سيد إسماعيل ضيف الله
التحصن بالخوف من شرور عالم عشوائي المؤلف من جيل يسعي الي هدم سلطة مؤسسة الرواية ولا يسعي الي التمسح بالشعارات والايديولوجيات المهزومة ويفجر ذاته بدون أي خجل في عالمه الروائي
يبدو أن الشباب العربي قد تجاوز مقولة كانط معرفة الذات سقوط في مهاوي الجحيم وذلك لأنهم استطاعوا أن يخترعوا من وقع معاناتهم اليومية ومحاصراتهم المستمرة وصدماتهم القومية وافتقادهم لإمكانات تقرير مصائرهم الشخصية فضلاً عن مصير أمة ـ مقولتهم الخاصة، فلسان حالهم يقول: تفجير الذات هو السبيل الوحيد المتاح للصعود إلي مهاوي النعيم بكل ما تنطوي عليه الألفاظ من تناقضات.
ولعل لجوء الشباب الفلسطيني لهذا الخيار الوحيد المتاح ـ مما يفقده معني الاختيار حقيقة ـ عملياً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ليس هو التجلي الوحيد للأوضاع العربية، إذ أعتقد أن كل قطر عربي قد عبر عن تلك الأوضاع بأشكال مختلفة تتناسب ونصيبه من البطالة والفقر والتخاذل في مواجهة الاحتلال الصهيوني واسترضاء القطب الأوحد في العالم. وفي مصر كان للرواية التي يكتبها جيل التسعينيات نصيب كبير من تلك الرؤية. والتي أعتقد أنها تؤسس لجمالية روائية مختلفة عن رؤي سابقة للذات ومن ثم للعالم كانت قد رسخت بالفعل جماليات مختلفة لطرائق كتابة الرواية لكنها تنطلق من القدرة علي الزعم بالقرة علي التغيير وإبقاء الذات في مأمن في آن. لقد وصلت مؤسسة الرواية إلي جيل التسعينيات فنظروا إلي ما تنطوي عليه من وظيفة للأدب ثم نظروا إلي أوضاعهم حيث الحرمان من حزمة من الحقوق تمثل حقوق المواطنة وشروط الانتماء (الحق في السكن ـ الحق في العمل ـ الحق في الزواج ـ الحق في المشاركة ـ الحق في الحياة.. إلخ)، فكان الاتفاق الضمني علي تأسيس جمالية تزعزع ثوابت الكتابة الروائية التي اكتسبت سلطة في مؤسسة الرواية، وذلك عن طريقة تفجير ذواتهم في إمكانية تهدد وجودهم الإنساني. ومن الطبيعي أن من أقدم علي قرار تفجير ذاته ليس بحاجة لأن يرفع أية شعارات أو يتمسّح بأي بلاغة، إذ تسقط كل الأيديولوجيات المنهزمة علي يد آبائه إذا ما وزنت بفعله، وينكشف زيف تراثه البلاغي إذا ما وزن ببلاغة الفعل. ورواية التسعينيات تكشف عن شيء من ذلك حين تظهر عدمية الرافضين للاستمرار في أدوارهم المفروضة عليهم في لعبة الحياة ، لتغدو الكتابة سبيل الخلاص الوحيد، الذي لا يجوز لأي من سالكيه الجدد التشدق ببلاغة المقاومين القدامي، خاصة أن لدي روائيي جيل التسعينيات وعياً حاداً بأن الأمور تسير بآلية شديدة وجبروت لا قبل لهم به. وأعتقد أن رواية لصوص متقاعدون لحمدي أبو جليل يمكن أن تكشف عن جمالية تفجير الذات علي أكثرمن مستوي. فمن حيث توظيف تقنية الراوي؛ نعلم أن هناك مواقع شتي لأنواع الرواة أصبحت مألوفة، وأنه ليس هناك من جديد يمكن أن نتلمسه في الكتابة الروائية يكشف عن موقع جديد يخترعه روائي اختراعاً