حول سؤال الهوية ، والحفاظ عليها ، لتبقى جيلا بعد جيل ، لتبقى فى ذاكرة الاحفاد.
تدور احداث رواية حصن التراب من خلال عائلة موريسكية عاشت فى الاندلس ، وعاصرت ، سقوط مدنها ، وعانت قهر وبطش الحكم الكاثوليكى .. تنصير قسرى ، محاكم تفتيش ، تعذيب وتنكيل ، ثم تهجير وطرد .. وتفريق الابن عن الام ..ثم نبذهم من قبل سكان المغرب الذى هاجروا اليه ، نتعرف على هذه المأساة التى تعرض لها العرب المسلمون الذين عاشوا فى اسبانيا / الاندلس ما يقرب من ثمان قرون ، وكان التكالب على السلطة والمال للحكام العرب وصراعاتهم السبب فى سقوط مدن الاندلس تباعا ، وتسليم غرناطة من قبل اخر ملوكها ابو عبدالله محمد الصغير لملكى قشتالة وارجوان فرناند وايزابيلا ،،
لم يختار الكاتب احمد عبد اللطيف تاريخ هؤلاء الحكام ولا الامراء ، ممن يذكرهم التاريخ ليتتبع من خلالهم المأساة والسقوط المدوى ، ولكنه اختار عائلة عادية لنتعرف من خلالها على رحلة التعذيب والتنكيل للعرب المسلمين والذين أُطلق عليهم الموريسكيين او المدجنين ، وهى (عائلة دي مولينا ) ، التى ظلت تتوارث ارث التعذيب على مدى قرنين ونصف ، بدءً من الجد الذى اوصى ابناءه ؛ نسخ تاريخهم ، واخفائه فى سراديب ، واقبية وانفاق تحت بيوتهم قبل التهجير والقتل ، وكانت وصيته محددة ان يرث ويكمل الابن او الابنة الكبرى مخطوطات تخص تاريخهم .
نتعرف في الرواية على مأساة تلك العائلة من خلال مخطوطات وأوراق «إبراهيم ميجيل دي مولينا» وإخوته «محمد بن عبد الله» وحفيده «مانويل بن مريم بنت عبد الله» و«عائشة بنت مريم بن عبد الله» و«خوان دي مولينا» و«كارمن دي مولينا» وغيرهم من شخصيات الرواية الذين نتعرّف على أطرافٍ من حكاياتهم التي تأتي من خلال أوراقٍ تركوها يجمعها الراوي في رحلته إلى «حصن التراب» حيث مقر أسرته القديم، ونجد في كل فصل أو جزءٍ من تلك الحكايات أثرًا من آثار المأساة أو طرفًا من أطرافها، حتى نهاية الرواية.
لم يتناول الكاتب اى من عناصر الرواية التقليدية والمتعارف عليها ، كالحبكة وتسلسل الاحداث والحوار ، بل نحن إزاء حكايةٍ كبيرة تمّ تفكيكها إلى حكايات صغيرة متفرقة، كل واحدةٍ منها كتبها فردٌ من سلالة "دي مولينا"، لكن هناك خيطاً خفياً يجمع تبعثرها ويشدّ أواصرها. فهى رواية متعددة الاصوات ، وان كان هناك صوتين او اثنين من الرواة أساسيين، لهذا يمكن ان نصنف هذه الرواية على انها تجريبية و حداثية ايضا ، تجريبية لان الكاتب اضاف للسرد لنكات لموسيقى صوفية ، واغانى واشعار ، مشيرا الى انها تكمل اللعبة السردية وتأتى فى سياق الاحداث ؛؛ وحداثية لما نراه من صنع الغموض، وأقول صنع الغموض، لأنه ليس غموضا بديهياً، بل هو غموض مصنوع منحوت، مؤلف من كلمات نقية مع حشو مبهم وحذف غامض ، وسرد غير منظم ، فحين تبدأ الاحداث 1679 ، نجد احداثا فى 1414 ، ثم 1695 ، ويخرج السارد عن السياق ليتناول فكرة الموت متأملا حالة والده المشرف على الوفاة .. فيصف لنا تلك الحالة ، ثم يسأل سؤلا وجوديا "هل نحن من نذهب للموت ام ان الموت من يأتي إلينا ؟ هل يتجلى لنا في صورة كائن ام انه عالم خفي ننتقل إليه ؟"
وهذه سمة من سمات الحداثية ، بالاضافة الى تناول حدثا غرائبيا / فنتازيا ؛ حين يتحول بعض افراد العائلة الى احجار ، ويجعل الحجر يشعر ويتألم ، وتظهر عليه علامات الآدمية ؛ هنا حشو بطريقة فنية وحذف بطريقة انتقائية، وقصد مسبق لصنع نص غامض .
