بحجم حبات الرمل ، غالباً ما يتقلص بنا المكان / يعّصرنا / لنكون خارج حدوده .. متمردين على أنفسنا …لذا ليس أمامك بد من خوض إنكسارات أخرى بصهوة من غير جواد ..!
كم من الزمن المخنوق يلزمك للتقدم إلى الخلف ..؟ لنفي كل ما هو مهم لغيرك ..؟ فيما لو كان بمقدورك ـ قبل ذلك ـ حرق نهاياته التافهة ..!
كم يلزمك لنتفق .. أو لا نتحد .. لنهزم أو لنكون خارج فقاعة الجنون ..؟
أعتقد تلزمنا / فكرة / بها ، نختصر الأشياء ، أو نختّصر نحن لتعدّ الأشياء بلا معنى .. ! ما يلزمنا كي لا ننظر مطلقاً ـ إلى الخلف أو إلى الأمام ـ ..؟ حتى نخرج من حدود المتاهة فنتمحور ـ بالفكرة ـ بغير علل أو معطيات أو مبرارت ..؟ فأيّ طموح لتحقيق هزائم أخرى ، ربما سيكلفنا ـ الفكرة ـ أو ربما تمرد حقير للزمن .!
فيا سيدي ، ربما سأعاني كثيراً لجرِ قناعتك صوب مآربي ، لكنني متيقن من رغبتك في ترك جسدك ، لتتطهر في أهدافك المجهولة … عَلّنا سيدي من هذا نؤسس في ألاّ كَوّن حجراً ، جحراً لإيواء مَنْ سيقودهم فضولهم صوب ضالتنا .
دعوتي يا صديقي تتلخص بقدرتنا على حرية اللعب بالقرار .. بحرية الرحيل في اللازمكان . دعوتي أن يَدَعونا نقرر أن نكون طفلين للحظة .. حيث كل الأشياء بلا معنى والحروف تنطق ـ بلكنة ـ
دعوتي ، أن نتسامى خلسة ، دون بكاء أو بقايا ذكرى سقيمة .. بغير آثارٍ قد تؤدي بفضول الكلاب لتحطيم صومعتنا الجديدة ، لا نريد لغير دقائق الرمل ـ من فضل علينا ـ حتى لا نكون مدينين لأحدٍ .
… فأنا جمعت تاريخي ، فأخنق أبطالك داخل زجاجة حامض النتريك … أنا جمعت ذكرياتي وأحرقت كل نياشيني ، وصلبت جميع بطولاتي ـ بل هزائمي ـ فاصلب سيدي نساءك أو أطلقهنّ للتيه ، فبدونك لن يَعدّنّ نساء ..! لملم شظايا ما كتبت من قصائد ، ففي مدينتي لا حدود للشعر … أنا جمعت مفرداتي ولّحفّتَ أبطالي بغطاءٍ ثقله ( ألف عام ونصف ) .. بدموعي محوتهم ، من صفحات البلاذري ، الطبري ، المسعودى ، أبن خلدون .. فلم يعد بمقدورهم بعد الرقص على جروحي أو أن يحاصروني مرة أخرى ، أو يمنعوني من شطب وثائق تموز ( 1878 ) بل سيكون بمقدوري التبول عليها .
.. لأنني أرفض رمينا خارج حدود الأرض .. أن نذبح .. أن نتعفن بلا سياجات وأسوار ، أو أن يصادروا سحبنا ، بل سمائنا .. أن يحجبوا عنا وجه أرضنا بغير غطاء .. أن يصادروا صورنا من بطاقاتنا الشخصية .. سأرفض أن يستبدلوها بصور من / العولمة / السوقية / .. أرفض أن يجروا من أحضاننا أطفالنا ليسوقوهم إلى المجهول بغير آثارٍ للطعنات ..! أرفض أن يسرقوا منا عذراواتنا ليعلقونهنّ من جدائلهنَ على سماء سطوحنا ..!
سيدي ، لم يعد بمقدورنا وسط هذا الضجيج ان نتطلع أو نحفر على جدران صمتنا حرفاً ، إشارةً .. ليس بوسعنا أن نحلم بعد بقيلولة بلا قرقعة أو طرقة باب .. لم يعد بوسعنا بعد أن نضحى أبطالا ، بعد أن أزدحم العالم بأبطالٍ من ورق ، أو صفيح ، أو حجر .
فأطلق العنان لأفكارك ، تسلق الفراغ .. هَلمّ لنبدأ من الركام / للترفع ، الرقي / داخل أغوار الأرض … قد يكون فيها عالماً آخر ، مجرة ، قمامة ، جَنة ، أو قيامة .. لا ضرر أن نخسر ، ننكسر ، فأننا في الغالب كنا نحن المـ ….