ليُسكن فيه راويه. لكن ما تتباين فيه الأعمال الروائية في هذا الصدد هو الكيفية التي يتم بها توظيف هذا الموقع للراوي أو ذاك. ثم الهدف من هذا التوظيف في إطار رؤية الروائي للعالم. واللافت للنظر أن لصوص متقاعدون تروي من موقع محدد للراوي؛ فهو راو حاضر في القص ويروي الأحداث من داخلها. ولهذا الموقع مبرره الفني والمتمثل في أن الراوي يروي ذاته وما يحيط بها من ذوات تتميز بأنه لا يمكنه أن يكتشف ذاته إلا من خلالها، وبالتالي فإن كشف الراوي عن أية ذات من ذوات عالمه الروائي ليس الغرض منه اكتشافها أو الكشف عنها في حد ذاتها وإنما لأن اكتشاف كل ذات من تلك الذوات هو بمثابة كشف عن جانب من جوانب ذاته هو. لكن فعل الكشف هنا هو في الحقيقة فعل تعرية بل فضح ليس للذوات المروي عنها فحسب بل هو فعل فضح بنفس الدرجة للذات الراوية. وهو ما يعني أن علي الراوية أن تهزأ من الهدف الثوري المعروف عند توظيف التقليد البريختي القديم كسر الإيهام بالواقع أمام القارئ، حين توظف نفس التقنية بهدف التسلية ليس أقل ولا أكثر، إذ لا تتعدي المسألة أكثر من أنه لا يجد ما يستعين به علي وقته الممل سوي صنع الشخصيات رغم هلاميتها ومبالغاتها، إلا أنها وحدها جديرة بحل مسائلك المعقدة (الرواية ص7) وطالما أن المسألة لا تخرج عن إطار التسلية بالكتابة، فمن المفيد حتي تحقق التسلية غرضها أن يكشف لمن يتسلي معه (القارئ/المروي له) عن الدور الذي يلعبه في حدث ما، إذا ما أحس بملل فيه يتنافي مع الغرض من اللعبة يسرع بلعب دور آخر، مثلما يتبادل الاطفال الادوار في العابهم حتي لا يصيبهم الملل، وحتي لا يصدق احدهم من كثرة لعب دور واحد انه هو بالفعل، وبهذا يظهر الراوي راويا للحدث ونقيضه في نفس اللحظة ونفس الصفحة (مثال روايته لكذبه في روايته لحادثة شج عادل لرأس الشيخ عطوة تبريرا لوصف كوفتس ص 93)، ومن ثم، ليس من اهداف هذا الراوي الذي علي استعداد لأن يتخلص مما في حياته من ملل بفضح نفسه أن يمرر أية أيديولوجية ذات شعارات رنانة أو يوتوبيا جديدة تخدّر القارئ (إن وجد)، وإنما هدفه الوحيد أن يفعل علي الورق ما لم ولن يستطيع أن يفعله إلا علي الورق، وهو أن ينتصر، ويشعر بالزهو كفريسة استطاعت أن تدافع عن نفسها بضراوة (الرواية ص128). الآخر عدو جدير بالشفقة ولا يخفي أن نقض الراوي لأي مصداقية في دوره بل إدانة ذاته بوصفها شخصية متواطئة مع الآخر ـ العدو مصدر الخوف ـ في هذا العالم الروائي، هو في الحقيقة أصدق فعل فضح للمجتمع، الذي لم يعد جديراً بالثقة في مؤسساته ورموزه. وإذا كان الخوف هو الحصن الذي احتمي به الراوي ليأمن شرور العالم العشوائي منشأة ناصر ، فإنه من الغريب أن هذا الحصن/الجحيم صنعته ثقافة منهزمة لا تقوي علي شيء قدر قدرتها علي قصر أبنائها. ومن ثم لم ينتج هذا الخوف علاقة تمرد وإنما علاقة شفقة تجاه الآخر ـ العدو/الجار. والأهم أن للشفقة عند الراوي فلسفة تحكم