سناء البيسي - الأهرام - 12 مايو 2006
لمحتها.. تلك النظرة المترعة بالغبطة العاكسة لما في النفس من الرضا علي النفس عندما فتح باب مكتبي في الدور الرابع بمبني الأهرام ــ الجديد وقتها ــ يقدمني له في معرض جولة يطوف فيها بضيفه الكبير, مستعرضا صرح الصحافة المصرية الحديث الذي شيده ويفاخر به.. محمد حسنين هيكل يطل وفي صحبته محمد التابعي.. التقطتها.. نظرة تلميذ يقول لأستاذه تعال معي تطوف وتشوف نجاحاتي وتفوقي وريادتي وأهرامي, تقابلها نظرة أبوية تحمل في ثنايا العيون الزرقاء راحة واطمئنانا وفخرا بالنبوغ الذي استشعره يوما في الشاب الصحفي فاحتواه, فأصبح الفرع شجرة وارفة تظلل الجميع بما فيهم الأستاذ..
ويظل هيكل مخلصا لذكري التابعي وأسرته من بعده مستوعبا قسوته عندما كان رئيسا للعمل: أذكر أنني كنت نائبا لرئيس تحرير آخر ساعة في وقت كان يرأس هو تحريرها, وسافر وقتها إلي تركيا لقضاء فترة الصيف.. وأرسل لي تلغرافا قال فيه: إذا كان المجمع اللغوي في القاهرة قد انتهز عدم وجودي في مصر وأصدر تعليماته بتغيير قواعد اللغة العربية فلا مانع مما نشرته في صفحة( كذا) في السطر( الفلاني) لتقوم بنصب( الفاعل) ورفع( المفعول به)!.
علاقة الأستاذ بتلامذته نفسها لا غيرها هي تلك الرابطة الحميمة التي تكاد تصل إلي صلة الدم, فالبراعم علي يديه تتفتح, والرعاية اليقظة تعجل من تصاعد شذي عطر الزهور لينتشي به الأستاذ في الأعالي من قبل تلميذه, ومن هنا يزود الكبير عن صغيره. من هنا يصبح له بمثابة الدرع. من هذا المنطلق تعتري الأستاذ قوة وصلابة فولاذية للدفاع عن قضية التلميذ, ربما قد لا تأتيه مثلها للدفاع عن قضيته الشخصية, وذلك ما أتي كمثال في كلمات الكاتب الصحفي إبراهيم الورداني عن أستاذه التابعي عندما كان محررا ناشئا في آخر ساعة, ويورد كيف أن التابعي غضب من الرقيب الذي شطب للورداني ثلاث صفحات, وكيف أخذه التابعي معه إلي وزير الداخلية( فؤاد سراج الدين).. ويصف اعتداد الرجل بنفسه وبتلامذته:
.. وركبت بجواره ومعي البروفة في سيارته الرولز رويس الباهرة الفاخرة, وطربوشه المائل علي الحاجب يهتز من شدة ما هو منفعل وغاضب!.. ومرقت السيارة بنا من بوابة وزارة الداخلية والعساكر تعظيم سلام, والتابعي بارستقراطيته النفاذة يقتحم الأدوار والردهات والحجرات والناس له ينحنون ويفسحون ثم تندفع خطوات حذائه نحو غرفة مكتب مزدحمة بأطقم من أفخر الناس والرياش, وشاب فائح الأناقة هو مدير مكتب الوزير يقفز مهرولا منحنيا للتابعي.. وقبل أن يحاول الشاب أن يدخل وهو يفتح الباب مواربا علي غرفة الوزير سبقته خطوات التابعي العصبية وهو يجرني من ذراعي وبركلة من حذائه دفع الباب ليفتح علي المصراعين.. نعم فتح الباب بركلة من حذائه!.. ويا له من منظر لا أنساه.. الباشا الذائع الصيت المرعب فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية والحاكم العسكري والآمر الناهي في كل بر مصر.. المنظر.. المشهد.. الباشا.. سراج الدين.. كالوهج منجعص خلف مكتب مطعم بالقطيفة الخضراء.. والبللور الضاوي له بريق الذهب ورائحة البنكنوت ا لطازج..
