عمارة يعقوبيان
الأهرام - 7 أكتوبر 2002
بقلم : دكتور صلاح فضل
يبني المبدع الكبير علاء الأسواني, بهندسة فنية رائعة, وإتقان شعري محكم, واحدة من أهم الأعمال الروائية المعاصرة, التي ستصبح كلاسيكية باستمرارها ماثلة في الذاكرة الأدبية. وهي عمارة يعقوبيان الكفيلة وحدها بأن تضع مؤلفها في الصف الأول من كتاب اليوم, بعد مسيرة إبداعية مضنية وخصبة ومتفاوتة.
يكشف علاء الأسواني في هذه الرواية عن قدرة عارمة علي تخليق العوالم الكبري, وبراعة بارزة في رسم النماذج الانسانية الأصيلة, وإضاءة المناطق الحميمة في جسد القاهرة الفاحش, بجسارة فائقة, تجسد ذبذبات الضمير الخفي في المجتمع المصري بأسره خلال العقود الماضية. وهو يفاجيء القاريء ـ منذ الصفحات الأولي ـ باكتمال مشاهد الشخوص والأماكن, واكتنازها بالتاريخ الشهي المثير, حتي تبدو الكائنات والأشياء ـ وهي من صنع المتخيل الروائي ـ كأنها موجودة من قبل, ماثلة هناك, تنتظر عصا الفن السحرية كي تكشف النقاب عن حيويتها العارمة, وعراقتها الغريبة, وهشاشتها الواضحة في الآن ذاته. يقدم لك مثلا نموذج زكي بك الدسوقي ـ وهو من أقدم سكان شارع سليمان باشا ـ جاء اليه في أواخر الأربعينيات, بعد عودته من بعثته في فرنسا. وهو يشكل بالنسبة لسكان الشارع شخصية فولكلورية محبوبة, عندما يظهر عليهم ببدلته الكاملة صيف شتاء, التي تخفي باتساعها جسده الضئيل الضامر, ومنديله المكوي بعناية, المتدلي دائما من جانب السترة بنفس لون رابطة العنق. وذلك السيجار الشهير الذي كان أيام العز كوبيا فاخرا.. وجهه المتغضن العجوز, ونظارته الطبية السميكة, وأسنانه الصناعية اللامعة, وشعره الأسود المصبوغ بخصلاته القليلة, المصففة من اليسار الي اقصي يمين الرأس, بهدف تغطية الصلعة الفسيحة. ثم يقدم لك عمارة يعقوبيان الأرمني, التي تفنن المهندسون الإيطاليون في زخرفتها, وعشرات الحجرات التي أقيمت علي سطحها الفسيح, وكأن العمارة عند علاء الأسواني قد حلت محل حارة نجيب محفوظ فجعلته يرسم لك لوحة زاخرة بالألوان والدلالات لحركة المجتمع المصري في موجاته المتعاقبة الثلاث: ما قبل ثورة52, وما بعدها حتي عصر الانفتاح في السبعينيات, ثم ما أعقبه حتي زمن الرواية مطلع التسعينيات. وذلك من خلال رصد تغيرات نوعية سكان العمارة, من أرستوقراطيين الي ضباط جيش ثم رجال أعمال.
والمثير في هذا السرد أنه ينفذ عبر تجسيده لتحولات السكان الي دخيلة الضمير الوطني وما ظل يعتريه من توترات عميقة تحول دون الانسجام الحقيقي. ولن نتوقف عند اغراء المشاهد الساخنة التي يفتتح بها الكاتب رسم العروق البارزة ـ النابضة بالشهوة ـ في جسد وسط المدينة, عبر خبرة زكي بك العريضة في مقاسات النساء بكل مستوياتهن من ناحية, ولا مجتمع سطح العمارة الذي يخفي بؤسه ويحقق وجوده بالجنس ويفاخر به من ناحية أخري. ولكننا سنتوقف عند موقف سكان العمارة من طه الشاذلي ـ ابن البواب ـ الذي تفوق في دراسته وطمح الي أن يرتقي بعمله درجات, حتي ظهرت نتيجة الثانوية العامة, وحصل علي مجموع أكبر من أولاد الكثيرين في العمارة. عندئذ بدأ المتذمرون يتكلمون علانية, ويقول أحدهم إن ابن البواب قد يلتحق بكلية الشرطة ويتخرج ضابطا, فيرد عليه آخر بأن مناصب الشرطة والقضاء والأماكن الحساسة ينبغي أن تقتصر علي أولاد الناس, لأن أولاد البوابين والكوائين وأمثالهم لو أخذوا أي سلطة سوف يستعملونها في تعويض مركبات النقص والعقد النفسية التي أصابتهم في نشأتهم الأولي, ثم ينهي حديثه بلعن عبدالناصر الذي استحدث مجانية التعليم, أو يستشهد بحديث منسوب للنبي صلي الله عليه وسلم بالنهي عن تعليم أولاد السفلة.
