رسم الفنان إبراهيم شلبى
ترددت كثيرا قبل كتابة هذا المقال...عاودتنى فكرة كتابته مرارا، ولكنى تناسيتها..هذا لأنى لم أكن واثقا أننى ساتذكر كل التفاصيل الخاصة بزيارتى لمنزل شاعر الشباب أحمد رامى بحدائق القبة فى أواخر السبعينيات..لم أكن قد أكملت عامى السابع عشر..ولا أتذكر لماذا لم أحمل معى كاميرتى مع أنى كنت قد تعودت حملها فى كل مكان منذ حصولى على الإعدادية..
ربما أنستنى سعادتى الغامرة برؤية الشاعر ذائع الصيت كل شىء.. فلم أعد أفكر إلا فى اللحظة التى أراه فيها وجها لوجه..هذا الشاعر المرهف الذى كتب جل أغانى أم كلثوم وعبد الوهاب..كنت قد شاهدته مرارا على شاشة التلفزيون..لكن كان ذلك لقائى الخاص..لقاء أتاحته الظروف..أمى تقرض الشعر وأرادت أن تقرأ عليه بعض قصائدها..ظل جارا لأسرة خالة والدتى لفترة طويلة قبل أن تنتقل من حدائق القبة إلى المعادى..وبحكم معرفته بأسرة جدى اتصلنا به فأولانا شرف زيارته.
ذكريات الزيارة مبعثرة هنا وهناك ودار الحديث حول موضوعات متفرقة...صعدنا إلى شقته فى الدور الرابع أوالثالث بالبناية القاطنة بشارع (منية الأصبع)..رحب بنا الشاعر الرقيق وزوجته السيدة عطية..جلسنا فى حجرة هى أصلا شرفة تم إغلاقها وفرشها بالسجاد والأثاث..أعتقد أنها كانت أنسب مكان للجلوس فى ذلك الجو الخريفى من شهر نوفمبر..لم أكن لأدع زيارة كهذه تفوتنى...
كان قد مضى عامان على رحيل أم كلثوم وأعتقد أن رحيلها وجنازتها المهيبة كانت حدثا زاد من ولع الشباب بها ودفعه للبحث فى ماضيها الموثق واكتشاف أغانيها القديمة والجديدة..أذكر أننى كنت مولعا بمتابعة برنامج (ألحان زمان) الشهير الذى كان يُبث كل اثنين على موجات البرنامج العام..كنت اتبعه خصيصا لسماع أغانى كلثوم القديمة المنقول أغلبها عن أسطوانات..جزء كبير منها كان من نظم أحمد رامى: ( ليه تلاوعينى)، ( تبعينى ليه)، (زارنى طيفك فى منامى)، ( إن كنت أسامح) وغيرها..
كان ولعا طالما سخر منه أصدقائى..فكيف يقبل فتى لم يتعد السابعة عشر على سماع أغانى العشرينيات البطيئة المملة فى ظل شيوع أغانى الديسكو وانطلاق صيحة الأغانى الشبابية السريعة! كان ولعى بألحان زمان قد وصل ذروته فكانت زيارة رامى تتويجا لتلك الذروة.
رؤيته لم تكن مفاجأة..هو كما شاهدته وسمعته: سريع الحركة حاضر الذهن رغم أنه كان قد جاوز الثمانين..يدق جرس الهاتف مرارا وفى كل مرة تعتذر السيدة عطية عن عدم استطاعته التحدث لأحد لأن لديه ضيوف. كلهن مطربات صاعدات يهوين الغناء الأصيل ويحلمن بالوصول إلى مكانة أم كلثوم الشاغرة بعد وفاتها.
تهمس السيدة عطية: "ابتسام اتكلمت يا رامى..بس اعتذرتلها..." ، تلتفت إلينا: "بتقعد هى وغيرها يكلموه فى التليفون بالساعة..اللى عايزة نصايح فى اختيار الكلمات واللى طمعانة فى غنوة..."... أصغى إلى شعر أمى..كانت تعيد عليه المقاطع مرارا لأن سمعه كان قد ضعف..قال بعد دقيقة من الصمت: "شعر ممتاز ومعان جد عميقة..إلى الأمام..أما أحمد فلديه موهبة فى كتابة القصة لكنه يحتاج إلى دروس فى قواعد النحو..كل الموهوبين بدءوا هكذا..كنت أقضى الساعات أعدل قراءة ثومة يوم كانت مبتدئة..."
