صلاح فضل
المصري اليوم 5-7-2016
وسط هذا الدفق الفياض من الروايات المصرية والعربية الجديدة، لأسماء طازجة غير معروفة، تصبح مهمة اكتشاف المواهب الحقيقية، وتمييز الأعمال اللافتة رسالة نقدية، لابد أن تفسح لها الصحف والمجلات والشاشات مساحات عريضة، وتدعو لها أجيالاً جديدة من شباب النقاد المبدعين، لأن نهضة الفكر ونضج الوعى وغلبة العقل النقدى هى أهداف الثقافة الإعلامية فى مراحل البناء الوطنى مثل التى نمر بها فى مصر اليوم، والعطاء السردى الخصب المتمثل فى القصة والرواية والمسرح وسيناريوهات السينما والدراما التليفزيونية أهم أدوات تخليق هذا الوعى النقدى وتجديد الثقافة، إلى جانب الموسيقى والشعر والرسم والفنون الرقمية، وإذا كنا قد أصبحنا فى عصر المعلوماتية والتواصل اللاهث فإن ذلك قد انقدح فى أساليب الكتابة الفنية، فأصبح هناك نوع من الروايات يعتمد فى الدرجة الأولى على وفرة المحصول المؤلف من أسرار الحياة الخاصة وبواعث مظاهر الحياة العامة وقدرته على تمثل هذه الأسرار وتجسيدها وتحويلها إلى معلومات جمالية تشف عنها شخصيات تقوم بأدوار مفصلية فى تاريخ الأوطان، وهذا نوع يتميز عن رواية الجاسوسية أو التحليل الفنسى أو اللوحات الجدارية للأجيال والطبقات الاجتماعية، وقد أهدتنى دار الثقافة الجديدة رواية لم أسمع عن كاتبها من قبل وهو عمرو كمال حمودة بعنوان «السمسار» فعرفت أن له رواية سابقة وحيدة دون أن أعرف عمره أو عمله، لكننى لم أمضِ فى قراءتها حتى تبينت غزارة المعلومات ودقة الأسلوب وحرفية الكتابة فيها،
وتصورت أنه من مدرسة الروائى القدير صنع الله إبراهيم، لأن لغته البرقية وأسلوبه السينمائى الذى يكتفى بالجمل الصالحة للتصوير والضرورية للتوثيق يؤكدان قربه منه، إضافة إلى قدرته الفذة على نفث عطر الماضى بقوة فى المشاهد التى يستحضرها عياناً، فالشخصية المحورية وهى منتصر ويعمل سكرتيراً لصندوق صادرات المنسوجات أوائل ستينيات القرن الماضى قد ضم إلى أول وفد اقتصادى حكومى يسافر إلى الاتحاد السوفيتى برئاسة رئيس الوزراء ووزير الاقتصاد فيكون أول ما يضعه فى حقيبة سفره هو حذاء شمواه، لأن أحد زملائه همس له «هتكسب أضعاف ثمنه لما تبيعه فى السوق السوداء فى موسكو، ولا تنسَ أسطوانات التانجو والروك أندرول»، ولا أحسب أن المؤلف الشاب قد شهد هذه الفترة الحافلة بالمفارقات الفادحة بين التقدم العلمى للمجتمع الاشتراكى فى الاتحاد السوفيتى والحاجة الشديدة إلى ممارسة الحرية فى امتلاك أبسط السلع الترفيهية الممنوعة من الحذاء الشمواه إلى قطعة اللادن والشيكولاتة الغربية، ودأب الوفود الأجنبية الخارجية على الإفادة من هذه الأوضاع وفروق تغيير العملات، ولكنه عرف كيف يلتقط فتات الحياة المغموس فى نقيع هذه الفترة ليصوغ منه هذا المشهد الافتتاحى للرواية، بل يعمد إلى ما هو أذكى من ذلك فيجعل بطله وراويه يشغف ولعاً إلى جانب الفتيات ومظاهر الترف المحروم منها بكتاب معين يعرضه فى عدد من الصفحات، بطريقة تجعلنا نتوهم أنه استطراد لا جدوى منه، لكننا لا نلبث أن ندرك أنه يرسم فيه القانون المؤسس «لأخلاقيات» هذا السمسار الأكبر وهو كتاب «ستيفان زيفايج بعنوان (فوشيه)» الذى يحكى قصة مصادر القوة فى السلطة والمال والنفوذ، وتشكيل حزمة متكاملة من المعلومات والملفات ومعرفة نقاط الضعف وكيفية اختراق النفوس والخزائن لامتلاك الأسرار، فتعلم منه منتصر أن يدون فى نوتة صغيرة اسم وبيانات من يلتقيهم من الناس ومراكزهم الاجتماعية، سواء كانوا رجالاً أم نساء، فزوجة فلان هى مفتاح سره، والسكرتيرة فى الشركة، أو البائعة فى المحل، أو الممرضة فى العيادة أو الموظفة بالبنك كلهن عناصر لها أهميتها فى ميدان عملهن، والناس يحبون من يتذكرهم بصفة شخصية، وكما صنعت هذه المدونات الورقية مجد أهم الصحفيين والكتاب والأدباء فإنها تجعل من منتصر العنصر الذى تحرص أجهزة المخابرات على الإفادة منه ومن خبراته وعلاقاته، وهى التى تقربه من أعلى مستويات السلطة وتمكنه من اللعب معها والنجاح فى عقد أضخم الصفقات الدولية التى تقفز مكاسبها من الملايين إلى المليارات لأنها صهرت الثروة والسلطة فى سبيكة واحدة، وسرعان ما نكتشف على مدار الرواية أن هذا القانون لا يفسر حياة بطل الرواية وحده بل يلقى ضوءاً غامراً على تاريخ مصر فى العقود الأخيرة، إذ يعتصر تطور الأحداث ويقطرها بتوالى المراحل الموثقة وتشابكها مع المحيط العربى ليقدم ذوب الحياة كما شهدناها.