في فمه سيجار له حجم الفأر وفي أصبعه خاتم له شكل الفانوس, وأمامه يجلس كرشان فخمان.. الباشا عثمان محرم والباشا عبدالمجيد صالح.. هب الثلاثة الفخام العظام في استقبال التابعي وأذرعهم تفرد نفسها لطويل العناق, ولكن التابعي توقف في منتصف الحجرة متجاهلا الأذرع الممدودة وانطلق مزمجرا معنفا مخيفا بكلام خلاصته هو الرفت الفوري لهذا الرقيب الوقح وأن يسمع الاعتذار من وزير الداخلية وفورا..!.. ويا له من مشهد انزرع في العين والباشوات الفحول يهدئون الصحفي المنفعل الغضوب.. يدللون ويسترضون بل يتزلفون.. واهدأ يا محمد.. روق يا تابعي.. نرفت لك الرقابة كلها بل وتعتذر لك أجهزة الحكم كلها... كل هذا وأنا جالس علي طرف المقعد منكمشا ومبهورا وذاهلا.. وريفيتي المفرطة لا تصدق أن يكون للقلم الصحفي مثل هذا السلطان.. أقول وأردد.. لقد انزرع هذا المشهد في عيني وفي مشاعري وعلي أسطر ضلوعي وكأنه التقييم الهائل لقيمة الصحفي في بلاط الحكم والسلطان.. ويا إلهي كيف لا يستعمله الصحفيون والكتاب بمثل هذا الشمم وتلك الكبرياء..
نعم انطبع المشهد وشاع في وجداني ولم أسأل وقتها من أين هذا السلطان.. ومن أعطي هذا السلطان.. ولحساب من هذا السلطان؟
إنه الشعب لا سواه.. هو وحده الذي يعطي مثل هذا السلطان
و.. سلطان الكرامة والزود عن التلميذ والربيب وبرعم موهوب يتفتح في حديقته كان له مثال آخر مع التلميذ مصطفي أمين بعدما ظل التابعي الذراع اليمني للسيدة فاطمة اليوسف في تحرير مجلة روزاليوسف منذ عام1925 حتي عام1932 ليستعين بمصطفي أمين وهو لم يزل في سن السابعة عشرة.. وكان لابد وأن تحدث الخلافات عندما يتداخل الحب والعمل, وهنا كان التابعي الذي يحرر بابا نسائيا يوقعه باسم الآنسة حكمت يطلق لقلمه الساخر العنان في باب طورلي الذي يحرره أسبوعيا وكتب فيه تحت عنوان صاحبة المجلة وصاحب الطورلي:
خصصنا هذه الصفحة كما أعلنا في رأسها للحديث عن العظماء والصعاليك وسوف أتكلم اليوم عن صاحبة المجلة وعن نفسي وللقارئ أن يسمينا عظماء أو صعاليك كما يشاء, تأمرني بأن أكتب وأن أملأ صفحة بشرط ألا أعرض بأحد أو أسب أو أقدح أو أتملق أو أنتقد ثم تقول لي وفيما عدا ذلك فأمامك الميدان فسيح فاكتب ما تشاء.. أكتب ما أشاء!!.. وماذا أبقت لي لأكتب عنه؟!.. تقوم بيننا المناقشة وهي دائما حادة تبدأ من القرار وترتفع إلي جواب السيكا, فإذا طالت المناقشة ورأت هي إقفالها عمدت إلي طريقتها الخاصة في الإقناع وهي أن تنظر بعين إلي أكبر وأضخم قاموس ثقيل علي المكتب ثم تنظر ناحيتي وهي تحرك يدها المنذرة بحركة عصبية, فإذا لم تصلح هذه الطريقة في الإقناع عمدت إلي النشافة أو الدواية أو أي شيء آخر ما قد يكون قريبا إليها....
