خلف حديقة سوق مسور لبيع الخضر والفاكهة، تطلع الحمالون بسهوم إلى حيث ركن أشخاص ميسوري الحال سياراتهم الفارهة، ذات الدفع الرباعي دونما انتظام، بمحاذاة باب السوق؛ باب واسع رحب، انحنى وانعطف، بزخارف بارزة ناتئة ومقوضة.
وبدا بعض الحمالين في العقد الثاني، اندفعوا مسرعين متزاحمين، بأجساد قوية معافاة، بقوة جياد سباق مدربة، وبوجوه شاحبة ضامرة، وابتسامة مفتعلة غامضة، أما الهرمون المسنون فقد بحلقوا بسخافة وسخرية، وركنوا إلى حدس اعتمل في دواخلهم، يعتمد في مثل هذه المواقف، موقنين أن الأشخاص الذين قدموا للتسوق، فعلا كانوا من ميسوري الحال. وحيثما راقب حارسان هرمان، دون زي رسمي يرشد إلى أن الرجلين، فعلا هما حارسا باب السوق، باحتراس وتوجس، القادمين والمغادرين، برؤوس بيضاء مشعة لامعة، وأجساد نحيلة ضئيلة.
تأهب أحد الرجلين لمنح المغادرين من المتسوقين، بطائق بحجم كف اليد بعلامة بارزة، تثبت خلو ذمة المتبضعين من الأداء، بينما تأهب الرجل الثاني في صرامة وحصافة لرفع حاجز الباب الحديدي، كلما قدمت عربة بعجلتين، يجرها شخص، أو بأربع عجلات يجرها بغل أو حمار.
وترصد الحمالون في ضجر وضيق، منذ وصولهم إلى السوق، في صباح شتوي بارد قارس مرافقين محتملين، قبل انبلاج ضوء الصباح بساعات، وبعد انتظار ممل متعب. وقد دفع بهم ملل الانتظار هذا إلى الظفر بصحبة تفي بصفقة مربحة نادرة الحدوث.
ودون جدوى في مثل هذا الخيار، ثبوت وسامة ووجاهة، وإظهار قوة وشهامة، بقدر ما يرجح مزاج صاف وفطنة وحِذْقٌ، ولم يرج أمرا سهل المنال والمقصد، بل يود صبرا ثابتا وجلدا رصينا، وقدرة تأثير منومة، ومشاكسة لا هوادة معها.
وفي حقيقة الأمر لم يكترث هؤلاء السادة الميسورين، لأمر هؤلاء البشر المخيفين السخفاء، بالقدر الذي يمكن أن يبدو معه الفرد خاضعا مستسلما، يلبي ميلا وهوى دونما نقاش ومساجلة، خصوصا فيما طُلِبَ من حاجة وما رُغِبَ في امتلاكه من خضر وفاكهة. رافضين بجهل تليد، ألفة شخص غير مرغوب فيه، يحشر أنفه في أمور لا تعنيه في شيء، دونما لين ولطف، بالقدر الذي يمكن تصوره، ولا مستعدين منح قيد أنملة من عطف لا مبرر له، لحمال سيصاحب السادة المتسوقين بعد حين في رحلة تسوق محتملة. وتعترض الحمال صعوبات جمة، وهو يُؤدي عملا بِحَذَقٍ ومهارة وثبات، وبحرص عابد مُتَنَسِّكِ، ومجاراة سادة لا مثيل لهم ولا نظير، وهو مدرك أيضا أن التمسك بأمثال هؤلاء المتسوقين، ضربة حظ لا تُأْتىَ إلا نادرا. وأن استثمار جهد مضاعف، أمر لا هَوَدَ معه، والحمال على يقين مطلق أن السادة لا ألفة لهم مع حثالةٍ أرذال.
وأنه يحرص على البضاعة، كحرص الطيور على بيوضها، وأن هؤلاء السادة لا يقبلون أن يحطَّ من قدرهم، وهم يرون حبة طماطم تداس بأقدام رعناء متوحشة، بِبُوتٍ برائحة نَتْن ٍوذَفَرٍ وعلى طريق مترب مغبر، قذر وغير معبد، لم ينظف منذ أوائل الشتاء، منذ أن انهمر مطر سريع مدرار، مَحَقَ بهاء الشوارع، وراكم أزبالا ونفايات، وأقلق حال الحمالين وأحبط من عزيمتهم، وقد تُرِكَتْ شوارع فرعية للسوق مهملة، قذرة وسخة.
وأن قدما الحمال زلت، وهو يجر عربة بعجلتين، نُضِّدت فوقها صناديق خضر وفاكهة، فتزحلقت الصناديق ووقعت بضع حبات طماطم، فألهبت سياط نظرات جامدة ظهر الحمال، وشلَّت أعضاءه، وكاد أن يغشى عليه، وسار مطأطأ الرأس كعبد مملوك، يجر عربة ثقيلة بضعف ظاهر، وأسى عميق، ووجدته كئيبا مغتما.
هطلت أمطار ندية، وفاحت رائحة طراوة الربيع وأشجار الصفصاف الباسق، وانبَثَّ شذى أشجار الصفصاف المبللة طريا عطرا، وتحت ظلالها الوارفة رقد رجل مبهور مرهق، قيل أنه ألف مصاحبة أولئك السادة الميسورين، الذين كانوا يأتون السوق راكبين سياراتهم الفارهة، ذات الدفع الرباعي، حدث هذا في أواخر الشتاء...