مقلقة تحيلنا إلى نصوص مسرحيات «اللامعقول» أو «العبث». يصوغ التكرلي، على لسان الشخصيات، جملاً وعبارات مبهمة، تعكس حيرتها، وشعورها بالاغتراب، والاضطراب، وتوقها الغامض إلى مجهول لا يمكن تحديده. ففي حوارية «حديث الأشجار»، التي اتخذها التكرلي عنواناً للكتاب، يدور حوار وسط أشجار سامقة، في آخر ليل صامت، في مكان مجهول من هذا العالم، بين سيدة عجوز، وشيخ طاعن في السن. تدّعي المرأة قدرتها على مخاطبة الأشجار، ويشعر الشيح بالحسرة إزاء هذه الموهبة النادرة التي يفتقدها. وإذ يستفسر الشيخ عن طبيعة الحديث مع الأشجار، ترد السيدة العجوز: «هي لا تقول لي كلاماً واضحاً. ولكنها تفهمني، وتلعق جراحي، وتواسيني على طريقتها، والليل من حولي والثلج أحياناً أو المطر. استمع إليها بإشاراتها، ومزيج موسيقاها الناطقة». لكن نهاية القصة تفصح عن تراجيديا الضَّياع في هذا العالم الكئيب. وغير بعيد من هذه الأجواء العبثية تأتي حوارية «الأشباح»، ذات النبرة المؤلمة، لتتحدث عن لقاء الضحية بالجلاد، أو لقاء الرهينة المُخْتَطَف، مع الرجل الذي قام بخطفه. القصة مستوحاة من ظاهرة خطف الرهائن التي انتشرت في العراق عقب الحرب الأميركية، ولنا أن نتخيل مستوى الحوار، وطريقته وسط أجواء يسودها الرعب، والفوضى، والانفلات الأمني. في حوارية «انتظرني عند شجرة الدردار» نقرأ، كذلك، حواراً غامضاً بين سيدة، وشاب التقيا صدفة في موقف للحافلات، وبدا الشاب منتظراً في ارتباك، بينما راحت السيدة تكشف ألغازاً بدت مفاجئة للشاب الذي يتلقى نصيحة من السيدة العابرة: «إذا كان لا بد من الحزن، احزن بانتظام، في شكل محسوب. لا تدع الحياة تتحطم بين يديك».