ويمضي الأستاذ التابعي قائلا: خبروني من الذي لا يقتنع بمثل هذه الأدلة الثقيلة؟!.. وهكذا تنتهي المناقشة دائما بانتصارها وانهزامي ثم أكتب.. ذلك الصبر والنفس الطويل عندما كان الخلاف قاصرا بين التابعي وروزاليوسف, لكن الأستاذ أمام دموع تلميذه الذي تعرض للقسوة لم يستطع الصمود, بل وكان بكاء مصطفي أمين سببا ودافعا جوهريا لأن يقرر التابعي تغيير مسيرة حياته كلية لتولد مجلة آخر ساعة ــ والجيب مافيش فيه ولا مليم ــ ولا ينقذ التابعي سوي طلعت باشا حرب الذي يقدم له عن طريق بنك مصر قرضا بمبلغ ثلثمائة جنيه ينشر بقيمتها إعلانات في آخر ساعة الجديدة ــ ويفصل التابع قصة خلافه مع روزااليوسف بقوله: بعد عودتي من أوروبا بأربعة أيام جلست أنا والسيدة روزااليوسف واقترح مصطفي أن يسافر يومها إلي الإسكندرية لكي يجمع الأخبار للعدد القادم
وعارضت السيدة روزااليوسف في سفره وكانت مشادة تبودلت فيها عبارات شديدة.. و.. لمحت الدموع تجول في عيني مصطفي ــ وهو شديد الحساسية سريع البكاء ــ فانضممت إليه ونصرته وهنا نالني أيضا بعض الرشاش. ونهضت وقلت لمصطفي: هيا بنا. وخرجنا نحن الإثنين ولم نعد بعدها إلي روزااليوسف.. وقال مصطفي ونحن في الشارع: إلي أين؟!.. قلت نتناول الغداء وبعدها نبحث عن مجلة نؤجرها أو نشتريها.. وتوقف مصطفي عن السير وفغر فاه في دهشة وقال: ليه؟! مجلة إيه؟.. فأجبته: مجلة أصدرها باسمي.. قال مصطفي: لا يا أستاذ.. أنا لا أحب أن أكون السبب في زعلك مع روزااليوسف.. وبكرة تصطلحوا.. قلت: ومين قال إنني زعلان حتي نصطلح غدا؟!.. ثم شرحت له الموقف وأذكر أنني قلت له: ألم ترني منذ عودتي لم أخط حرفا واحدا في المجلة وأن مقالا واحدا أو ورقة واحدة من أوراق التحرير لم تعرض علي لأخذ رأيي فيها كما كان الحال قبل سفري إلي أوروبا؟!.. إن وجودي في روزاليوسف قد أصبح خطرا علي روزاليوسف فلنترك روزااليوسف بكرامة قبل أن نطرد منها.... ومن روزاليوسف رئيسا لتحريرها عام1928 لـآخر ساعة عام1934 لجريدة المصري التي أسسها عام1936 مع محمود أبوالفتح وكريم ثابت ليبيع نصيبه فيها لمصطفي النحاس عام1938,
وفي عام1946 يعقد الاتفاق بينه وبين صاحبي دار أخبار اليوم علي ومصطفي أمين علي بيع آخر ساعة لهما ليتفرغ للكتابة في صحف الدار ومجلاتها..
