في خضمِّ استعدادات الاحتفال خلال موسم الدخول الثقافي، بوفاة الكاثوليكي دانتي أليغري قبل سبعمائة سنة، تبادر مجلة الحياة إلى محاورة الكاتب فيليب سوليرز، عاشق معلِّم فلورنسا الايطالية،قصد الاستقصاء مرة أخرى عن آثار عمله. مرَّت الآن سبعة قرون على وفاة دانتي في إيطاليا.
بعد انقضاء خمسمائة سنة على تلك الواقعة، جاءت ولادة فيودور دوستويفسكي في روسيا تحديدا. سواء الحقبة وصولا إلى اللغة مرورا بالثقافة، عوامل مختلفة أرست معالم تباعد بين الكاثوليكي دانتي والأرثوذوكسي دوستويفسكي. مع ذلك،تقترح كتاباتهما سبرا مثيرا للنفس البشرية وتجربة روحية، بين طيات الأوجاع والسعي نحو النور.
خلال عزِّ فصل الصيف، توخَّينا الغوص مرة أخرى في نصوص هذين الصَّرحين الكونيين، دانتي أليغري وكذا دوستويفسكي، ولايوجد أفضل من فيليب سوليرز، عاشق معلِّم فلورنسا،كي يتيح لنا مفاتيح ذلك.
يشبه مقام سوليرز على مستوى الآداب الفرنسية، مرتبة البابا،وقد هيمن حضوره على الحيِّ الباريسي ”سان جيرمان دي بري” منذ نصف قرن تقريبا. شغوف لايكلّ، بحيث أصدر مؤخَّرا تباعا ”عميل سرِّي” ثم ”أسطورة”، تحوُّلات ضمن هواجس السعادة، النساء، القراءة، والموسيقى.
نظراته متوقِّدة دائما، عبارات شرهة،نبرة صوت لاتقبل التنازل، استقبلنا فيليب سوليرز في مكتبه المكتظِّ بأيقونات عناوين منشورات غاليمار، الحيطان تغطِّيها الكتب، غاية السقف. متحمِّس كي يجعلنا نتقاسم معه قناعة مفادها، أنَّ أعماله المنجزة فترات الزمن الماضي، تضيء أكثر من ذي قبل سياق عالمنا المعاصر وكذا منعرجاته.
س- كتبتَ في رواية ”عميل سرِّي” ما يلي: ”قرأتُ دانتي، وأنا شابٌّ جدا تبعا لشغف لم ينته قط، يظلُّ هنا ماثلا تماما”. هل بوسعكَ العودة إلى أصول هذه الرّفقة؟
ج- أواخر سنوات 1950، سافرت إلى إيطاليا للمرة الأولى، حينها أحسست كما لو صُعِقْت. انطلقت يوميات رحلتي من فلورنسا، حيث يخبرني كل جدار عن آثار هذا الشاعر المذهل المسمَّى دانتي. قبل ذلك،مررتُ من مدينة رافيننا، كي أعاين قبره. أجواء، جعلتني أعيش خاصة قصة حبٍّ عارمة، من ثمَّة وَقْع تجليات انصهار بين دهشة إيطالية شخصية وكذا غرام من النظرة الأولى، بعد ذلك ذهبت كي أقطن مدينة البندقية. بيد أنّ فلورانسا، استعادتني تماما، أذكر بأَنِّي غفوت لفترة داخل معبد باتزي في كاتدرائية سانتا كروتش، فضاء يجسِّد شخصية جيوتو دي بوندي، الذي يشبهني تقريبا، حين تركيز النظر حول ملامح صورته. زخم هذه المدينة، وجلّ ماتطويه داخلها تضمَّنه أول نص كتبته سنة 1965، تحت عنوان: ”دانتي ورحلة الكتابة” نشرته ثانية مجلة ”تيل كيل”. ثلاثة عشر قرن، على انقضاء حقبة بوبليوس فيرجيل، الذي جعل من دانتي مرشده، ثم اقتضى الأمر مني سبعة قرون كي أتبنَّى دانتي مرشدا.