يقوم السرد بمهمة تمثيل التوتر وتشظى شخوص الرواية ، والاحداث ، ومن اجل بلورة هذه الفكرة ، لجأ الكاتب الى تقنيات سردية لتجسيد تلك المأساة التاريخية ..فيضفى الكاتب على الاحداث طابعا تراجيديا ، حينما يصور لنا وحشية الاحكام على من يتم الشك "مجرد الشك" فى نوايا الذين اطلقوا عليهم المدجنين ، ويصور لنا تنفيذ تلك الاحكام ، ما يضفى على السرد سمة المشهدية ، يجرى ذلك داخل اطار سردى تتوازى فيه حكايات الجد والابناء مع الاحفاد ، من جهة مع الوثائق والمخطوطات ، وعن راوى مجهول الاسم ، وراوى من عائلة دى مولينا ، وهو ابراهيم الحفيد ، وبتعمد من الكاتب ؛ تم تجاهل الراوى الاول ،وعدم اضفاء اى سمة او اسم عليه ، حيث اراد ان يضفى عليه صفة المعاصرة ، فهو راوى يعيش اليوم امتداد المأساة ، مأساة الشعب المقهور والمغتصب ، وهنا نرى عودة التاريخ لذاته ، فما كان يمارسه الحكام الكاثوليك من تعذيب وتهجير وطرد ، ونهب وحرق لأشجار الزيتون ، يفعله الصهاينة اليوم ، ومن قبل الفرنسيين ، والانجليز ،ومن قبلهم التتار والمغول .
اللغة جاءت ممتازة فى بداية الرواية وفى مقاطع ليست قليلة منها ؛ الجمل القصيرة عميقة المعنى ، تحس بها جرس موسيقى محبب
من تلك المقاطع :
تبدو الحياة كلغزٍ كبير، ليس بوسعي مهما بذلت من جهدٍ أن أفكه أو أصل لعقدته، مشهد الرحيل، الطرد، التهجير، لا يزال مشهد حياتي كلها. النقطة التي أدور حولها، كل ما جاء بعده يترتب عليه، كل ما جاء بعده لا يمكن فهمه دونه. حياتنا في «تطوان» لم تكن إلا حلقات ممتدة في نفس السلسلة. "حلقاتٍ يمكن تلخيصها في منظر «كارمن» وهي غارقة في الدموع، منظري أنا وأبي سنواتٍ طويلة بمفردنا،
لقد لعبت اللغة هنا الى جانب جمالها ، دورا رئيسيا فى تلخيص الرواية ، واختزال فترة زمنية ليست قصيرة ، وصورت مشهد التهجير القسرى ، والحالة التراجيدية للتفريق وما بعده.
ومن الجمل الجميلة والتى قد تعد مأثورات ( يدى المرتعشة كانت مثل يد نحّات مبتدئ عليه ان يخلق من الحجر تمثال )
( الذاكرة اطلال والكتابة ترميم )
(هل باقتفاء الأثر تسترد الاقدام المبتورة ؟)
(الصراع بين اهل السلطة شر ، لكن الاشد شرا ان نكون حطب المجمرة ).
(الارواح بيوت أصحابها ، فإن طرقتموها ، فاطرقوها برفق ).
وهذا يحسب للكاتب ، وان كانت هناك مقاطع بها استطراد واطناب ، ومحاولة للتفسير ، والشرح ، وهى الخاصة بتحويل اسرة مانويل الى حجارة .
استخدام الزمان والمكان جاء موظفا بدرجة كبيرة ، فنجد زمن الرواية ، منذ وصية ميجيل لابنه ابراهيم بضرورة الترجمة والتدوين ، ثم وفاة ميجيل ، الى ذهاب ابراهيم لحصن التراب ودفن ابيه ، وقد عجزت عن معرفة طوله ، او كم استغرق . هل اربعين يوما ؟ ما قبل الوفاة ، ام 25عاما ؟ -كان هذا من الامور الغامضة فى الرواية - ..اما الزمن الذى تدور فيه الاحداث فهو قرنين ونصف تقريبا ، وان كانت المأساة ممتدة حتى اليوم ؛ مأساة البطش والتنكيل والقهر ، ليس من قبل المحتل المغتصب الغريب ، ولكن من القريب ، من الانظمة العميلة والتى تحكم بالنار والحديد .