التدرج والمفاجأة:
للسرد منطقه ونظامه التقنى، ولا أقصد بذلك كيفية إدارة الزمن بالأحداث، ولا تقديم الشخوص بخواصها فحسب، بل أعنى كيفية وضع البذور ونمو الأشجار وسقوط الثمار، فلكل معلومة يتبرع بها الكاتب وظيفة لا يكتشفها القارئ إلا بالتدريج وأحياناً بدهشة المفاجأة، وهذا النوع من رواية المعلومات لا يناسبه سوى الراوى العليم الذى لا يُسأل عن مصادره ولا حدود لمعرفته، فهو يستغرق مثلاً فى حكاية المراكبى الصعيدى الطموح جد منتصر وكيفية زواج أبيه من أمه تركية الأصل فيتصور القارئ أنه استطراد لا مبرر له، لكنه لا يلبث أن يدرك أثره العميق فى تكوين شخصيته وشرح نهمه الشديد للثروة التى يتوقف عليها حفظ ماء الوجه أمام الأنداد، وكيف تتفجر هذه الحاجة جوعاً لا يشبعه شىء، ثم يستطرد مرة أخرى ليصف علاقة عابرة له بجارة يهودية قضى معها بعض مغامرات المراهقة، قبل أن تهاجر إلى إسرائيل ويطويها النسيان، ثم تستيقظ الذكرى لتصبح سيلفيا إحدى الأدوات المهمة التى مكنته من عقد أكبر صفقات التعامل المباشر مع العدو الصهيونى فى العقد الأخير من نظام مبارك، وهنا نتوقف عند خاصية فارقة فى شخصية هذا السمسار العجيب، فالرواية تقدمها باعتبارها شخصية متخيلة، وتحرص فى البدء على النفى التقليدى لعلاقتها بالواقع التاريخى، وتعمد إلى تحريف كل الأسماء، لكنها تنسج غلالة حريرية شفيفة من الخيال الناعم تتراءى خلفها بوضوح مذهل أسرار كواليس السلطة فى مصر خلال العهود الثلاثة لناصر والسادات بشكل سريع ومبارك بالتصوير البطىء. لا نستطيع التوقف عند طريقة تجنيد منتصر بالمخابرات ولا أسلوب استبعاده منها مع أهمية ذلك، لكننا نشير إلى لحظة فارقة فى أواخر عهد السادات عندما دعى منتصر لتقديم العون اللوجستى الضخم للقبائل الأفغانية التى تحارب القوات الروسية «التعليمات من القاهرة لشركة منتصر بنقل دبابات روسية ومدافع ميدان وراجمات صواريخ وأسلحة متوسطة وصغيرة وذخيرة لا حصر لها، أما شريكه شوكت فعليه نقل السكر والدقيق والمواد الغذائية وبقية مؤونة القبائل المحاربة، الصفقة ضخمة وحجم العمل كبير والأرباح لا حدود لها.. أخفى المكسب الإجمالى عن شوكت وهو مليار دولار» ما لم تذكره الرواية عن تلك الصفقة أنها كانت جزءاً من اتفاق ثلاثى عقد بين أمريكا ومصر والسعودية لطرد الروس من أفغانستان بتمويل مالى وتحريض أيديولوجى من السعودية - أسفر عن ولادة القاعدة وتوحشها، وتنظيم مخابراتى ولوجستى من أمريكا، وتزويد بالرجال والدعاة والمجاهدين من مصر، لكن منظور الرواية كان يغطى عمليات السمسرة التى يقوم بها منتصر فحسب، وهناك واقعة تاريخية أخرى يغلفها المؤلف بقناع روائى شفيف يمتد فى علاقة منتصر الطويلة باللواء «عبدالعظيم» منذ انضم إليه، وكان ملحقاً عسكرياً بالسفارة المصرية فى «واشنطن»، واقترب منه بشدة خلال توليه وزارة الدفاع، وجاء تمرد الأمن المركزى فى بداية الطريق الصحراوى ليجبر الرئيس على الاستعانة بالجيش لإحباطه، وهتفت الجماهير لوزير الدفاع الذى ارتفعت أسهمه فقال: «البلد لم يكن لها صاحب، والسلطة كانت ملقاة على الرصيف فلم أمد يدى لألتقطها» وعندئذ تم تدبير كمين له فى بيت منتصر صديقه حيث قبض عليه وأرسل بطائرة عسكرية سفيراً لمصر فى الجزائر.
ومن الواضح أن الإشارة هنا للمشير أبوغزالة الذى برز تحت التمويهات المختلفة، ومهما كان نصيب هذا المتخيل من الواقع التاريخى، فإن صفقة الغاز التى عقدتها شركة منتصر مع إسرائيل بأمر مباشر من مبارك قد هتكت القناع الروائى، وإذا كان ما يعنينا فيها هو قدرة الكاتب على تحويل المعلومات التاريخية إلى بيانات جمالية بإتفان تقنيات السرد الفنية ونسج خيوطه وتضفير أحداثه وتعميق البواعث وتمثيل العوالم الجادة والمنهكة فى استخدام الرشوة الجنسية والتآمرات الاقتصادية- فإن الرواية قد قدمت لنا نصاً شائقاً يستحق القراءة والتأمل على وجازته وكثافته وسرعة إيقاعه الشعرى الجميل.