س- بعد ذلك التقيت جاكلين ريسيت، التي أصبحت واحدة من أكبر مترجمات كتاب ”الكوميديا الإلهية”.
ج- شخصية مذهلة ومدهشة! لقد باشرت ترجمة جديدة بلغتين لدانتي تصدرها مكتبة لابلياد أواخر شهر سبتمبر، مادامت النسخة المتوفرة حاليا تعتبر تقريبا غير قابلة للقراءة، أعتمد غاية الآن على ترجمة قديمة لهنري لونغنون. لذلك، أبديتُ شغفا عارما نحو استعادة دانتي من طرف اللغة الفرنسية. وأنا ألاحظ يوميا في فرنسا عدم سماع الناس تقريبا عن اسم دانتي. نفس الوضع يتواصل اليوم. كما لو أنَّه لم يخاطب المعاصرين.
س- مع ذلك، نجد في الفرنسية أكثر الترجمات حول دانتي. دون التكلُّم عن تأويل متكامل لـ ”الكوميديا الإلهية”، بفضل دراستك!
ج- يعود مصدر تحفيزي إلى بينوا شانتري، كي أشتغل على مختلف مقاطع دانتي تباعا، مما شكل ورشا فريدا قياسا لباقي أوراش الأدب العالمي. لماذا تمكِّننا الفرنسية من تناول دانتي بشكل أفضل؟ مجرد سؤال. نحتاج بهذا الخصوص إلى أذُنٍ شعرية دقيقة، سمة توفرت لدى جاكلين ريسيت. أما السيدة دانييل روبير، التي أصدرت ترجمة حديثة، فقد أضفت مثلا فتورا على المقطع الأخير من الفردوس (الكوميديا الإلهية): “العشق الذي يحرِّك النجوم”، بدل ”العشق الذي يحرِّك الشمس وباقي النجوم” مما يعكس طريقة إخفاء تثير حيرة العقل، بأنَّ الشمس نجم مثل باقي النجوم. خطأ فظيع يدوِّي في أُذُنِ العشق، باعتبارها الأذن المطلقة!
س- لماذا أظهرتَ اهتماما بآخر مقاطع ترانيم الفردوس: ”مريم العذراء،بنتُ ولدكَ”؟
ج- لأنَّه مقطع شعري أساسي بالمطلق. مما أدهشني كثيرا خلال الحقبة المعاصرة، البابا بنيديكت السادس عشر، الذي ميَّزته بكيفية مثيرة مع بداية مواعظه استشهاده كثيرا بدانتي، لاسيما الفردوس، وكذا المقطع الشعري المشار إليه في السؤال. حتما، هناك إعادة استعراض لتقييم الكنيسة وكذا المحاكمات التي يمكن إصدارها في حق دانتي، بحيث ارتأى عمله الإلقاء ببعض البابوات في الجحيم. لذلك، قرَّرت اتخاذ مبادرة تقديم عملي ”الكوميديا الإلهية” إلى البابا جان بول الثاني. أثارت الصورة ضجيجا لدى الجماعة المسماة بالمتحرِّرين، وقد اعتقد أفرادها بأنِّي واحد منهم.
س- بل لأنَّكَ انحنيتَ راكعا؟
ج- نعم، ذلك بيت القصيد. من هنا جاءت عبارة أحدهم: ”ألم يعلِّمكَ والدكَ عدم الرُّكوع أمام أيّ شخص؟”. أجبته: “لكنها مقتضيات البروتوكول عزيزي، هل يحقُّ لمس الملكة الانجليزية”. لا يمكننا التحدُّث عن البابا للفرنسيين، ولا الكنيسة الكاثوليكية الأصيلة، رغم أنهم لايفهمون شيئا حول معطيات ذلك المجال. لقد تمسَّكوا بإطار الدفاع عن الثورة الفرنسية، مما اهتدى بهم نحو التعصُّب إلى القرن التاسع عشر.