يمزج الراوي التقليدي, المحيط بكل شيء علما, كما يقال في علوم السرد, يمزج هذه الحوارات ويحكيها بأسلوب غير مباشر, يقدم فيه رؤية الطبقة الوسطي المصرية, التي ارتفعت بأساليب ملتوية الي مستوي سكان العمارة الطبقي, بفضل مجانية التعليم التي يحملون عليها, لكنهم يدعون الآن أرستوقراطية مكتسبة, في مجتمع متحول سريع التغيير, متعالين علي أصولهم القريبة, ومنكرين علي من يقف في أول درجات السلم الاجتماعي أن يبذل جهده للارتقاء, موظفين ما يتراءي لهم من اراء سياسية ومأثورات دينية لهذا الهدف, الأمر الذي يشف عن التقلصات الخطيرة التي ما زالت تعوق الطبقات المحرومة من التطلع الي حقوقها المشروعة بالوسائل الصحيحة, ويفتح الباب لما سوف تزخر به الرواية من عرض لأشكال الإحباط والقمع والعنف والتسلل والانتهازية التي يمتليء بها مجتمع اليوم.
كل الصيد في جوف الفرا: تعتمد الرواية في تنظيم هيكلها الضخم وتوزيع موادها الوفيرة, علي نسق التشاكل الهندسي للبناء مع التوزيع البشري للسكان, وتلعب حجرات السطوح العديدة دورا رئيسيا في تزويد السرد بعشرات القصص الفرعية الدائرة حول حيوات الشاغلين لأعلي المكان بينما يقعون في قاع المجتمع. بحيث تصبح العمارة والشوارع المفضية اليها وعاء جلديا يتم حشوه بأعداد ضخمة من شرائح المجتمع العديدة وحالات السكان الفريدة. الأمر الذي يتيح للمبدع أن يسجل بطريقة طبيعية غير مفتعلة, وبشكل درامي مثير, مظاهر التحولات العميقة في مصائر البشر والأمكنة عبر الزمن. فهو مثلا يتتبع باستقصاء عجيب تاريخ البارات وسط البلد, وعلاقتها بتطور التركيبة الاجتماعية والثقافية والجهاز الاداري لمصر في النصف الثاني من القرن العشرين, ويقدم نماذج لعشرات العاملين, خاصة العاملات, في محلات وسط المدينة, وكيف يتعين عليهن الحفاظ علي المعادلة الصعبة في الابقاء علي وظائفهن وشرفهن في الآن ذاته, مقابل ابتزاز أصحاب العمل المعهود لهن.
ويقدم بثينة نموذجا دالا للفتاة المصرية التي ورثت الفتنة والغواية والضرورة من شخصيات محفوظ في الجيل السابق, كما يتدرج مع طه الشاذلي ـ ابن البواب النجيب ـ حتي يصيبه الإحباط في حلمه بالالتحاق بكلية الشرطة, بالرغم من نجاحه في جميع الاختبارات وسقوطه المتوقع في كشف الهيئة, لأن أباه حارس عقارات وعدم جدوي شكايته الي أعلي السلطات, الأمر الذي يفضي به الي دخول كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, والانخراط من ثم في صفوف الجماعات الدينية الأصولية الناقمة علي البناء الاجتماعي بأكمله. ثم يدلف الكاتب الي صميم البنية النفسية والأخلاقية التي يقدمها فيعود ليحكي مغامرة زكي بك مع رباب فتاة البار الرخيص, وكيف سرقت بعد تخديره أثمن ممتلكاته وأهمها خاتم أخته دولت الماسي, وما ترتب علي ذلك من انفجار في العلاقة بين الأخوين التي أصبحت جحيما لا يطاق, فقد كانت دولت تعاني الوحدة والتعاسة, ويحزنها أنها تنهي حياتها بلا مكاسب أو انجازات, بعدما فشلت في زواجها, وتركها أولادها بالهجرة, وكان يستفزها للغاية أن زكي لايبدو أبدا كشيخ فان ينتظر الموت, إنه لايزال يتعطر ويتغندر ويطارد النساء. وما أن تراه وهو يصلح من هندامه ضاحكا مدندنا أمام المرآة حتي تشعر بالحنق ولا تهدأ حتي تتحرش به وتسلقه بلسانها. كانت تهاجم تصابيه ونزواته ليس بوازع من فضيلة وإنما لأن تكالبه علي الحياة بهذه الطريقة لا يلائم ما تشعر به من يأس.
