حزناً و جزعاً
على موتها أغني ..
وميض خاطف يلفني ، يحاصرني ، يكاد يسقطني أرضاً ، يخنقني ، طيف لسماوات عظام يظللني ، يخطفني بعيداً و جسدي يرتشف غيوم المكان ، ضجيج يعمر الصالة التي انحني في جذعها ، جلبة نساء فاجرات تضرب جدران رأسي ، همهمة لفتيات يافعات في انتظار الرقص على تهاويم الميت ..
في صباي كنت ساذجاً كما أنا الآن ، لكنني اللحظة أشد من ذي قبل ، لم أدر كيف أفعل في هذا الحصار ؟ فلم تكن الجلبة وحدها التي تخنقني ، بل صوت أخواتي من حولي أيضاً ، و زوجتي التي تجلس بقربي هنا ، ساعة كئيبة هذه التي تزورني . اليوم بت مدركاً أنه عام الحزن و الجزع .
و على موتها أغني ..
في الصالة ازدادت حدة الهمس و الصفير ، ازداد الفزع و الخوف ، بدأ الصوت يأخذ ارتفاعاً شاهقاً كأعمدة النور باسقة ، وقفت النساء واحدة تلو الأخرى للرقص على جسدي الميت ، و عبر شقوق الألم أنتصب تائهاً ، أبكي فزعاً على موتها ، أصرخ علّني أتيه في ومضة وجهها الغجري .
أدندن ..
يوماً كنت صبياً ، و كانت هي كذلك ، كنت ساذجاً ، فجّاً و لم تكن مثلي أبداً ، تبعتها فاختبأت فأدركت الفرصة ، بحثت عنها ، تهت في دروب المخيم ، أزقته التي لا تعرف الاعتدال ، و في ثنايا الكون الرابض بي وجدتها ، عثرت عليها ، أهديتها خاتماً ورثته عن أبي ، ثم اختفيت و اختفت ..
و عدنا نبحث عن كلينا ، تهت في دهاليزي ، و لم أهتد إليها ، جلت دروب المنافي ، مردوانات السجون ، مشرداً مطارداً كما أشقائها الذين كانوا حلقة الوصل بيننا ، و حين عدت كانت قد سافرت مع الضباب و اختفت .
شبق الموت يأرجحني ..
في صباي الساذج كان وميضها يلفني ، يخطفني من بين فلول الأطفال ، نجري ، ألطمها على خديها كما كان يفعل أبي بأمي ، أصرخ بها كما يفعل بي إخوتي الكبار ، و تصبر ، ثم تهرب و أنا أتوسل إليها بأن تعود ، أرجوها أن تمكث معي على تلال الرمل الأصفر لكنها كأن لم تسمعني ، و في الصباح تعود ، نلعب فيتكرر المشهد من جديد ..
و كانت قد تزوجت ..
هكذا دون أن أعرف ، دون أن تخبرني ، و دون أن اصفعها كما كنا قبلاً .
وجدتها تسير مع رجل أنيق ، شاربه كث غير مرتب ، كان يذكرني بأبي ، بأمي التي كانت تكره الشارب الذي طلّقه أبي مئات المرات ، و على شاربه كانت تنكفئ ، ضخم كما سرير الموت خاصتهما ، رأيتها و قد كانت تحمل الرضيع بين كفيها ، يغني و يبكي ..
أغني و أبكي ..
رأيتها و لم ترني بداية الأمر ، لكنها عندما أدركتني ، تشممت عطر الماضي ، مساحة البوح فسقطت أرضاً ، لحظتها لم أعرف كيف أفعل ؟ هربت ، نعم هربت أبحث عن مأوى ينجيني من هول الكارثة التي طوحتني .. كيف لي أن أنساها بعد ذلك ؟ و نسيتها ثم عدت .
و على موتها أنتهي ..
عندما ولجت منزلي وجدتها منكفئة على وجهها . ارتعدت فرائصي ، هوت بي الدهشة ، هل هي حقاً أم أنها ضرب من الخيال ؟ و لم أكن اعرف أنها قد أغلقت قلبي بمفاتيحها الجميلة ، حلمت بها ليلتها كما رأيتها لكنها كانت بغير ذلك الخاتم ، صعقت و لم أسألها عن مكانه .
استيقظت من نومي و كان الخاتم في يدي ، أعطيته لمجنونة جديدة تجلس بجواري الآن ، و في الصالة مع جلبة النساء سقط الخاتم أرضاً و سقطت معه أحلامي القرمزية ..
أغني ..
كانوا قد جاءوا بها جثة متفحمة ليلة أن فكرت بزيارتهم مع والديّ في المساء ، ولجت الحارة الضيقة . كانت حدة القصف تروع السكان جميعهم ، سرت تجاه الطريق الترابي الغائص بنفايات المخيم ، و هناك كانت الجموع ترفرف حول أقبية الثكنة ، سألنا و سألت عما جرى ، ثم فجأة سقطت في موتي ، إغفاءتي التي طوحتني أرضاً ، كأنني لم أع ما كانوا يقولون ، سقطت أرضاً و أنا أسمعهم ، كان أحدهم يصرخ و قد غسل العرق جسده كحمامة طاهرة تغتصب السماء : لقد تهاوت مع صاروخ غادر صفع شارع المخيم بأكمله .. و انتهي مع الغبار .
****
ميت أنا
لكني على موتها سأظل أغنّي
و أغنّي
و أغنّي ..
16/ 11/ 2005
على موتها أغني
بقلم: يسري الغول - في: السبت 18 نوفمبر 2017 - التصنيف: قصص
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...