س- وأنت؟
ج- أنا كاثوليكي، متحمِّس للغاية! خلال فترة الشباب، تصوَّر والدايّ بأنِّي سأنتمي إلى سلك الرهبنة. لكن حدسهما أخطأ التقدير، مادمتُ صاحب نزعة تناصر أقصى مستويات اللانظام. هنا مكمن دهشتي الايطالية. أجد فرنسا في غاية الضجر، لذلك لا تتجاوب مع قراءاتي، لاسيما ماتعلَّق بالإنجيل. الكاثوليكيون لايقرأون الإنجيل، حاولوا تدارك ذلك وإن بشكل متأخِّرا جدا. هي خطيئة وجودية. يحتاج ذلك اكتشافا معينا. فجأة، ظهر دانتي ويقودك نحو الفردوس. كنت دائما مندهشا من رؤية العالم بأكمله يعتقد بأنَّ دانتي يعني الجحيم. لوحات الرسام غوستاف دوريه، وكذا برامج التلفزيون. أكَّد لي الجميع: ”الجحيم، عموما أكثر إثارة للاهتمام من الفردوس” لكن هيَّا! الجحيم يخلق الحيرة بقسوته.
س- هل تحقَّق الافتتان بالجحيم خلال القرن التاسع عشر؟
ج- اهتمَّ القرن التاسع عشر بدانتي رومانسيا، كما لو دانتي كان رومانسيا! لا يوجد حظّ إذا توخيت تناول دانتي واكتشافه ضمن إطار فيكتور هيغو. الأخير يهذي، يلزم أخذ هذيانه بعين الاعتبار. يمكن بهذا الخصوص قراءة قصيدته ”البابا”! يكشف الفرنسيون بهذا الخصوص عن كثير من الهذيان، حول التعالي، ودينهم الذي نسوه كي ينساقوا خلف حكايات صغيرة، الولادة، الموت.
س- لماذا عجزنا عن الخروج من شغف القرن التاسع بالجحيم؟
ج- لاتمتلك أغلب الكائنات الإنسانية على تجربة معينة بخصوص السعادة، الفرح، الحركة، الموسيقى، ومختلف مكوِّنات الفردوس. داخل الجحيم، أنت في السينما، ثم تخرج ثانية بانطباع مفاده أنَّكَ متخم بالصور. التجربة شاقة للغاية، لكن يصعب عليك تجاوزها !إنَّها مخدِّركَ. التخدير بالجحيم. ينبغي قصد التخفيف، عبور سبيل تطهير طويل جدا. إبداع أساسي، مذهل. من الشخص الذي أحسَّ بكونه قد اختبر تجربة التَّطهير، إنَّه صامويل بيكيت؟ في المقابل، سعى جيمس جويس رغم الصعوبات المهولة، كي يحيا في غضون صعوبات جمَّة، فوران لغة الفردوس؟ ها هو كاثوليكي متميِّز.
س- يعتبر ذلك أقل ما بوسعنا قوله. لكن ما الذي يحدث بالضبط داخل المَطْهَر؟
ج- نتيجة مايحدث إعادة تهذيب الحواس. فترة تمهيدية. تتمرَّس على الإحساس، النظر، الإصغاء، والتطلُّع. أحيانا، أنت هنا لفترة طويلة. ذات يوم، تتأتى لك رغبة الذهاب إلى الفردوس، لكن هذا يقتضي وقتا. ثلاثة أو أربعة قرون. أنت هنا عند حافة المَطْهَر وهذا ليس بالأمر الممتع. لكنَّك بصدد التعلُّم ثانية كيفية استثمار الجسد. هنا مكمن رسالة دانتي الجوهرية. كائن حيٌّ يعبُر بلدان الأموات، وهو كائن حيٌّ كما لو بعد موت: ”لقد تغيّر أخيرا نتيجة سرمديته/هكذا ينبعث الشاعر بحُسَامٍ عارٍ/عصره مذعور لأنَّه لم يدرك /انتصار الموت ضمن هذا السبيل المريب” يكتب مالارميه. إنها التجربة الشعرية،مثلما الشأن مع بودلير: ”نتيجة قرار قوى عليا/يتجلَّى الشاعر وسط هذا العالم المضجِرِ/أمُّهُ المرتعدة تغمرها الشتائم/مشدودة يديها صوب الإله كي يحيطها برحمته”. لماذا بلغت أمُّ الشاعر هذا المستوى من الفزع؟ ما فائدة الشعراء زمن المحنة؟ إنهم أشبه برهبان ديوسينوس. لا داعي إلى وجوده. لا يفزع الشاعر أحدا ! أو لأنَّ السياق يرتبط بما اختبرته الأمِّ ؟ (يستشهد ثانية بدانتي: ماريا العذراء،بنت ابنكَ).
