يحدث يا صديقي أن يشرع طفل في المخيم بقراءة القصص، يكبر وتكبر معه الحكايات، ليصير في الليل عملاقاً يلتهم الطائرات، ثم يتحول في الصباح إلى سمكة صغيرة تنسى ما جرى معها قبل أن توشك سفينة غارقة أن تلفظ المهاجرين في الماء.
يحدث أيضاً، أن يكبر الفتى ليصير سامقاً كنخلة تتكئ على الشاطئ، ترقب عودة الصيادين من بحر محاصر، وشباكهم لا تحمل غير الوجع، لقد كانوا في موعد بذيء مع العاصفة.
ويحدث أن يكبر المجنون ليصير بشارب خفيف، وشعر مشذب جيداً، يرجو مرافقة فتاة تقطن عند أطراف المخيم، تلبس زيها المدرسي، وتضع أسورة في يدها، بلا حروف أو كلام. تمشي ورائحة عطرها يحاصره في سفره الدائم بين الكتب، كأنها بطلة كل زمان ومكان، لكنها لا تحضر ليتزوجها أو يعيش معها شيئاً مما يقرأ، فقد غادرت مع رجل بشارب كث إلى بلاد الثلج وتركت بيتها المتهالك للمجنون المولع بالقصص، يرسمها في لوحات غارقة في تجريدية وسوريالية وتكعيبية وانطباعية ليست كالتي يعرفها برناردشو أو دافنشي أو حتى كلود مونيه أو بيكاسو أو هانز آرب وخوان ميرو.
يهرب الطفل من الجامعة وفي يده ورقة سميكة، يركب معها بساط السندباد كل فجر ليلتحق برفقة رجال متخمين بالهموم إلى مدرسة لا تأبه بحروفه أو أحلامه أو القصص التي يخبئها داخل سحابة تمطر كل حين كلام في كلام. يمر من أمام الحاجز، يفتشه الجنود المدججين بالسلاح عن بقايا امرأة غارقة في الغياب، وهو يضحك بصخب، كأنه فقد عقله، والمجندة الواقفة عند الزاوية تحدق مندهشة، هل هو حبيبها القديم ديفيد أم لوركا؟
يخلع قلبه ويعطيه لعابرة تحضر كل ليلة إلى شقته تلعب الورق وتعب الجعة حتى مطلع الفجر، تقول وغنج انثى فاتنة يسحره: أنت لست سوى مسخ يجيد مطارحة الفراش.
يكبر الشارب، يشذبه الشاب الذي عاش في زنزانة من ورق برفقة بورخيس وماركيز وبلزاك، يصنع عطراً جديداً فاخراً مع باتريك زوسكيند، يسكبه على جسد فتاة أخرى طارئة حضرت من مدينة لا تلبس الدانتيل، يلتهم جسدها على الطاولة لأجل أخرى مع رجل بشارب كث، يقضم الصدر ثم ينتهي ويقول: يا الله، إنها تصلح لأن تكون قصة، خُذيني أيتها المرأة إلى موتي.
المدينة موغلة في العتمة، والشاب يطلع كشمس في دياجيرها، يمسك بيد أطفاله، الأولاد الذين نبتوا من أرض استولى عليها مستوطن بسلاح أمريكي مرخص، يحملون الزيتون، وأقلام الرصاص أقوى من البنادق، يطلعون من بين الكلمات ويرسمون، يُعبِّرون عن خيال لا ينضب، وامرأة تلبس الخمار تصفق للفحل الذي استطاع أن يصنع وشماً أسفل الظهر بعد ليلة ماطرة.
المجندة لا تتوقف عن التحرش بالشاب المثقل بالأحلام، تداعب صدره وتنزلق إلى أسفل، فيثور الذئب وتموت ليلى برصاصة طائشة من بندقية الصياد، تقرر المرأة النزقة احتجاز قلبه وروحه عند الحاجز، لأجل أوقات جميلة لأخطائه النضرة، لكنه يضحك مجدداً، يسخر من الشرفات التي ترحل، لأنها خسرت المشهد، ولم يعد أحد من المارة قادر على متابعة العرض.
يقول زياد: لقد أخطأ النادل حين سمح لك بالشرب يا يسري، إنك تكتبني بغير وجه حق، فأنا أكثر جموحاً نحو الحياة، وأنت أكثر جنوناً من أن تقيد حروفك ما تريده هذه الصحيفة أو تلك المجلة التي تنشر فيها لأجل المال، لنتفق إذاً على إعادة كتابة النص، تعال لتكتبني كما أنا، فالمجندات كثر، والفاجرات والعاشقات أكثر، إنهن سبيلي للخلاص من المدينة التي يطلق عليها المراهقون المدججون بالسلاح كل ليلة عشرات القذائف، بينما أمارس طقوسي في الطاعة، بإشعال الإطارات المطاطية داخل أسوار المدرسة وفي عقول الطلبة الذين يحبون الغيم والمطر.
تعال لنصنع نصاً متوحداً مع الطبيعة، بلا حروف أو كلام، بلا ريشة أو أقلام، تعال لنرسم ونكتب بأصابعنا على أجساد النساء اللواتي يمنحننا مزيداً من النبيذ كي ننسى أخطاء المدينة وخطايا الغابرين الذين أحرقوا بقاياها مع نيرون وهتلر وموسيليني.
يعُب يسري ما تبقى من الكأس ويمضي، لا يلتفت إلى الشاب الذي تحول فجأة إلى كتاب سميك، قديم متهالك، يفتح صفحاته للعابرين على متن القصيدة.
(زياد خداش كاتب قصة فلسطيني، ولد في مدينة القدس عام 1964، يكتب القصة القصيرة، في رصيده اثنتا عشرة مجموعة قصصية، يعمل مدرساً للكتابة الإبداعية في مدارس رام الله، حصل على الجائزة التقديرية لدولة فلسطين، كما وتأهل للقائمة القصيرة في مسابقة الملتقى الأدبي للقصة العربية في الكويت لعام 2015).