محمد التابعي محمد وهبة ابن المنصورة الملهمة الذي ولد عام1896 عندما كان أهله يصيفون بمصيف الجميل علي شاطئ بحيرة المنزلة وجاءه لقبه بركة وتيمنا بمقام أحد مشايخ الصوفية الشيخ التابعي.. طفلا حافيا علي أرض الحارة أمسك التابعي بالسيف الخشبي مغطيا صدره بدرع من صفيح مستلهما شخصية الزناتي خليفة ليصارع عدوه الزير سالم ويصرعه في مباراة دونكيشوتية حامية الوطيس وسط حلبة الصفير والتصفيق.. وعلي الدوام يدفع الأهل ضريبة جموح وشقاوة فروسية الطفولة.. محمد رابع الإخوة وأول الذكور من بعد فاطمة وعائشة وزينب,
ومن بعده حسين, يرحل عنهم الوالد المهندس, والتابعي لم يزل في السابعة مخلفا تركة كبيرة من البراجل والمساطر والأقلام والأوراق.. صغيرنا لا يهدأ في مكان حتي بلغ من شقاوته رفته من جميع كتاتيب المنصورة, وإذا ما كانت أيام السنة الدراسية تحمل بعضا من الهدوء النسبي لتغيب مصدر العفرتة طول النهار, ففي أجازة الصيف كانت الوالدة تلجأ لوضعه في مدرسة صيفية نافحة له قرش صاغ كامل قبل خروجه.. لكنه أبدا لم يذهب للمدرسة بل لمكتبة الشيخ سعيد حلقة في سوق الخواجات نافحا له القرش كله ليأتيه بمقعد يمتطيه لقراءاته المختارة من قصص حمزة البهلوان وألف ليلة وسيف بن ذي يزن, ويعود للبيت في موعد الانصراف متظاهرا بالإرهاق من الدرس,
حتي كان يوم بعثت فيه المدرسة خطابا يفيد بتخلفه عن الحضور.. يومها مني بعلقة تركت آثارا لا تمحوها السنين.. ويحصل التابعي علي الابتدائية من مدرسة المنصورة, وكان قد تخلف عاما كاملا في النقل من السنة الثالثة إلي الرابعة بسبب رسوبه في الخط العربي, وكان الخط وقتها مستقلا في درجته له نهاية صغري من لم يبلغها عليه إعادة السنة.. وفي السنة الأولي الثانوية بالبنطلون الشورت بمدرسة السعيدية عندما شيعت جنازة الزعيم مصطفي كامل عام1908 كان يسير في المقدمة أصغر تلميذين يحملان باقتين كبيرتين من الأزهار.. فكري أباظة والتابعي الذي كان ضعيفا جدا في الإنجليزية مما كان يدفع بالمدرس الإنجليزي أن يعطيه صفرا بل ويضيف إليه كلمةASS وتعني حمار, وانتفع التابعي بما يتصف به الحمار من صبر ودأب فأخذ في قراءة القصص الإنجليزية حتي صار يوما يكتب مقالاته بالإنجليزية في إجبشيان ميل بتوقيعM.T.M فكانت الإنجليزية بداية عمله بالصحافة.
ولا يقل معدل الشقاوة في المرحلة الثانوية بل يزيد وكان بها أول عهده بالحبس في الزنزانة ـ حيث عاش بين جدرانها مرتين الأولي ومدتها4 شهور لاتهامه بإهانة وزير الحقانية والثانية6 أشهر بتهمة العيب في ولي العهد عام1939 ــ وكان عمره لم يزل في الخامسة عشرة وذلك بعدما خطف التذاكر من كمساري الترام وقام بتوزيعها علي الطلاب مجانا لعجزهم عن دفع ثمنها, وأبلغت شركة الترام ناظر المدرسة الإنجليزي مستر شارمان فتم حبسه انفراديا ثلاثة أيام أرسل بعدها لمدرسة العباسية الثانوية الداخلية في محرم بك بالإسكندرية,
حيث لم ينل الدرجات النهائية في السلوك رغم تفوقه, فقد جاء تعليق الناظر له: أخلاقك زي الزفت رغم أنك الأول.. ويظل الفارس يعيش في الوجدان ليستبدل في شرخ الشباب السيف الخشبي بالقلم, ويشبع فروسيته صولانا وجولانا علي صفحات الجرائد والمجلات, وبدلا من تصفيق أولاد الحارة وتلاميذ المدارس يحلق ملايين القراء حول كلمات مؤسس الصحافة العربية الحديثة الذي لا شريك له في أبوتها ليصبح الجدير باللقب الذي أطلقه عليه أنيس منصور من أن التابعي ذاته هو صاحب الجلالة الصحافة.. التابعي الذي كان أول من جعل من نفسه مصدرا لتوثيق رأيه, حيث الأخبار تتحلق بين يديه أينما ذهب إذ هو مشارك فعلي في صنع الأحداث فلا شيء يحدث بعيدا عنه أو خلف ظهره حتي ولو كان مسافرا في رحلة ينزلق فيها رياضة فوق ثلوج الجبال, فقد كان أشبه بمن يبتعد عن موقع الحدث ليزداد اقترابا منه بالرؤية الشاملة عن بعد, والذي كان من جرأة سخريته أن يطلق علي الوزراء ألقابا ظلت عالقة بهم حتي بعد الوزارة فهناك وزير الأذية وقطع العيش, ووزير التقاليد, ووزير الأسبرين, ووزير الفاصوليا, و.. ننوس عين الدولة..