س- مرة أخرى، تحضر حكاية الأمِّ
ج- لكن لنناقش المسألة! أليست الأمِّ بصدد أن تشغل كل المكان الذي فُوِّضَ سابقا إلى الأب؟ بالإمكان إعادة تلاوة عبارة: ”باسم الأب، الابن، والروح المقدّسة”، لن يفهم أحد مضمون ذلك. سوى إذا بلغتكَ أنوار معينة، ثم تتلو ذلك كاثوليكيا بكيفية رتيبة. ماهي حكاية روح القُدُسِ؟ بكيفية متماثلة! واقع الذَّبح نتيجة مبرِّرات من هذا القبيل !قتل وحروب دينية. مختلف ذلك توارى، وتمَّت مطاردته. لقد ظهر دانتي ثانية، لأنَّه ذاكرة مثابرة جدا. خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، أخذ التَّجسيم شكلا آخر، نعاين حاليا كيف تدبِّره التقنية، المنشغلة منذئذ بإعادة إنتاج الأجساد.
س- يسيطر عليكَ هذا الهاجس كثيرا؟
ج- أعتقد بأنِّي الكاتب الوحيد الذي اهتم كثيرا بنتائج تسليع الأجساد: ”ينبغي امتلاك نوع من الإلهام. فجأة، ينبعث دانتي كي يهتدي بكَ نحو الفردوس. أحسستُ دائما بالحيرة وأنا ألاحظ اعتقاد الجميع بأنَّ دانتي إحالة على الجحيم”.
س- معركة خاسرة؟
ج- طبعا. إلى حدٍّ بعيد. تسود بهذا الخصوص ظلامية نضالية، مابعد-دينية،رغم منجز فرويد. مسكين فرويد، لقد فعل مابوسعه!سيادة للتقنية. لذلك، يجب قراءة مارتان هيدغر، الكاتب المشهور بكونه مستهجنا، بيد أنَّه الوحيد الذي اهتم بالموضوع. تجربة دانتي تجربة جسدية، وهذا مايمثِّل جانب خلوده، معطى في غاية الأهمية. عندما نصنع أجساما إنسانية، نكون بصدد خلق كيان يفتقد إمكانية النفاذ إلى أحاسيسه الخاصة، وستحلُّ محله الروبوتات خلال يوم من الأيام. التمرُّس على الإحساس تربية نتلقاها أو نمنحها. إنَّها الطبيعة وفق المعنى الأكثر عمقا، وليس علم البيئة (الايكولوجيا).