لذا لابد أن نعد نهاية لكل هذه المعاني المحشوة بها خزائن أحشائنا .. نهاية بلا ضجيج أو بكاء ـ بغير آثار ، أو ما تيسر من سورة ( يوسف ) .. نهاية بلا علامة تعجب أو استفهام .. طالما أن كل ما فينا يُعد من ـ العدم ـ سلفاً .!
فعذراً إذ أستخلص لك منها ما يجعل إيقاف ارتعاد الجسد خوفاً ، أمراً مستحيلاً ، بيد إن الموت من أعلى مراتب التجلي .. غير أننا لا نعتقد به إلا لأنه حالة فناء وليس سيرورة ، لكنني موقنٌ بأننا سنحيا عالم مليء بالسحر والسخرية .
وقبل أن ـ نتحول ـ لابد أن نختار مقبرة تليق بسيرورتنا هذه ـ ربما لغرض المشاكسة أو الغيرة أو الفضول ـ خُصّ بها المتنعمون سلفاً .. الذين سيخلدون مترفين .. بنومهم الأبدي مترفين .. بيوم حسابهم سيكونوا أيضاً مترفين .. حتى أنهم سيدخلون الجنة قبل الجميع ، ربما لأن أقدامهم وأطراف أناملهم أنعم من الحرير ، وأرق منه .. فلربما سنحشر معهم سهواً ..! فنحقق رفعتنا المرقعة .
للتحول هذا يا سيدي ..
نحتاج إلى عدة للعبور ، وهذه لا تتعدى غير جرعات صغيرة لا تنفق بها الأجساد ، بل وحدها الروح ستتسلل خلسة إلى الفراغات أو المتاهات ، بلا وجل أو خوف .. ذلك بعد أن نحفر حفرتين صغيرتين جداً كي لا يدركها المتطفلون ، سنحشر فيهما بجسدينا قبل جرعة الرحيل ، وما أن نشعر بدبيبها يغزو ببطءٍ جسدينا ، سنهيل عليهما ما تبقى من تراب ، عندها سنتوغل بلا ألم أو حزن ، سنتسرب مثل طيف بغير حنين أو ذكريات أو أنين …
ـ هل أنت مستعد ..؟ إذا كنت كذلك فليس من ضرورة أن تودع أحداً .. ! هَلمَّ ..
… موت …
… كعادته عند كل صباح ، كان يتفحص شؤون المقبرة ، بعد أسئلته المملة عما هو جديد . فينتهي إلى نزهته الصباحية بين القبور ، ربما ليعدها ، أو ليلقي التحية على بعض منها ، لكنه أعتاد سماع صراخ المحشورين تحتها ، بينما كان يشاكسهم بطريقته الخاصة … حيث يدوس رأس هذا ، أو يسحق أطراف آخرٍ . فكانت شتائمهم تخترق سقوف قبورهم لتصل سمعه ـ فيأخذ يقهقه لتصريف غازاته المحتبسة داخل كرشه المتهدل .. وغالباً ما كان يتبول وسط أحضان بعضهم ، وكم تمنى أن يكون بحجم استيعاب عربات الإطفاء ، ليعفر الجميع ببوله .
العاملون / المضغوطون / بين أحضان المقبرة ، تجمعوا لحظة صراخه .. وبعد إن نفى الجميع ، موت أيّ شخصٍ ليلة أمس ، طلب إحضار جميع صحف الصباح ، حتى تلك التي تصدر خارج الحدود .. ولأنها لم تسجل موت أحدٍ ما أيضاَ .. أمر بجمع كل محرري نشرات الأخبار في العالم ، فصفوا داخل مذياعٍ صغير مصاب بالرشح .. لينفوا موت أيّ أحدٍ ..!
استطاع برشاقةِ محترفٍ أن يربط أُذنيه بشبكة عنكبوتية ، فيؤسس اتصالا مع / المستشفيات / دور العجزة / الحانات / المطافئ/ دور العبادة / دوائر سباق الخيل / قاعات الروليت / أماكن تجمع المجانين / السجون / المجلجلون خلف الميكرفونات / القابعون تحت أرصفة الشتاء / …. لينفوا موت أيّ أحدٍ أيضا …!
فصاح بصوت آمرٍ ـ مما حدي بالأموات ـ ممن دفعهم فضولهم للخروج ، بالعودة إلى بيوتهم الأبدية خائفين ـ بنبش الحفرتين .. أو بالأحرى الثقبين ، وإلقاء محتوياتهما إلى حاوية القمامة .
.. بزهو قال :
ـ هذان ، ليس غير جرذين ، تافهين ، قادهما طموحهما ليفسدا هذا المكان ..
من مكان ما ، ضحكنا عندما لم يجدوا داخل الثقبين غير لوحٍ يقول :
( ـ فلنعذر ، الموتى
هم لا يسمعون ..
إلا شجار أقدامنا ) (1)
(1) الفجيعة أول الرأس : مجموعة شعرية / ماجد الحسن .