كما يعرض الكاتب لجانب طريف يتمثل في علاقات الشواذ, ويقدم نماذج غريبة لهم, محللا بطريقة سردية شيقة مصطلحاتهم وهواياتهم وملابسات وقوعهم في المحظور الأخلاقي, لكنه يتورط في حديثه عن بعضهم بتبني منظور مغلوط عن قادة الفكر والثقافة في الجيل الماضي وعلاقتهم بالغرب, فيذكر علي لسان الراوي ـ وليس بصوت أحد الأشخاص ـ كان الدكتور حسن رشيد ـ والد حاتم الشاذ ـ من أعلام القانون في مصر والعالم العربي, وهو مثل طه حسين وعلي بدوي وزكي نجيب محمود وغيرهم واحد من مثقفي الأربعينيات الكبار الذين أتموا دراستهم العليا في الغرب, وعادوا الي بلادهم ليطبقوا ما تعلموه هناك بحذافيره في الجامعة المصرية. وبالنسبة لهؤلاء كان التقدم والغرب كلمتين بمعني واحد تقريبا, بكل ما يعني ذلك من سلوك ايجابي وسلبي. كان لديهم جميعا ذلك التقديس للقيم الغربية العظيمة: الديمقراطية والحرية والعدل والعمل الجاد والمساواة, وكان لديهم أيضا ذلك التجاهل لتراث الأمة والاحتقار لعاداتها وتقاليدها, باعتبارها قيودا تشدنا الي الخلف وواجبنا أن نتخلص منها حتي تتحقق النهضة. ولو كان هذا الرأي علي لسان أحد الشخوص لما كان في ذلك أي غضاضة, لكنه يمثل منظور الراوي القريب دائما من منظور الكاتب, وهو غير صحيح فيما يتصل بتجاهل تراث الأمة, فهؤلاء الأعلام هو الذين كشفوا عن القيم الايجابية في التراث الفكري والفلسفي والأدبي, هم الذين صنعوا ذاكرة مصر الحضارية, وهم بالفعل بناة النهضة لا دعاة التغريب.
وقد ساق الراوي هجاء حادا للديموقراطية والسلطة والدولة المدنية علي لسان خطيب الجمعة الأصولي الشيخ محمد شاكر الذي فتن طه الشاذلي وبارك تجنيده في الجماعة الإرهابية, فكان ذلك طبيعيا لأن هذا هو الخطاب الأصولي, أما أن يورد كلمات ادانة قادة النهضة في صلب حديث الراوي فهذا ما ينبغي أن يفطن له ويتفاداه المؤلف حفاظا علي رؤيته.
إيقاع المأساة المتوازية: تمضي شخوص الرواية بعنف, مثلما يحدث في الواقع الموار الي مصائرهم المأساوية, وقد تجمعت في شعب متوازية, فالحاج عزام الذي استأجر إحدي شقق العمارة لتقيم فيها زوجته الثانية, واشترط عليها أن لا تحاول الإنجاب منه, ينجح في دخول مجلس الشعب بالتواطؤ, ويحصل علي توكيل سيارات يابانية يدر مئات الملايين باستغلال الفساد, لكنه لا يتورع بالرغم من تدينه الظاهر عن إجهاض زوجته بالقوة وتسريحها بعنف, لأنها خالفت شروطه. والشاب الأصولي يلتحق بخلية إرهابية إثر تعرضه لتعذيب يمتهن كرامته ورجولته ويلقي مصيره الفاجع خلال تنفيذه لعملية إجرامية انتقاما من الضابط الذي تصور أنه أمر بتعذيبه, وابن استاذ القانون الكبير يرتب لاشباع شذوذه مع فتي صعيدي مجند في الأمن المركزي, وعندما يتوهم أن الحياة قد طابت في صحبته بعد أن دبر له ولأسرته مقاما علي السطوح تنشب لدي الصعيدي أزمة ضمير عقب فقده لابنه الرضيع, فيشتبك في صراع مع خليله ينتهي أيضا بمصرعه. الشخصيتان الوحيدتان اللتان تنجوان من هذا المصير الأسود عند علاء الأسواني هما بثينة وزكي بك, اذ ينتهي بهما المطاف الي عش الزوجية ـ غير المتكافئة بطبيعة الحال ـ بعد لحظات درامية لا تخلو بدورها من ريح المأساة.
ومع احتشاد الرواية بالمعلومات المشاكلة لما يحدث في واقع الحياة فإن مناخ الأدب الطبيعي الحافل بالمصائر السوداء يسيطر عليها, وينفث فيها منطقا قدريا يجعل الشخوص تتحرك مجبرة في سلوكها, ويجعل القاريء مقتنعا بحتمية نهاياتها المبررة, مما يحيلها في آخر الأمر الي أن تصبح شهادة شامخة وقاسية علي تحولات المجتمع المصري في العقود الأخيرة.