علاقاته بعالمه لأن الشفقة عمل الكسالي الذي يجعلك قادراً علي التصالح مع مآسيك بالتمعن في مآسي الآخرين، ... الشفقة دليل القوة، دليل المنح الذي فارقني منذ فارقت النجوع فالجميع أقوي، ودائماً أنا الشخص الجدير بإبداء الأسي وربما البكاء (الرواية ص89 ـ 90). ومن ثم، رغم علاقة التوجس المتبادل بين الراوي وشخصية أبو جمال الذي تفرض ملاقاته علي الراوي أداء أدوار اجتماعية لا يرغب في أدائها، إلا أن الراوي يجد في خشونة ملامح جسده وروحه ما يدعوه للشفقة عليه، ويجد في جلافته ما يدعوه لتوطيد علاقته به. لكن إثبات الراوي لقوته عن طريق الشفقة يتأتي من لغته الساخرة من افتخار أبو جمال لوضع الزعيم عبدالناصر ليده علي قفاه، والسخرية كذلك من فلسفة الوعي القدري الذي يعيش به أبو جمال وأمثاله لتخفيف ما يحل بهم من مصائب، لكنها ليست سخرية الغرض منها كشف الراوي عن قوته بطرح بديل يمجد الإنسان ويتغني بقدراته علي صناعة التاريخ. فتتجاور سخرية الراوي مع موضوع السخرية (وعي أبو جمال الثقافي القدري) دون أن ينفي أي منهما الآخر. وبالتالي لا ينفي الراوي أن يكون أبو جمال بوصفه (آخر) يمثل وجهاً من ذاته هو (الراوي) فالبلاهة طبعاً عند أبو جمال واختياراً عند الراوي هي الصفة المشتركة بينهما جميل جداً ان أتقبل أفعاله باعتبارها أشياء لا تصدر سوي عن أبله.. أبله... أبله (الرواية ص10) بينما يصطنع البلاهة ولا ينفيها عن تعاملاته مع الآخر منذ أن سكنت في تلك المنطقة وأنا أحافظ علي نوع من حسن السير والسلوك والطيبة وربما الزهد والبلاهة.. (الرواية ص20).ومن هنا فإن فضح الراوي لشخصية أبو جمال رغم أنه فضح يطول ذات الراوي إلا أن اللامبالاة هي الوسيلة المتاحة أمام الراوي للتعايش في هذا العالم، فبنفس الدرجة التي يدين الراوي أبوجمال في مشروعه مع الدكتورة/العاهرة يدين الراوي نفسه بروايته لتفاصيل الاتفاق بين الدكتورة وأبو جمال، لكن الراوي يكشف لنا بهذه الوسيلة علاقات التجاور بين المتناقضات (مشروع أبو جمال مع الدكتورة/الرغبة في تل سيف دفاعاً عن سمعة العائلة). وتقع في دائرة الشفقة أيضاً علاقة الراوي بشخصية سيف بوصفه آخر يكشف عن جانب جديد في وعي الراوي بذاته، حيث يحكم هذه العلاقة منذ البداية تبادل المنفعة فالراوي يقدم من ماله ما يدفع سيف لأن ينقل إليه بعض أخبار أسرته ليؤمن الراوي بها وجوده في هذا البيت غير الآمن، لكن الراوي يتوجس من تطور علاقاته بسيف (المخنث) التي يمكنها أن تطيح بمجهوداته في ترسيخ سمعة طيبة له في هذا البيت. وتبدأ العلاقة في تجاوز هذا المستوي حين نفتش عن سر تعاطف بل شفقة الراوي علي سيف مغرم بالتقليب في المواضيع المخجلة، ولكنه يسدل عليها ستاراً يجعلك تشفق عليه من الخجل (الرواية ص19). فكل من الراوي وسيف وجهان لعملة واحدة، هي الثقافة الذكورية ، إذ نلحظ أن تطور التاريخ الجنسي للراوي من مرحلة التجاوزات (مضاجعة الحمارة) ثم