هل تفتقدها يا أستاذ رامى؟
أجاب:"إمبارح الخميس كانوا ذايعين على التلفزيون أغنية ( ليلى ونهارى).."،أشار إلى تلفازه الصغير: "كنت عايز أخش جو التلفزيون عشان أقرب منها..جاشت فى نفسى ذكريات الشباب ورجعت بى الذكرى لليوم اللى أنا وهى كنا على شاطىء (راس البر)..حافيين..قعدنا نتمشى على الرمل وبعدين أخدنا مركب..قعدت أأدف لحد ما بعدنا عن الشط..قلتلها:غنيلى يا سومة..غنى ( ياللى أنت جنبى)..قعدت تغنى..انطلق صوتها وعلا:
ياللى أنت جنبى وأنت بعيد..أشوف خيالك وأسمع لغاك
بعدك شغل بالى..تعالى شوف حالى
أصعب عليك حيران وحيد همى من الدنيا يوم لؤاك
ومتهيألى أن كل الناس على البر سمعت غناها..وصلت لذروة النشوة وهى بتقول:
(ويوم ما تيجى العين فى العين ويسلم القلب المشتاق)...
ظللنا جميعا سعداء بما كان يروى رامى...الآن تعود بى الذاكرة إلى ما حكى..تلك قصة الحب الشهيرة الزاخرة بأسمى وأجل المعانى..فهل تبدأ بالضرورة علاقة الشاعر بالمُلهمة بصورة أدبية؟ لا أعتقد ذلك..العلاقة تبدأ عادية كأى صلة عاطفية تنشأ بين أثنين..فإذا كان أحدهما أو كلاهما موهوبا مُلهما لأتخذ التعاطى بينهما منحا أخر..وهذا ما حدث بين رامى وأم كلثوم: الشاعر مرهف معطاء فياض والمُلهمة "صييتة" مقطرة بخيلة مزهوة...فهل كانت لتلهمك يا أستاذ رامى لو كانت كريمة؟
ترد السيدة عطية:" دعاها رامى للعشاء..أتذكر كان ده بمناسبة رجوعها من أمريكا بعد شفاها من الغدة الدرقية...الجيران شمت خبر والكل شافها وهى داخلة البيت عندنا..سألونى بعدها: أم كلثوم جبتلك ايه معاها؟ خاتم ذهب؟ عقد لولى؟ ضحكت وقلتلهم: لا والله بوكية ورد بخمسين قرش بس...كان رامى كريم جدا معاها..لأبعد حدود الكرم..يقعدوا بالساعات على الكنبة اللى أنتوا شايفنها دى..يقرالها ويشكلها ويساعدها فى اختيار الأبيات..."
البعض يقرأ العلاقة على أنها مطربة أفادت من شاعر مجانا ولكن جانب ذلك الحقيقة: لم يكن رامى هو الخاسرو أم كلثوم المستفيدة...لقد كان التفاعل بينهما تلقائيا..لا ينظر إليه من منظور الفائدة..المستفيد الحقيقى هو الجمهور الذى ظل حتى يومنا هذا يستمتع بتلك الدرر.. ربما تقاضى رامى أجرا على أغانيه من غير أم كلثوم ومن نسبة مبيعات شرائط أم كلثوم الكبيرة.. ولكن لم يكن حبه ليكون صادقا لو لم يهد قصائده إلى ملهمته التى وصفها أمامى بأنها طيبة القلب حافظة السر.."فلم أسمعها يوما تغتاب أحدا"...