كان يوظف كل شيء في حياته لخدمة الصحافة التي بدأ حياته فيها ناقدا مسرحيا في روزاليوسف باسم مستعار حندس, لكن تكوينه السياسي غلب عليه لتستقطبه السياسة كاتبا وناقدا ومحللا ثم مشاركا في الأحداث وفي صنع القرار السياسي بصورة أو بأخري إلا أن ميوله الفنية ظلت تلح عليه فلم يترك الكتابة في قضايا الفن وشئونه, وكان صاحب الذوق الرفيع في تذوقه للموسيقي والغناء, ورغم صداقته لعبدالوهاب فقد شن عليه حملة قاسية يأخذ عليه فيها اقتباساته.
أما عن فن أم كلثوم فقد كتب عنه لأول مرة أيضا في عام1925 بتوقيع حندس: ارتفع الستار عن أم كلثوم وحدها لأقول: سبحانه من وهب للنغم أثره وسبحانه من جعل للصوت الجميل سره وسحره.. ويا أيتها الآهة الحزينة شفي الله من أجلك كل مكلوم حزين الفؤاد... وكثيرا ما سئل التابعي عن أم كلثوم وعبدالوهاب في لقاءاته الصحفية في البلاد العربية فكان يجيب إجابات مختصرة لها طابع الواقع الساخر مثل: نعم أعرف الاثنين.. وقد لعبت مرة الورق مع أم كلثوم وكنا نلعب البصرة فلطشت مني أم كلثوم في ساعة واحدة ريالا صحيحا.. وإنني كثيرا ما تناولت الطعام مع عبدالوهاب وإنه إذا أكل تكرع طويلا ثم حمد الله وأثني عليه وأن فن أم كلثوم كممثلة لا يقل عن فنها في الغناء,
وأن محمد عبدالوهاب شخص مرح في الحياة العادية وغير متكلف وتأنس لحديثه ولا تمل من الجلوس معه بعكسه في الأفلام التي يظهر فيها مختلفا تماما كأنه مشدود أو مغطي بطبقة كثيفة من النشا حائرا ماذا يفعل بيديه.. يتحرك كأنه إنسان آلي.. جامد الوجه.. لكن هذا الجمود أو طبقة هذا النشا تزول عندما يبدأ يغني! ومثله تماما فريد الأطرش فهو مطرب وملحن أكثر منه ممثلا, والوحيد الذي يستوي مقامه في الغناء مع مقامه في التمثيل هو عبدالحليم حافظ الطبيعي جدا في تمثيله مع إجادة في التعبير بقسمات وجهه ونبرات صوته ولفتات رأسه وحركة يديه..
وإذا ما كان التابعي قد وقع في هوي أسمهان وقرر أن يتزوجها ووافقت أسمهان فإنه أبدا أثناء علاقته بها لم يهاجم أم كلثوم لصالح حبيبته التي استدعاه عبدالوهاب لسماعها في بيته وعندما وصل وجد الموسيقار ممسكا بعوده, وأمامه أسمهان يراجعان أوبريت قيس وليلي وكانت أسمهان تغني لحظة دخول التابعي وما فؤادي حديد ولا صخر.. لك قلب يا قيس فسله يا قيس ينبئك بالخبر.. تسلل التابعي يجلس بجوارها وهي مشغولة بالغناء يتأمل وجهها مأخوذا بحلاوة صوتها الحزين, وتعشق الأذن قبل العين أحيانا فوجهها ليس فيه جمال المقاييس المعروفة, وأنفها مرتفعا أكثر بقليل مما يجب,
أما عيناها والكلام للتابعي فكان فيهما السحر والعجب والسر لونهما أخضر داكن مشوب بزرقة, وتحميهما أهداب طويلة تكاد من طولها أن تشتبك, وقد لاحظ أنها كانت تجيد استعمال سحر العيون عند اللزوم.. وتنتهي بروفة قيس وليلي فيقدم عبدالوهاب التابعي لأسمهان فتمد يدها بتثاقل وتكلف ساذج.. تشرفنا.. ويجلس الجميع, فتأخذ أسمهان تصلح من وضع الفراء حول عنقها متعمدة إظهار الخاتم الماسي, وقد احتارت أي ساق تضع علي الأخري.. جميع حركاتها متكلفة, وأدرك التابعي أنها تريد أن تحدث في نفسه أثرا طيبا لكنها لا تمسك بكل الخيوط..
