الاعتراف الأول : أحبك ولا اعرف إلي متي سأظل كذلك !!
وهأنذا .. أبدأ حيث البدء والجدل المستمر بيننا , وصراع مستحيل بين رجل وامرأة .
وأبدأ ..
بالرجوع إلي وجهك الطيب , إلي حيث تمتد نظرتك علي السحاب الهارب في الأفق . علي رخات المطر في الليل الحالك, علي ظهر نهار ينداح. ونجري ننشد همس الأشياء حولنا. كنا نعرف حجم الخوف المستبد من القادم فوقنا الذي صار شجرة ضخمة مهيبة.
وهأنذا أبدأ..
بالرجوع إليك واضعا أمام عينيك بياض العالم.
وأشراقة الصباح, أيام المدرسة الابتدائية \ هرج الأولاد \ دقات الجرس وقت الدخول للفصول. طين الفناء المتعلق بأحذيتنا, هواء الصباح البارد. والفسحة الغير كافية للجري علي الرصيف المحاط بصور عال. ومُدرسة الحساب تسأل في جدول الضرب وتضرب الدرج بالعصا القصيرة ولا تبتسم أبدا
أستاذنا السمين يسألني في جمع المؤنث السالم وجمع التكسير. وأنت تبتسمين وتضعين يدك علي فمك, وأنا أقف مربوكا.
ولكنه كان يحبني ويعرف أني أعرف.. ولكني مرتبك..
ولا زلت أشم رائحة الصور الصغيرة التي تتراجع بذاكرتي قفزة للخلف عشرات من الأعوام التي مرت إلي موطن الحروف الأولي. ذلك الطين الشامخ وفناء المدرسة الواسع واحجية الطرقات ورخات المطر في الصباح في قريتنا الهزيلة.
والبيوت التي تميل علي بعضها, كان كل شيء ينداح ويصنع الشقاوة السعيدة, اليد المرتعشة, والصوت الواهن المتقطع , وأزمات الربو المعتادة في صدر أمي تنهش فيها دون طائل لأبي علي علاجها .
ذكري مبهمة بين العقل والجنون, تمزجها رهبة الصدمة بالعجز عن فهم الفارق بين يد أمي ويد هذه المرأة التي مسحت بأصابعها علي شعري واستقرت شفتاها علي ابتسامة ثابتة مصنوعة لأجل أبي.
كانت تلك الصرخة التي شقت صمت الليل ومساء حزين متواصل قسمته نصفين, نصف لنا ونصف علينا, لون العباءة الأسود, النسوة الجالسات طوليا في أسي فوق قش الغيطان الجديد. وهن يلكن النميمة في أشداقهن, كان كل شيء أسود ومزدحم وممتزج ببقايا الدموع المالحة, الحارة, ذوات أسباب مختلفة والرجال المتواطئون مع الحزن العميق يبولون علي صوت أبي الصارخ وعينه الناحبة المحمرة وهو يضمنا إليه,
هازئين من رجولته المنهارة حيث بريق الموت الخاطف. لما قال لي: هم لا يعرفون دفء الليل وقسوة البرد وليالي الوحدة بدون جليس. في البداية مرت المرأة فوق ظهري بيدها.
وفي اليوم التالي تفحصتني بعينيها وتكارهنا بسهولة.
بعد ذلك صار كل شيء في مكانه الطبيعي.
وان كنت قد بقيت عاجزا عن فهم الفارق بين يدي أمي ويد هذه المرأة. أحمل الكتب الصغيرة وأمضي بشارع البلد الكبير.
فيزدحم برأسي الضجيج كي تصير رخات المطر عناقيد من الورد الملون أضعه علي كتفيك الصغيرتين. كي تتسع الألوان باتساع السماء الزرقاء جسدي, ومحاولة الدفء التي استحث بها جسدي , وتمرينات الطابور الصباحية وأناشيد الطفولة البريئة الخالية من أي تعقيد . وأمي التي راحت وأنت التي جاءت , كي تسكن دهشة اكتشافنا لكل ما حولنا .
فأظل حبيس غرفتي وذاكرتي , كأنني بالأمس , وأمزج الاتجاهات , وأعيد تشكيل المكان ثانية .
الاعتراف الثاني :
"لا أستطيع الهروب من غباء الذاكرة , حيث أن لحظة الحاضر عارية من أية تفاصيل . فيا من أنتظرك .. تعالي ."