س- لقد استعمل دانتي كلمة ”مابعد الإنسانية”. هل من ترياق ضد نزوع مابعد إنساني، يسعى إلى وضع التقنية بدل الجسد؟
ج- لا يوجد ترياق ضد هذا التسمُّم. بوسع قراءة دانتي مساعدتنا في هذا الإطار، لكن ذلك ليس بقارورة. ينبغي الانخراط في التجربة التي رواها خلال القرن الثالث عشر عن سنِّ الخامسة وثلاثين. يلزم على الأقل، أن نختبر ثانية، دعوة ملحَّة مفادها أنَّ مختلف القضايا الفورية، تغوص بك في خضمِّ قراءة القصائد! أوصي مختلف المحاورين كي يحفظوا عن ظهر قلب قصائد ويردِّدونها ثانية داخليا. بودلير: ”آه يا وجعي، تعقَّل، وتحلَّى أكثر بالهدوء. تنادي مساء؛ يترجَّل؛ إنَّه هنا”. كم هذا المقطع جميل!الذاكرة نفسها تأثرت بالاكتساح التقني. زوجتي (جوليا كريستيفا)، المهتمَّة بالتحليل النفسي، كما هو معلوم، قالت لي منذ سنتين أو ثلاثة: ”غريب، لقد تجلَّت ظاهرة أخرى جديدة لاحظتُ تبلورها شيئا فشيئا، تتمثَّل في أنَّ مرضاي افتقدوا القدرة على تذكُّر الفقرة التي قرأوها”. بالتالي، لا يتعلق الأمر بثعبان تحت صخرة، بل سمكة قرش تحت الحصى !حقيقة مهولة! أن يصبح ذلك موضوع شكوى. لذلك يلزم، الحفظ عن ظهر قلب. يغدو الماضي جديرا بالاهتمام أكثر، مادام الجميع يسعى إلى محوه. أمره مخيف، دانتي يخيف. لقد حدث مساس بالذاكرة. أفضل وضع يمكن التطلُّع إليه من لدن استبداد محتمل: فقدان الذاكرة. يبدو أكثر ملاءمة أن تحكم المصابين بفقدان الذاكرة. يسود الانطباع، بأنَّ الجميع تقريبا بصدد أن يصير كذلك، على مستوى حياته الخاصة والعمومية؟ والتصدِّي من جهة أخرى لجماعة المناضلين المتعجرفين الممتنعين عن التصويت. مختلف ذلك، يحذّر من وضع لايجرؤ أحد على إبراز حيثياته. كتَّاب الأعمدة الصحفية منشغلون جدا،وقد استهوتهم أجواء الانتخابات الرئاسية المقبلة،حيث سينتخب ماكرون مرة أخرى دون مشكلة، عكس مايتصوره الجميع. السيدة لوبين غير مرتاحة، وهذا نستشفُّه من نبرة صوتها! لقد انتهى الأمر. لكن الدعاية مستمرة. يلزم ترسيخ الهلع، الخوف، وكذا فقدان الذاكرة.
س- حضر هذا الإحساس بالطارئ لدى البابا بندكت الخامس عشر، عشية الحرب العالمية الأولى، بدعوته إلى قراءة دانتي. وأيضا بندكت السادس عشر، الذي صنَّفته باعتباره ”بابا موصول بدانتي”، أثناء ندوة فكرية في كوليج سانت بيرنارد.
ج- نعم، لأنَّه شرع في بثِّ رسائل محيلا من خلالها على دانتي. البابا المستهجَنِ، الذي أطلق عليه وصف ”الكاردينال الدبَّابة”، يعتبر حسب اعتقادي رجل دين عظيم للغاية،تستند مرجعيته على لاهوت حازم جدا. اللاهوت رائع، حيِّز لن ننتهي قط داخله من توسيع الخطى. إنَّه أكثر حداثة وأدبية من الفلسفة. ودانتي يبرهن على ذلك. انطلاقا من اللاهوت، يمكنني إنجاز أشياء سامية، بينما يعاني الفلاسفة الارتباك. تميِّزهم جاذبية، لكنهم لايمارسون غير أخلاق تطبيقية. انطلاقا من هذا الحسِّ الأخلاقي، تكتسح القنوات التليفزيونية، كما الحال مع صديقي برنار هنري ليفي، الذي يمارس الوعظ من الصباح إلى المساء، مجازفا لكن وفق سياقات محسوبة. نعيش تحت كنف التباس عام. لم يكن بندكت الخامس عشر، يحظى بالشعبية، غير أنَّه صارم. أما بخصوص ميشيل أونفري، الذي يدافع حاليا عن الأطروحة المسيحية-اليهودية، فقد اتصل بي نيتشه هاتفيا كي يهمس في أذني: “لقد أضحى ميشيل أونفري غريبا” (يضحك).
س- وليس من أجل إثارة استيائك؟
ج- لا.
س- هل البابا فرانسوا، بدوره، ينصح بقراءة دانتي. فماذا قال لك البابا خلال اللقاء؟
ج- أشعر بامتعاض من الصيغ اللغوية التي تستعمل عبارة”ينبغي”!بالتالي لو خاطبني بـ”ينبغي”، لما أصغيتُ إليه.