مرحلة الازهار (الجنس عبر تخيل نجمات السينما) ثم مرحلة الانحدار (الزواج حيث اختبار رجولته المدمر لنفسيته) يكشف عن قلق بالغ عند مواجهة الآخر (النوعي) لدرجة تجعله يعتقد جازماً بأن الجنس متعة فردية فقط حيث لا وجود للآخر النوعي. أما سيف فهو الوجه الآخر للمشترك الثقافي الذكوري والمتمثل في جدة الراوي نقاوة وجدة سيف نقاوة أيضاً. وكلتاهما حارستان للثقافة الذكورية وضحيتان لها في آن، فيجمع الراوي في تجاور نتيجة لهذه الثقافة الذكورية بين (الزوج/المخنث). وإذا كان سيف قد عبر عن هذا التجاور في سلوكياته التي جرت عليه الشرور من أسرته ومجتمعه، فإن الراوي الغريب الحريص علي السمعة الطيبة يقدم بتواطئه مع سيف الحل الذي يقره هذا العالم القائم علي علاقات التجاور بين المتناقضات، وهو أن تجسيد هذا الازدواج سلوكياً ممكن شريطة أن يتم في سرية تامة. ويضاعف الراوي من جرعة شفقته التي يصبها علي شخصية عادل كوفتس الذي لا يعتبره إلا جديراً بالإهمال رغم توجس الراوي منه عندما فتح باب شقته فجأة فوجده فيما يبدو في حالة تلصص عليه، لكن عادل في وضع الأضعف حتي أن الراوي يؤكد ذلك لانزواء شخصيته عندما قرر الاهتمام به ـ بالكتابة عنه ـ أمام شخصية عامر وأبو جمال. وبنفس القدرة يشفق الراوي علي الشيخ حسن ـ الذي طرد من البيت يوم وصول الراوي إليه ـ وذلك بروايته لسره (مضاجعة حماته) بعد الفضح المتبادل للأسرار بينه وبين أبوجمال مصحوباً بسخرية مخبأة بين السطور من تحول المضاجع لحماته إلي شيخ فالحسنة في نظره حساب مصرفي الذي ينمو إلي الأبد، الحسنة بعشرة أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء... (الرواية ص48). ويسخر الراوي من تراثه البلاغي اللفظي بما يحمله من موروث ثقافي يقيم الحصار تلو الحصار حول الذات خوفاً من ممارسة الفعل مع الآخر والاستعاضة عنه باللفظ، لكنها أيضاً سخرية من الراوي لبعض ذاته الذي يتأرجح مثل الأستاذ رمضان بين النجاح والفشل حتي أنه يستعين بكتابة جمال المقدسة ليرصد تلك الصفة التي تجمعه بالأستاذ رمضان فيغدو إمعانه في محاكاة خطابات رثاء ذلك الموروث/الأستاذ إمعاناً في التشفي من بعض ذاته بل وسخرية من أحد
مصائره المحتملة. وإذا كانت السخرية تجاورها الشفقة في كل العلاقات السابقة بين الراوي وشخصيات عالمه الروائي فإن علاقة الراوي بجمال قد خلت من السخرية ومن الشفقة لتطرح نمطاً مختلفاً من العلاقة مع الآخر ـ العدو أو مصدر الخوف. وهي علاقة تقدير العدو تقديراً يسمح بإقامة اتصال بين وعي الراوي بذاته ولا وعي جمال الذي يمثل ذات جمال الحقيقية حين يخلو إلي ذاته حيث فعله المقدس وهو الكتابة . وأخيراً، يكن أن نقول إن الراوي فجر ذاته في متناقضات عالمه الروائي دون أن يبالي بمصير تلك العلاقة بين المتناقضات ولا بمصير ذاته بعد تفجيرها/فضحها، لكن من المؤكد أن الروائي قام بأداء فعل التفجير ذاته/الكتابة علي نحو له دويه.