ويلاحظ مصطفي أمين أن التابعي منذ أحب أسمها, أصبح يهمل عمله ويتابع أخبارها لا أخبار الوزارة, وكان له أكثر من مندوب في بيتها يوافونه بتحركاتها ومن يزورها ومن يتكلم في التليفون, ومن ضحكت له وكان يحرص علي مقابلة هؤلاء المندوبين أكثر من حرصه علي ملاقاة مندوبي الجريدة.. و.. وذهب مصطفي وعلي أمين إلي صديقتهما أم كلثوم يطلبان منها إنقاذ التابعي من الغرق بزواجها منه ــ بعد وفاته في24 ديسمبر1976 وجدت السيدة هدي زوجته الثانية التي أنجبت له محمد وشريفة ثلاثة خطابات كتبها إلي أم كلثوم في أوراقه الخاصة داخل ملف كتب عليه كروانة الكراوين
كما وجدت به خصيلات من شعر أم كلثوم وصور جمعت بين الاثنين, وقد صرحت الزوجة بأنها شاهدت زوجها يبكي لأول مرة في حياته عند وفاة أم كلثوم ــ فضحكت الست قائلة لهما: أنقذ التابعي من الغرق لأغرق أنا؟! التابعي لا يصح زوجا لي! التابعي تزوج الممثلة زوزو حمدي الحكيم ليغيظ روزااليوسف ولم يدم الزواج سوي شهر واحد وطلقها.. وذهب علي ومصطفي أمين يهددان التابعي باستقالتهما إذا أقدم علي الزواج بأسمهان فأصر علي موقفه.. واحتفظت الصحافة المصرية بتوءمها التاريخي عندما انكشف المستور للتابعي في نفس اليوم وعرف أن أسمهان قد وقعت في حب شخصية كبيرة من وراء ظهره فمات الحب في قلبه بالسكتة القلبية.. ولكن التابعي كان يخرج من حب إلي حب قويا مع الرجال ضعيفا مع النساء,
يثق بأية امرأة بسهولة وكان أستاذا في جذب النساء بكل اللغات ومن كل الأجناس سخيا معهن لدرجة الإسراف ومقتصدا مع الرجال إلي حد التقتير, فهو يجد متعة لا حد لها في أن يقدم لسيدة يعرفها لأول مرة خاتما سوليتير, ويستكثر علي صديق حميم قلم حبر.. وكان يستثني من هذا التقتير رجلا واحدا هو عبدالوهاب الذي كان يذهب مباشرة في بيته إلي غرفة نومه ويفتح دولاب ملابسه ويأخذ أي كرافتة تعجبه يرتديها علي الفور.. وكان حريصا علي أن يكتب في أجندة خاصة كل مليم أنفقه, فتجد في صفحات الأجندة مفارقات غريبة مثل خمسة مليمات ثمن الأهرام.. مائة وعشرون جنيها سهرة بديعة مصابني.. خمسة قروش فنجان قهوة في الأنجلو.. مائة وخمسون جنيها ملابس من الخياط ماركو. ثلاثة قروش سكر.. سبعون جنيها هدية لـهيرما التي سافر ليعيش معها قصة حب رومانسية قبل تسليم نفسه للحبس4 شهور تنفيذا لحكم محكمة الجنايات
