كنت أرقص.
وكنت لا أعي إلا أنه منذ لحظات قد أمسك يدي بحركة استعراضية ودار حولي قبل أن يضع يده على ظهري فأنتفض... وأدور.
كانت الموسيقى قوية، تذيب قلبي، فألف وقد أغمضت عيني، وكنت أبحث عن نقطة أنطلق منها لأصحح موضعي في هذا العالم، الذي لن يقبل تلك التي أتت من العتمة.
كان الضوء راقصا، فانتبهت للنور الأصفر، وكانت تلك نقطة هامة لأضع خريطة يتقافز عليها إدراكي لجسدي، ولطريقتي في الافتعال.
أنا هذه المفتعلة، التي تقفز مثل أبو فصادة فينتبه المارة إلى تلك التي تتقافز وهي مائلة للأمام، وكأنها تسابق الحياة.
كان الضوء الأصفر هو ما اراه فعليا وأنا ألف في أنصاف دوائر، وقد التصقت يد بخصري ويد أخرى تتحسس ظهري، وكنت قد فتنت بنفسي حين وضعت ذراعي حول عنقه واقتربت ليختفي الضوء الأصفر فيما بين اللفات التي أضحت الآن بطيئة حتى توقفت تقريبا.
لم أكن أعرف اسمه بالتحديد، ولكنه طلب لي ليمون وفتح هو زجاجة البيرة، وكنت آتية من عند هؤلاء الذين يدفع رجالهم الفواتير حين يتحسسون أجساد النساء.
وسألني إن كان معي مائتي جنيه، وقلت نعم، وطلب زجاجة بيرة أخرى شربها وقال إشربي، قلت لا أشرب الخمر، جذب يدي يقبلها وهو يأخذ مائتي جنيه أخيرة هي ما تخصني في هذا الليل.
ربما ذلك ما حدث قبل أن أثب على أطراف أصابعي، وأصعد تلك الدرجات لأكون في الأعلى. هكذا لم ارض يوما أن أبقى مثلهم أو جزء منهم.
فقط أنا في الأعلى وحدي.
وقد ظللت وحدي طويلا، أنام وحدي، أبكي وحدي، أتحدث وحدي، وأرقص وحدي.
كنت اتمايل مع نغمات مؤلمة، كل ما أعرفه مؤلم.
الغياب مؤلم.
وكان قد تركني في وسط الطريق وقال انتِ قوية، سيري من هنا وهذا طريقك، ولم يكن طريقي حقيقة، هو من قال ولم يسر معي، وكنت وحدي تماماً، والأرصفة تتباعد وانا في نهر الطريق أدوس العتمة، ولم أكن قوية.
مد يده يتحسس ظهري وقد صعد مغالبا النظرات والأصوات المتكاثفة:
دي سكرانة …
وكان ينظر إليهم وقد صدّق على كلامهم بإيماءة رجل قد خبر تداعي النساء اللائي يأتين من أمكنة يدفع فيها الرجال ثمن اللمسات الحادة لظهر مكشوف لكل الإهانات.. والخوف.
الضوء الأصفر عاد يخترق قلبي، وأنا أسير في متوازيات بينها رجال قد مروا من عمري دون أن أعتاد وجودهم، ولكنه لم يكن منهم، فقد كان غريبا، وانا لم أرد إلا أن أكون معه كما انا، بكل ذلك الحزن الذي يعرقل خطواتي وأنا أسير في طرق معدة مسبقا بأيادي غرباء لم يأنسوا للنور، فصعدوا كل تلك السلمات ليكونوا في الأعلى وقد ثقبهم الضوء الأصفر، حتى بدا كل شيء هادئا حد الموت.
حين فتحت عيني الجافلة، كانت الشمس قد التهمت ما تبقى من الضوء الأصفر، وكان هو يبكي بجانب زجاجة بيرة فارغة، وامرأة نهارية هادئة لا تشبه أولئك النسوة ساكنات العتمة.
اقتربت واحتضنني، وكنت قد تركت الضوء يسقط عن جسدي، وكان هو يبكي كولد حزين أضاع مائتي جنيه أخيرة، ولم يجد ما يحلم به، فلم ينم.
أنزل سلمات وأسير ممرات كثيرة بلا معالم سوى روائح الغائبين، وقصاصات ورق بها حكايات مبتورة، وبقايا محادثات انتهت دوما بنشيج مرير لامرأة وحيدة مائلة دوما للأمام، وسنوات أسى ممتد وصارم، وكان ثمة دمعة عالقة في كلمة محبة لم يقلها أحد، وسلمات كثيرة ممتلئة بشظايا قلب قديم ظل يبتسم وهو يموت.
فستاني قصير اسود، حذائي في يدي وانا أقفز على أرصفة تموج بالتائهين، أسير طويلا حافية وقد خلت روحي من الموسيقى، وهو بجانبي وقد مد يده، ليستند على ظهري المزدحم بالعالقين عليه.