المكان : فى الاحداث طاف السارد بين مدن الاندلس كونكة ، التى نشأت بها عائلة مولينا ، وحصن التراب التى نزح اليها بعض افراد العائلة طلبا للحماية والامان ، وتطوان التى طُردوا اليها .. وهناك ايضا القاهرة التى لم يرد ذكرها الا ضمنيا فى سياق الحديث عن ذهاب السارد المعاصر ، لابن عطاء الله "ذات ليلة فى منام. او صحو ، وان كنت ارجح انه فى المنام جاءنى ابن عطاء وامرنى ان ازور ضريحه" والمعروف ان ضريح ذلك الشيخ فى القاهرة ، (ابن عطاء الله السكندري (658 هـ/ 1260 م الاسكندرية - 709 هـ/ 1309م ..حسب ويكيبيديا
نجد الاسقاط الواضح على كل المقهورين فى الارض ، من خلال لفتة ذكية من الكاتب تلك المدونات / المتخيلة التى يدونها
اصحابها / شخوص الرواية .. فى مقابل مدونات رسمية مشكوك فى مصداقيتها .
ويبقى السؤال ، هل يغفل الابناء والاحفاد عن تلك المآسى التى تمتد ويتوارثها الاجيال ؛ جيل بعد جيل؟
الهوامش أو الوقفات التاريخية المنفصلة عن السرد الأصلي والتي اعتمدها الكاتب في عدة صفحات مستقلة، كانت جيدة للغاية، خاصة الاغنية الشعبية التى تلخص الفكرة
"ثلاث صغيرات مسلمات فاطمة وعائشة ومريم"
أضافت ثِقلا وزخما للرواية واتسقت تماما مع الجو العام للسرد وهذا بعكس الروابط التي ارفقها الكاتب لأناشيد صوفية أو أندلسية والتي قد تناسب القارئ الذي يقرأ نسخة الكترونية ، وليس ورقية ، ليسهل الوصول اليها بمجرد الضغط على الروابط ، ولكن حتى النسخة الالكترونية ، كانت الروابط غير منشطة .
الرواية فى اطار التاريخ الخاص بسقوط اخر الممالك الاندلسية ، وما عاناه اهل الاندلس ، ولمن لم يعرف عن تلك الحقبة تأتى شيقة ، ولكن لمتلق من النخبة المثقفة التى تعى ما الحداثة ، وتستوعب شطط وغموض أسلوبها وتقنياتها ، اما المتلقى الشغوف بالقراءة ، الذى يبحث عن رواية شيقة فلن يحتمل تكملة القراءة وينصرف عنها ، والسؤال الملح لدىّ ، هل اصبح الكتاب يتعالون على القصة او الرواية التى تقدم اسلوب يناسب المتلقى غير الدارس ، او غير المتمرس ؟! هل روايات محفوظ ، واحسان عبد القدوس ، ويحى حقى ، وبهاء طاهر عفا عليها الزمان ؟!
وفى الخاتمة اود ان اشكر الكاتب احمد عبد اللطيف الذى لا شك بذل الكثير من الجهد لينتج لنا هذه الرواية التى تدعو لتأمل ، تاريخنا ، الممتد عبر العصور ، والمقاومة بقدر المستطاع
الكاتب فى سطور
أحمد عبد اللطيف، صحفي وروائي ومترجم مصري يدرس للحصول على الدكتوراه في الأدب المقارن. له ست روايات: "صانع المفاتيح" تدرس في قسم الدراسات العربية بجامعة تشارلز في التشيك، "عالم المندل"، "كتاب النحات"، "إلياس"، "حصن التراب" "سيقان تعرف وحدها مواعيد الخروج" من بين ترجماته "مسيرة الفيل" و"البصيرة" للكاتب سارا ماجو، "قريب من الظل"، و"أحمق وميت" للكاتب خوان مياس. حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في الرواية عام 2011، وجائزة المركز القومي للترجمة عام 2013، والمركز الأول بجائزة ساويرس الثقافية للرواية عام 2015."