الشموع مضاءة في أركان غرفة يقتحمها الهواء البارد . والصمت يفتح مصاريع النوافذ علي آخرها ليرتطم الزجاج بالحائط . السرير بارد ومتخشب , الأوراق الكثيرة تتطاير في فوضي مبهمة وأنا أحاول استعادة وجهك الطيب . أصبحت عيناك من المستحيل !!
تلفحني البرودة القاسية التي كنا نحبها في صباح كل يوم ,
ينتفض جسدي مرة واحدة ويخرج الزفير الساخن .
وهانذا ..
أجيء إليك كي أعيد بك براءة الطفولة وسذاجة الصبا , ونحن نلعب بالكرة الشراب علي الإسفلت المضيء بلمبات الفلورسنت القوية أمام بيت الباشا القديم . ورغم أنه بيت قديم مهجور ألا أنهم وضعوا الإضاءة هناك .. وهناك فقط .
في أيام الشتاء التي ولت في بلد مزدحم بالتوتر والقلق الكامن في خلايا الناس , والمطر ينزل بروعة يصف كل شيء في دقائق . كنا نحب المطر ونستلذ حرارة الحطب المشتعل والدخان الدائري يصعد لأعلي ونرتكن علي أحد الجدران والسماء تطرقع والغيوم تركض في السماء . ونحن بانتظار البرق والرعد الذي يخيفنا ويبهجنا . لا نخاف ولكنا نبتهج من خوفنا حين العجوز يحدثنا عن الجنيات .
وعن أيام زمان وقصور البشاوات المسكونة بالأرواح . ونستلذ الحكايات والمطر ولكنه يضحك لأن امرأة الباشا طلبته مرة لينام معها لأنها خائفة . كنا نحب العجوز والحكايات والبيوت القديمة , حتى بيت الباشا المهجور الذي كنت أحلم أن أبني لك مثله , ونسكن فيه معا , نركب الخيل ونرمح في الوديان البعيدة
أنت قلت لي : أريد حديقة صغيرة وطيور أربيها بالبيت .
وقلت : مزرعة كمزرعة الباشا .
وأنا وأنت لم نر الباشا ولا امرأة الباشا ولكنا سمعنا العجوز . والعجوز لم يكذب , ولكنه كان يضحك وهو يتذكر وجهه المليء بالتجاعيد لا يعبر عن شيء سوي العناء المستمر .
عيناه الجامدتان الحادتان . كان فيهما الزمن القديم الذي عنه نبحث . فيهما القهر الذي حدثنا عنه باقتضاب وغضب وهو يعصر الحروف ويمضغ الكلمات , ويتغير لون وجهه ولكنه في النهاية يتنهد عميقا ويقول : أيام ..
تمارين الوجع ..
هأنذا ..
أبدا .. في تكوين الثروة . المال الذي كنا نعاني من عدمه .
ونحن ننتقل من مكان خال إلي أخر مليء بالبشر ,
وأنت لا تعرفين من أين أتي بالنقود التي تجعلنا نجلس بمكان ما
نتبادل فيه النظرات ولمسات الأيدي المشتاقة الخائفة والمحبة للحظة واحدة للأمان .
رغم أني لم أكن أعرف الفارق بين يدي أمي ويد هذه المرأة .
وأنت لم تسأليني ولكن بعيونك المجهدة سؤال لا يغيب .
والارتباك في خطواتك ولفتاتك أعرفه , حين أخرج من جيبي الجنيهات القليلة أشعر بقدميك تتثاقلان , وجسدك يلتفت إلي بود أن ينطق ولكنا نمضي نبحث أمرا آخر أهم . هو إحساسنا الذي تغير عن الأمس وعتابنا المستمر لأني تأخرت عن الميعاد أو أنني أهمل مشاعرك . ودوما أنا وأنت في غياب , نتباحث في أمور تدل علي أننا كنا نفكر كل منا في الآخر معظم الوقت . وأسألك عما تبقي معنا من نقود فيحمر وجهك خجلا وأنت تضعين في يدي العملات النقدية المخصصة للاتصال بالتليفون
إذ حدث أمر غير طبيعي بالخارج .
ألازلت تغنين علي شجرة الحلم , وأي حلم ذلك ,حين تصنعين من الأزاهير قرطاسية لذلك الموت الجميل . ذلك الموت الذي لا يشبه شيئا إلا الفناء .