حيث وقفت تودعه روزااليوسف وهو يرتدي بذلة زيتية آخر طراز وفي عروتها فلة بيضاء وفي جيبها منديل حريري وعلي عينيه نظارة قاتمة وفي يده كتابان من تأليف إميل لودفيج والضاحك الباكي لفكري أباظة.. وتهرب روزااليوسف للسجين الذي يشرب في الزنزانة ماء فيشي تهرب له الكافيار والبيتي فور في الروب دي شامبر والسجائر الجولدفليك... وكان قلم التابعي أحيانا يشبه أغصان الفل والياسمين وأحيانا يشبه المدفع الرشاش.. لا يحب الذين يدافع عنهم ولا يكره الذين يهاجمهم. لا يحقد علي عدو ولا يطمئن إلي صديق. يندفع كالسهم ويصمد كالجبل. يهوي المعارضة ويمقت التأييد, وإذا عارض أشفق وهو يذبح وإذا أيد سخر وهو يدافع.. وفدي متحمس علي الورق, ومستقل الرأي في الحقيقة.. صادق الملك وخاصمه, وتحمس للنحاس وانتقده, وأحب النقراشي وعارضه, وطالب بالدستور والديمقراطية
ثم طالب بوقف الحياة النيابية في مصر لمدة ثلاثين عاما!.. ركب الحمار والبسكلتة من إدارة المجلة للمطبعة وامتلك الرولزرايس ركوبة الباشوات أصحاب الملايين, ولم يحدث في تاريخ الصحافة المصرية أن عاش صحفي في المستوي الملكي الذي عاش فيه التابعي الذي عهدت إليه روزاليوسف بكتابة النقد الفني في روزاليوسف رغم أنه انتقدها بشدة كممثلة حتي إنها لفت مقالته حول كعب حذائها, وكان رأيه في توفيق الحكيم كرأي العقاد أنه مدبقاتي وكاتب حوار ممتاز وإن كانت بعض أفكار قصصه معقدة.
التابعي الذي كتب في11 أكتوبر1950 يسخر من الظلم بعنوان نعم يحيا الظلم جاء فيه: يحيا ظلم كل جبار عاتية معتز بسلطانه وسطوته يدوس القوانين ولا يبالي.. نعم يحيا الظلم لأنه خير مرب للنفوس.. ونفوس المصريين تجيش اليوم بمعني واحد.. لقد صبرنا طويلا ولن نصبر بعد اليوم.. وتحملنا كثيرا ولن نتحمل بعد اليوم.... هذا القلم بعد قيام الثورة في أزمة مارس1954 عاد ليكتب خدعوها بقولهم بيضاء يدعو فيه الثورة للقضاء علي أعدائها بكل العنف.. ولكن.. يبدو أن الثورة قد اعتبرت العهد البائد ليس سياسيا فقط وإنما صحفيا أيضا, فالتابعي الذي عاش واختلف مع أجواء العصر الملكي والباشوات والاكسلانسات,
حيث يندفع إلي مكتب وزير الداخلية يفتح الباب بقدمه ثائرا وجد أن ذلك كان مقبولا في الحياة السياسية الملكية لكنه أصبح مرفوضا في النظم العسكرية, حيث من الصعب عليها تحمل مثل هذا التصرف حتي من أصدقائها, ومن هنا تم اعتقال الكاتب إحسان عبدالقدوس عندما كتب العصابة السرية التي تحكم مصر.. لقد اختلف التعامل في النصف الأول من القرن الماضي عن النصف الأخير الذي لم يستطع التابعي التأقلم معه رغم محاولاته.. لكن إذا ما كان عطاؤه الصحفي قد تعطل إلي حد كبير وأصبح لا يخرج عن الذكريات وليس المذكرات فإن ما زرعه قد استمر وأثمر أجيالا كان أستاذها ولغة جديدة في الصحافة قام ببثها.. لقد كان التابعي نموذجا للصحفي النجم الذي رفعه قلمه إلي منزلة النجومية.. النجم الذي كان نموذجا للشخصية العامة ببريقها الخارجي, لكن المعاناة الداخلية كانت شيئا آخر.. المعاناة التي سقط فيها الكثيرون من جيل التابعي بمنطق ما عدتش تفرق.!!