قبل الانقراض بقلم جمال الغيطاني*
مجلة "أخبار الأَدب"، القاهرية، الأحد ، في 28/9/2008 - العدد 794
علاء الدين الاعرجي، من مرقبه في نيويورك لا يبكي علي الاطلال، ولا يرثي الذات، ولكنه يقدم أفكارا ربما توقظ المغمي عليهم، المتحجرين الذين وضعوا أنفسهم في تناقض مع عالم لن يسكت علي حماقاتهم وتخلفهم. التقيت المفكر العربي علاء الأعرجي في نيويورك، رافقته طويلا في المدينة التي يعرفها جيدا بعد أن أمضي فيها أكثر من ثلاثين عاما منذ خروجه من العراق، فعمل في الأمم المتحدة. زرنا المتاحف الكبري، وتأملنا الكتب المرصوصة فوق المكتبات، والاسطوانات المدمجة، والمراكز الثقافية التي تعج بها المدينة. طوال الساعات الطويلة التي امضيتها بصحبته، لم نكف عن النقاش. الحديث حول ما يشغله دائما وأبدا، أزمة التطور الحضاري للأمة العربية، هذه القضية محور حياته، وشاغله الأكبر، حتي بدا لي جسدا يعيش في نيويورك، وقلبا وروحا يهيم هناك في المنطقة التي نعيش فيها وتحتدم بالمشاكل والصراعات والظروف المحيطة التي تؤدي إلي تجميد التطور الطبيعي. بل ان بلدانا بأكملها تعيش في أوضاع ثقافية صعبة، الاتجاهات المسيطرة فيها تخلق أوضاعا مثل تلك القبائل المعزولة في أطراف المعمورة والتي تعيش ظروفا بدائية، سرعان ما تعزل وتصبح مادة للدراسات الانثروبوليجية. المشكلة أن الامة العربية ذات ماض عظيم، وحضارة، ودور هام في تقدم الانسانية، لكن ظروفا تاريخية شتي أوصلتها إلي مضيق تاريخي صعب، بحيث أصبح سؤال مثل: هل ينقرض العرب منطقيا، بل وجادا. من هنا تأتي قيمة كتاب علاء الاعرجي »أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي« والذي تصدر طبعته الثالثة المعدلة، المزيدة، عن قطاع الثقافة في "دار أخبار اليوم"، وتعتبر الأولي في مصر. تأتي هذه الطبعة الجديدة لتقدم اجتهادا قيما وحقيقيا من انسان عربي مخلص مهموم بمصير أمته في مرحلة تاريخية صعبة، خاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر. يحاول الاجابة علي أسئلة صعبة، مثل كيف يتقدم العقل العربي؟ كيف ينهض الانسان العربي وعقله مكبل بأغلال الذات وقهر الآخر؟ كيف يمكن للعقل العربي أن يتجه إلي الابداع الفكري بدلا من الاتباع؟ كيف يمكن أن يتحرر؟ كيف يمكن لحالة الاغتراب عن الابداع الخلاق أن تنتهي؟ يفرق علاء الاعرجي بين العقل والفكر، ويركز علي الاسباب التي تجعل العقل العربي محاصرا. بالطبع لا يكتفي بطرح الاسئلة انما يحاول التركيز علي الحلول التي تؤدي الي تجاوز الواقع المحيط، المتخلف الذي يعيشه العرب الآن، خصوصا فشلهم بين اقامة جسر يوفق بين سلطة الاموات الموروثة، وقهر الاحياء المتنفدين وإذلال الآخر المتفوق. يواجه المؤلف هذه المشكلة بمنهج علمي دقيق، ورؤية رصينة، ومن خلالهما يقدم الحلول النظرية الممكنة. كثير من الافكار التي يناقشها في الكتاب أصغيت الي مضامينها منه مباشرة قبل أن أقرأها في صفحات هذا الكتاب الهام، في الفصل الأول المعنون »النهضة أو السقوط« يقدم سبعة عشر مؤشرا لتدهور الحاضر العربي، لو دققنا النظر سنجد أن عناصرهم مشتركة بين جميع أقطار الوطن العربي بدون استثناء، وكلها تنذر بمستقبل معتم. من هنا يبدو السؤال الذي كان يوما ما مستحيلا منطقيا »هل ينقرض العرب؟« هذا السؤال بالغ الجدية الآن، خاصة أن أربعة عشر أمة وحضارة انقرضت من قبل، كما يثبت ذلك المؤرخ ارنولد تويبني الذي رأي منذ فترة مبكرة في القرن العشرين ان الحضارة العربية الاسلامية تمر بطور انحلال. والسبب الرئيسي لذلك كما يري علاء الدين الاعرجي، خضوع المجتمعات العربية لسلطة ما يطلق عليه »العقل المنفعل« والذي يخضع لميراث طويل من التقاليد الجامدة والمسلمات التي لم تعد ملائمة للعصر. علاء الدين الاعرجي من مرقبه في نيويورك لا يبكي علي الاطلال، ولا يرثي الذات، ولكنه يقدم أفكارا ربما توقظ المغمي عليهم، المتحجرين الذين وضعوا أنفسهم في تناقض مع عالم لن يسكت علي حماقاتهم وتخلفهم. ان انقاذ هذه الامة لن يتم الا من خلال منهج واع يقتضي تحرير العقل أولا. ويحدد المنهج الذي يمكن أن يؤدي إلي ذلك. يتناول الكتاب أيضا ظروف الواقع التي تؤدي الي تجدد الفتنة الكبري كما اطلق عليها الدكتور طه حسين، والتي تطل من مرحلة الي أخري لتهدد الامتين العربية والاسلامية، وها هي تبرز مجددا من خلال الفتنة المخطط لها بين السنة والشيعة والتي بدأت مرحلتها الدموية من العراق. يربط المؤلف بين التخلف الذي يراه سببا لأصل الداء، وبين الأسباب التي تهدد الأمة، وفي مواجهة التوصيف الدقيق يقدم رؤية للعلاج ومحاولة انقاذ ما يمكن انقاذه للانقراض الذي يراه احتمالا قائما، من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب. "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل" تأليف علاء الاعرجي يصدر خلال أيام عن قطاع الثقافة بدار أخبار اليوم.
* جمال الغيطاني، صحافي، أديب وروائي بارز، أصدر قرابة الخمسين مؤلفا أدبيا وفكريا، منها على سبيل المثال، رواية "التجليات" بثلاثة مجلدات، التي نالت واحدة من أكبر الجوائز العالمية في فرنسا. وترجمت بعض كتبه إلى عدة لغات. حاز على ست جوائز عالمية. رئيس تحرير "أخبار الأدب" الأسبوعية، التي تصدرها دار أخبار اليوم القاهرية.