س- إذن كيف خاطبكَ؟
ج- ربما وفق نبرة متهكِّمة غير ملموسة: ”آه جيد، لم تقرأ بعد دانتي؟ يفتقدكَ هذا الجانب عزيزي ” (يضحك).
س- ما دمنا نحتفل هذه السنة بالذكرى المئوية لولادة دوستويفسكي، الذي تستحضرُ تقاربه مع دانتي؟
ج- يقتضي ذلك المرور من خلال تطوير بعيد المدى للكنيسة الكاثوليكية مقارنة مع الكنيسة الأرثوذوكسية، وكذا المبرِّرات اللاهوتية التي أضفت عتمة على المسكين دوستويفسكي، مثلما عكسته روايته الشياطين… بهذا الصدد، يمكن محاورة جوليا كريستيفا التي أصدرت كتابا حول دوستويفسكي.
س- لقد تقاسمتَ الحقل مع كريستيفا، بحيث اشتغلتْ على دوستويفسكي بينما توجَّهْتَ إلى دانتي؟
ج- هل يُلاحظ وجود تكافؤ مثير للانتباه!
س- ألا يشكِّل سبر أغوار الجريمة عند دوستويفسكي، انغماسا في معركة روحية؟
ج- لقد وظَّف عنوان الشياطين. ينبغي أن نتناول بجدِّية ماكتبه. فرويد، مثلا، لم يستوعبه. لم يأخذ في الاعتبار دور نوبات مرض الصَّرع في حياة دوستويفسكي: يمكن العودة لقراءة يومياته ومذكِّراته، بحيث أوضح أنَّ زوجته تستعيده يوميا من تحت الأدراج وقد أضحى تماما مضرَّجا بالدماء. كانت متفانية للغاية، نحو دوستويفسكي الممسوس نتيجة مفعول ”الشرِّ المقدَّس” التسمية القديمة لمرض الصرع. لماذا سمي كذلك؟ لأنَّه بغتة، يتهاوى جسد، لم يكن تماما نفس الجسد ويصاب بجروح! لا يتكلم دانتي عن الألم الذي يختبره فيزيائيا. عكس ذلك، بينما كان سفره مرهقا جدا– لحسن الحظِّ شرح له الشاعر فيرجيل كيفية وضع قدمه- إنَّه رياضي جدا ولايشتكي قط. إنَّه يكابد.بالتالي يعتبر بطل التحمُّل مثلما تقول أثينا أوديسيوس.
س- تعرض دانتي ودوستويفسكي، للإدانة، الأول نُفِي بينما كابد دوستويفسكي السِّجن: بأيِّ طريقة تبلورت صلتهما بالإثم؟
ج- منزل الأموات، تجربة السِّجن عند دوستويفسكي، لا صلة لها مع نفي دانتي الذي وجد ضمانات أرستقراطية جدا. بينما يلامس دوستويفسكي الامتثال.لكن ما يهمني عنده، هذا الشعور بالإثم الغريب، لن نصادفه أبدا عند دانتي، فالأخير يعتبر الجميع آثما، إلاَّ هو. يستعمل وصف الملعونين. إنَّه على مايرام مع أجساد الفردوس البهيَّة !تدرك حين الإيمان بالانبعاث، صفات الأجساد الرائعة. أولا، المجد يبعثُكَ مرة أخرى، حينها أنت نفسك. بعدها، الاسترخاء، الصفاء، الرشاقة وكذا البراعة التي تعني إمكانية عبور كل سبيل دون عائق. هكذا تتجلى صورة أجسام الفردوس. وضع، لا يعجب أو يجذب أحدا. منتهى الرشاقة والحذق والذكاء!
س- هي صفات الكاتب، أليس كذلك؟
ج- هكذا يظهر لي. إن بدا ثقيلا،سيغدو أمره شنيعا. إلقاء نظرة على الكتب الموجودة داخل مكتبي. تحضر مختلف الأسماء الجوهرية: دانتي، بروست، جويس، شكسبير، بودلير، رامبو. أمتلك مزايا، بهذا الخصوص، فمكتبتي جيِّدة التوضيب، أعلم تماما كيفية الاستمرار مقاوِما.