ولكنه ربما كان يعلم أن المحبوب بطبيعته ضنينا مقطرا وربما كان ذلك جوهر الإلهام...فالمواقف التى مر بها الشعراء مع ملهماتهم تدل جميعها على ذلك.. فلو كان المحبوب معطاء سخيا لم أثار قريحة الشاعر..وقد أشارت الفنانة مديحة يسرى يوما إلى هذا فقالت أن ثومة أغضبت رامى يوما فحزن حزنا شديدا..مر بعض الوقت على تلك الحادثة وأرادت أن تصالحه وسنحت الفرصة حينما كان حاضرا فى إحدى حفلاتها..صعد إليها فبكى وبكت هى وراحت تقبل يديه..فكان مولد أغنية جديدة.. وتشير ــ والكلام ليسرى ــ أن موقفا مماثلا حدث بينها وبين عبد المنعم السباعى كاتب الأغانى الشهير.
كان السباعى الذى تلهمه يسرى قد قارب أن ينهى أغنية ( أنا والعذاب وهواك) وبقت الأغنية معلقة على "كوبليه" أخير لم تجود به قريحة السباعى.. فطلب الموسيقار محمد عبد الوهاب من مديحة يسرى أن تفتعل موقفا يلهم الشاعر..فكشرت حين رأته وتركت المكان...فصُدم وراح يضع نهاية للأغنية الشهيرة...
لولا الإلهام الذى تُرجم إلى أشعار صدحت بها أم كلثوم لمات الحب.. رفضت الزواج منه وكذلك هو لأن الزواج كان ليكتب نعى قصة الحب..كتب رامى أغان كثيرة لغيرها ولكن كانت دائما هى الملهمة..ربما كتب أغانى خصيصا لأفلام عبد الوهاب ولم يكن ليعجز عندما يُعهد إليه أن يكتب أغنية من وحى أى موقف.. فلقد كتب (هان الود) لعبد الوهاب الذى طلب منه أغنية ليصالح بها زوجته الأولى ولكن بقت (عودت عينى) وقبلها (سهران لوحدى) حبيستا درج مكتب الموسيقار لعدة سنوات قبل أن تذهبا إلى أم كلثوم..ربما أحس عبد الوهاب أن الأغنيتن لم تكنا له فأطلق سراحهما للملهمة الحقيقية...
ظل يكتب لها على مدى أربعين عاما..بدأ بالقصائد فطلبت منه أن يكتب بالعامية بعد أن عبر عن استيائه عندما سمعها تغنى
(الخلاعة و الدلاعة مذهبى من زمان أهوى صفاها و النبى)
فبدأ يكتب لها الأغانى الخفيفة الحلوة بجانب المونولوجات العاطفية حتى يجنبها الوقوع فى براثن كتاب الأغانى الهابطة الخليعة فكانت
( حبيبت ولابانش عليا ووقعت والحق عليا)..
و( صحيح خصامك ولا هزار قولى ده أنا قلبى على نار)
و( اللى حبك يا هناه)..
و(ما تروق دمك مين ح يهمك زعلان ليه)
..وظل رامى يجاهد الحب حتى النهاية... فعبر عن "حلاوة الروح" عندما قال ( جددت حبك ليه) ثم انتهى به الأمر أن أعترف أنه أصبح مجرد ( ذكريات..كيف أنساها وقلبى لم يزل يسكن جنبى)..انتهى عصر الرومانسية وتحولت أم كلثوم إلى أغانى الستينيات الواقعية (حب ايه) و(ظلمنا الحب)و ( سيرة الحب) و (فات الميعاد)..لكن أصر عبد الوهاب أن يجمعه وأم كلثوم أغنية من نظم صاحب الفضل على كوكبى الغناء..فكان مولد (أنت الحب) التى لم يقدم رامى بعدها لكوكب الشرق سوى القليل..فقرر عبد الوهاب صرف مكافأة سخية لشاعر الشباب عرفانا وتقديرا لفضله فى إثراء الغناء.
وتبقى فى ذاكرتى زيارة شاعر الشباب..فهل كانت مجرد تتويج لحبى للكلاسيكيات؟ ربما بدأت هكذا، لكن كانت تلك الكلاسيكيات مفتاحا لعصر من الفن والأدب لا يعرف عنه الشباب إلا القليل..عن طريق تلك الأغانى تعرفت على أسماء كتاب وشعراء وأحداث رحت أقرا عنهم فتعرفت بصورة غير مباشرة على تاريخ مصر الحديث.. فالفن فى كل زمن ومكان مرآة لكل شىء...ترى ماذا يقول الزمان عن عصرنا بعد مائه عام؟