وكم قلت قبلا : " لم يكن بينك وبيني بين ".
كانت تبتدع لحظة تستقر فيها ثواني العمر الذي يهرب ناحية الأوليات وباتجاه الخريف . حاولت أن أوقف كل هذا النحيب المستمر والدموع التي لا تتوقف عن النزيف , امتدت يدي بإرادة صادقة ناحية جفنيها ولكنها تراجعت في اللحظة الحاسمة . الآن لم تعد تغني مثلما كانت ولم تعد تبتدع اللحظة . رغم أنها هي نفسها التي تستقر فيها ثواني العمر . ورغم النحيب المستمر , ومع كل ذلك لم يعد شيء كما كان , الأيام تتوالي , والسبت يجيء والأحد والاثنين والثلاثاء ..
يتكرر نفس المشهد ونفس الدراما اليومية , وصورة أمي أمامي بوجهها الريفي الأصيل .
والجمعة هي الإجازة الرسمية والخميس نصف يوم ونفس الشعور يعود ويفرض احتياجات لا تنتهي .
يمزق بقايا ساعات مهزومة تسبح ببطء في أعضائي , تستحل المسافات ياقوت حزني . أتذكر عيني أبي الباكيتين وأنا في ضجر من كل شيء . اهرب ويجيئني صوتك في الفراغ والجبال والوديان والأعماق السحيقة , أتسمع رجفتك وهوانك في الليل البعيد .أية صحراء تلك التي تميد اشتعالك , يغطي فراغها علي ضجيجك , يمنحك لهيبا فتورا واحباطا واسي .
بورتريه للغناء .....
وكنت تسألني عن القادم , وتسألني عن الشارع والسيارات والكتب والعذاب الذي يستلذ بوجوده فينا .
تسألني عن كل شيء وأي شيء يخطر علي بالك والروايات كثيرة والحكايات أكثر , وصوت الفراغ صوتك واحتباس الرياح لا يعني أنها تمتنع . تلقي بي في أي قاع , أي بئر وأي فزع أنت أيها القادم المجهول . أي أنين يحيط بتجويفي ليصنع مسارات الوهم وآبارا من الحزن العميق.
كحزن أبي علي أمي كل ليل حين النوم وحين الدفء المستحيل في ليالي الشتاء العفية . والعجوز يحدثني عن الجنيهات والبشاوات كي يتساقط الخريف بين قدميك يداعب أوليات الملل رغم أنك مشبع بما يشبه الكحول في دوران الرأس , تستقر في عينيك نفس النظرة النائمة وكأنك تضيق من الغيم . تبعث للمدى برسائل مجهولة حتى منك , أي مزق يمزق السحاب ويعيد الخريف إلي بساطته المعتادة , يعيد دورة الشعور إلي مجراها الطبيعي . أنت تمزق النحيب وتسال السؤال ولا تعرف أية أجوبة !! تضيع في متاهات , العجز عن الإدراك , وهي قد رحلت . ذهبت بلا عودة ذلك اليوم الذي أصبح بعيدا جدا . وأنتم في اشد الاحتياج للدفء , تحتضنها بروعة خالدة , تستبيحك يدها وهي تمررها علي كتفك وتغرق مرات ومرات في الفزع الهائل لتتركها وترحل .. أرجوك لا تذكر شيئا ..
أنت لا زلت تجدف بمجدافين صغيرين والموج لا زال يعلو . يغطي صوت الهدير علي الغناء وينتهي الموج حين ينتهي الزبد . صمتك الصارخ . . وجهك الصارخ , عيناك الحادتان , ويداك العصبيتان , وملامحك المتزنة , كلامك المستبد الطاغي
كل شيء كان يشير للنهاية , كل شيء فيك يعيدني طفلة . ويعيدني للحظة أخري في الوجود , يستفز أعضائي فتفر مني إليك . تكسر القضبان والسجن وتجري . أي مساء داهمني وأنت قادم إلي . أي صوت أنت . وأي قدر . وأي هزيمة كنت أراها كل وقت وأنت واقف من بعيد . وكان صوتك شجيا وأنت تلقي العبارات التي خاضت زمام الموقف بيننا
تلقيها وكأنك تتخلص من شبح يلازمك طوال العمر , شبح يعبر المحيطات كي يستكين هنا في صدري .
ورغم ذلك لم استطع أن أعرف الفارق بين يدي أمي ويد هذه المرأة التي سكنت أبي زمانا .