عنوان مخادع وخيال ماكر

خلف الحجب رواية لمريم هرموش
عنوان مخادع وخيال ماكر

ليس هناك أروع من الخيال؛ والإنسان الذي يملك خيالًا رحبًا، يستطيع أن يكون متفردًا، يملك ناصية الإبداع. وربما الأديبة اللبنانية "مريم هرموش" في روايتها الأحدث، قد أثبتت قدرتها على التخيل، وأجادت في ذلك، حتى جعلت القارئ يلج معها عوالمًا ليست معهودة، وأدخلته بكل دهاء في دهاليز أسطورة شرقية الملامح، ساحرة، ذات صبغة فريدة لا تشبه إلا ذاتها.
كم كانت "مريم هرموش" ماكرة حين استدرجتني إلى عالمها الأسطوري، وخيالها الرحب الفسيح دون قصد مني، وبعد أن بدأت سرديتها الفريدة بعنوان مخادع ووصف سهل!
عنوان الفصل الأول من هذه السردية هو "لا ندرك أننا نحلم إلا حين نستيقظ من النوم" ثم العنوان الرئيس للفصل الأول "القرية التي لا تنام"! وهنا يعتقد القارئ أن الرواية لا أحلام فيها ولا خيال، ثم تفاجئه مريم بأنه يدخل عالمًا من الخيال والأحلام بديع، عالم أسطوري لا مثيل له!
بداية مريم في روايتها "خلف الحجب" صادمة ومعاكسة. تناقضات وتداخلات، لا يقف الخيال فيها عند حدود أو طبقات، بداية من الكلمة الأولى في هذه السردية الماتعة: "تخيل أنك تعيش داخل قرية لا تغيب شمسها!".
من البدايات؛ تمنحك "مريم هرموش" رخصة للغوص إلى قاع المحيطات، وأخرى لتنطلق عبر بساط سحري نحو كواكب ومجرات بعد أن تكون قد كبَّلت واقعك المألوف والمنطقي بقيود حريرية تشبه خيوط العنكبوت!
قرية لا تعرف الليل، ولم ير أهلها نجمًا أو قمرًا، لم يذق سكانها لذة النوم ولا سحر الأحلام وعوالمه المذهلة، وكلما مرت السنوات عليهم أكلت من أعمارهم جيلا بعد جيل. ومع كل هذا الخيال، تمنحك واقعًا لا يختلف عن واقعنا البشري المعهود والمُعاش. في وقت العمل "وفي القرية العمل يدوم اليوم كله، بل العمر كله، حيث لا ليل ولا نوم، يوم نهاره سرمدي وشمسه سطوعها أبدي، ومع ذلك أهل القرية يعملون بجد ونشاط، لا فرق بين رجل وامرأة، ولا كبير وصغير.
الرجال يعملون في الصيد والزراعة وجمع المحاصيل وتعبئتها وبيعها في الأسواق، وبعض هؤلاء الرجال يمتهنون حرفًا تخدم مجتمعهم وتلبي احتياجاتهم كالنجارة. بينما نساء القرية يتزيَّن كسائر النساء بالملابس الجميلة والحلي، ويصنعن المأكولات الشهية والحلوى. فتيان القرية يمارسن حياة طبيعية أيضًا، لكنها جميلة، وفتياتها يقعن في الحب، ويتزوجن، وينجبن لتستمر الحياة على غرابتها!
نساء القرية على الرغم من عدم قدرتهن على الأحلام، إلا أنهن يصنعن عالمهن السحري الجميل، الذي يشبه الأحلام؛ يزرعن الزهور، يغتسلن في النهر كالحوريات، يستمعن بشغف إلى حكايات وأساطير الجدات فتتلون حياتهن بألوان الطيف وتصبغها بالسحر والخيال!
بعد هذه البداية القصيرة؛ والاستهلال المخاتل، يتوقف الواقع عن المسير، رغم أنه خيال متحقق، وتبدأ "مريم هرموش" في ممارسة هوايتها التي أجادتها باقتدار، وترفرف في عوالم السحر والخيال، ويلتقي السارد أو البطل بشخوص أقل ما توصف به، أنها شخوص قهرت الزمن، تمردت على المكان، خرجت من سجون الأجساد، لتتوافق مع ذواتها، وتتآلف مع أرواحها.
يونس "المعمر" قايض الزمن بصوته ورجاحة عقله ليعيش أبد الدهر. رغم أن الإنسان دون صوت نابع من قلبه وعقله هو إنسان دون ذاكرة، وليس له تاريخ. فعل ذلك ليصبح معمرًا، لا يصل إليه الموت، ومع ذلك نجده ميتًا، لأنه صار هلاميًا، لا أثر له!
إن رحلة يونس في البحث عن الخلود قد كلفته الحياة دون وجود، دون صوت أو صدى، وربما يونس عند مريم هرموش، هو آدم، الإنسان الذي يفتش عن ذاته، عن كينونته، وربما أشعر أنه الخضر" عليه السلام، الرجل الذي بلغ من القوة والمجد والعمر، ما لم يبلغه أحد من خلق الله، ليس بشيء سوى بالعلم والمعرفة التي أتاحهما الله له.
في الأحلام يهتك المرء أسرار الكون، ينفذ إلى عوالم خفية، حالت الحجب بينه وبينها "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" (آية ٢٢ – سورة ق) لكن مع الأسف، كشف هذا الغطاء لا يتزامن إلا مع لحظة الفراق، حيث الموت أسدل ستائره، ونشب مخالبه الجارحة في الروح.
يقول يونس: "كل آت قد مضى، وكل ماضٍ سيعود"، إذ أن الحياة ساقية، تدور، والزمن عائد، بتكرار ممل، لا يخطئ في دورته، ولا يتخطاها إلى أخرى، وما الحياة إلا مزيج من جسد وروح، حقيقة وحلم، لا يفصل بين حالة وأخرى إلا الوعي، وأن المسافة بين أي منهما ليست إلا مسافة افتراضية.
في هذه السردية؛ صوفية شرقية بديعة، نقاء دون شائبه تعكر صفاء الروح، يحاول السارد خلالها التعرف على ذاته وكيانه، روح وعقل وقلب في انصهارٍ وتوحد، اندماج كامل، فإذا به يصبح ذرة واحدة ضئيلة داخل هذا العالم الفسيح.
تقول "مريم": "فتش عما وراء الحجب.. ما الأشياء بأشكالها وألوانها سوى حجب، فتش عما وراء الحجب، عما وراء اللون والشكل، فتش عن المعنى، الحقيقة، المغزى".
وما مفتاح يونس "المعمر" إلا مفتاح القلوب، وليست "شمس" في السردية إلا رمزًا للنور المعرفة، وما البلورة السحرية إلا أداة من خلالها ننفذ إلى حقائق العالم، ومن خلالها نرى الكون والأرض بما عليها من صراعات ودماء وظلم وقتل!
استخدمت مريم هرموش" ميزانًا دقيقًا، كي تصنع عالمها الأثيري البديع، وشكلت من خلاله لوحة سحرية مذهلة، وكعادة الأساطير، كانت المرأة في هذه السردية من الآلهة أو نصف آلهة، المهيمنة بمعرفتها، بقدراتها على اختراق الحجب، فك الغامض وفهم المبهم، امتلاك الماضي واحتواء الحاضر واستكشاف المستقبل.
سيدة النهر، سيدة النور، سيدة الحجب، حتى "شمس" التي تحولت مع الأحداث من فتاة عادية، تنتظر ليلة زفافها، إلى اسطورة، ابنة النور والظلام!
عالم ضخم من الأحلام؛ وكل الأحلام حقائق لا يفصلنا عنها إلا حاجز الأزمنة! هذه السردية الرائعة تعج بالأسئلة، جميعها ليست جديدة، وإنما هي قدم الوجود الإنساني، في محاولة التعرف على الحياة، الموت، الذات!
إن مريم هرموش" في سرديتها هذه تقدم عملًا ينبئ بميلاد روائية قادرة على التخييل دون حدود لذلك التخيل، وأجدها دون مغالاة أو مبالغة، تستطيع أن تكون "مارجريت آتود" العرب إذا استمرت بهذا الخصب وهذا النماء والعطاء، تقول مريم: "حين نصل إلى نبع وجودنا الذاتي، يمكن استجلاء سر الوجود، سنظل منقطعون عن ذواتنا، ما دامت عقولنا تشغل كل انتباهنا."
إن كسر الانتباه لا يأتي إلا بالخيال والأحلام، ولست أدري كيف استمدت الكاتبة كل هذا الخيال الخصب؟
نحن في هذه السردية، منذ الفصل الأول وحتى الفصل الأخير، لم نلحظ أن نَفَس الساردة قد غاب أو ضعف أصابه الانقطاع والوهن وتهدج. أو أن الطاقة الكبرى التي بدأت بها الرواية من تخيل نشط وصور مذهلة ومشاهد غرائبية قد أخذت في الانزواء أو الخمود عند النهايات، بل على العكس من ذلك تمامًا، نجدها نمت وأينعت وطرحت ثمارًا لذيذة! تشعرنا حتى السطر الأخير، ومع كلمة النهاية أن هناك قدرة عجيبة على المواصلة والاستمرار في الأحلام والرغبة المتجددة في السرد والتخييل!
: "أرى أنك لا تزال يا بني محجوبًا خلف الحجب ذاتها".. "حرر قلبك ينجلي بصرك.. حرر قلبك ينجلي بصرك".