الشرق الأوسط - 7فبراير 2004
الكاتبة المصرية لـ«الشرق الأوسط»: تعلمت من جدتي مهارة الحكي ومطاردة الأرواح الشريرة ومحبة الحياة
- عبد النبي فرج
في قصص وروايات نعمات البحيري تبدو هواجس القلق والخوف والتمرد على شروط الواقع وكأنها الحرك الاول لفعل الكتابة، ومن هذا المنطلق نفسه قدمت رؤية شديدة التمايز والخصوصية لعالم الغربة في روايتها «اشجار قليلة عند المنحنى» وتسللت روح هذه الرؤية بايقاع مختلف في مجموعتها القصصية «ارتحالات اللؤلؤ» والتي شارفت فيها طرفا من تخوم الشعر والفن التشكيلي، ولغة المشهد السينمائي وغيرها من خبرات الحياة.. هذا حوار معها حول عالمها الروائي، وقضايا أدبية أخرى. * روايتك «اشجار قليلة عند المنحنى» هل تدخل في باب السيرة، وكيف ترين دور الخيال في النص الادبي بخاصة أنها تمثل تجربة خاصة بك في فضاء الغربة؟ ـ هناك الكثير من عناصر الحياة مثل قصص الحب أو الزواج أو السفر أو دخول الحرب يطمح كل مبدع لأن يكتبها في الروايات لتشير الى عناصره من عالمنا ثم يعيد بناءها وفق رؤية فنية لا تغفل الذاتي والشخصي والسياسي والاجتماعي، لذا فدخول بعض العناصر الحياتية في النص الأدبي غالبا ما يمنح النص شبهة السيرة الذاتية لكن دور الفن والموهبة في تصوري هو الذي يحدد مقدار المجسد والمغيب من التجربة الذاتية داخل النص الادبي، أنا شخصيا لا أهاب مسألة تحديد ما هو ذاتي أو غير ذاتي في كتاباتي، لانني اكتب دائما بخبرة الحياتي والمعاش سواء كانت من تجاربي أو من تجارب الآخرين، فالمبدع دائما عليه أن يتسلح بعناصر الثقة في النفس وأنه حتى لو أخذ من حياته وكتب فهذا ايضا لصالح الفن وليس لاستعراض الذات. وفي «اشجار قليلة عند المنحنى» هناك «اشجان» القريبة الشبه على نحو ما مني و«عائد حسون» القريب الشبه بدرجة ما من زوجي السابق. والتجربة كاملة هي تجربة زواجي من كاتب عراقي والحياة معه في بغداد وقت حرب الخليج الاولى، لكنني ايضا لا استطيع أن اجزم أن الرواية سيرة ذاتية تماما لأنك لا تستطيع ان تفصل عنصر الخيال عن التجربة الذاتية المعاشة التي هي المادة الخام الأولية للسيرة الذاتية. وقد أخذت منها مع إعمال الخيال ما يصلح لأن اصوغ منه فنا روائيا، وتقريبا ستجد أن اغلب اعمالي «ارتحالات اللؤلؤ» وهذه الرواية وقصص «ضلع أعوج» ترى من نفس المنظور. ولا يمكن اعتبارها سيراً ذاتية فالسيرة الذاتية ينقصها عنصر الخيال وفعل الابداع الذي يتمثله الكاتب من حذف لعناصر السيرة واضافة عناصر متخيلة، ليصبح لدينا عمل فني مكتمل العناصر الفنية والموضوعية واللغة الدالة والموحية، وكل جهد تبذله الذات المبدعة بمقدوره أن يشكل اضافة للنص الابداعي ليبحر بما هو خاص الى ما هو عام. والذي يحدد هذا هو عنصر مقدرة المبدع أو المبدعة على تخصيص العام وتعميم الخاص. * «قررت الجلوس بعيدا وفك الخيوط ربما فهمت شيئا». من منطلق عبارتك هذه هل الرغبة في الفهم هي دافعك للكتابة؟ ـ في أغلب الأحيان. ولقد بدأت ودون أن أدري بالكتابة من أجل الفهم ولم اكن قد وعيت على نحو ما بفن القصة القصيرة. كنت قد واجهت موقفا ما وأنا صغيرة ولم أجد من أحترم عقله لأحكي له وكانت أواصر الصلة متقطعة بيني وبين أبي وأمي فجلست وكتبت الحكاية بكل ابعادها ورحت أقلبها على كل الأوجه فإذا بالكتابة تضيء المناطق المعتمة وغير المفهومة من الحكاية، وتبصرني بحقائق لم تكن واضحة لي من قبل وأخذت قراري وكان صائبا الى حد كبير. بعدها قررت أن أعرف بعضا من حقائق الحياة عن طريق الكتابة فعرفت القصة بطريق الصدفة. لكن هذا لا يمنع أن هناك دوافع اخرى للكتابة مثل المتعة لتتسع الأفق ويعمل الخيال النبيل في كشف بعض الحجب التي يكتظ بها الواقع، الكتابة هي ايضا خط الدفاع الاخير في مقاومة الموات والانزواء وحوافز الاحباط واليأس التي تتراكم حولنا في الحياة، الكتابة هي البهجة مدفوعة الثمن من الوحدة وتأجيل الأحلام وتقليصها، وربما إلغائها. الكتابة هي كلمة اتبادلها مع الناس حتى نظل خيولا جامحة ترفض الانسياق لإغواءات الطرق السهلة دون كد أو تعب. هي الهواء النظيف دون عادم أو دخان. هي صرخات من القلب الموجوع بسياط الرغبة في تجديد الأحلام وتبديد الأوهام هي نعمات البحيري،الكاتبة والانسانة. * هل أثر المناخ الدموي الذي عشته في العراق على تجربة الرواية؟ وكيف انعكس ذلك على شخوصها؟ ـ بالتأكيد وهذا واضح في الرواية، نظام الحكم الدموي يجهض مشروع الانسان في الابداع في الحب في العمل في الحياة. وفي الرواية سنجد أن عناصر الحب والألفة كانت واضحة بين اشجان وعائد حتى في أحلك اللحظات، لكن كانت هناك محاولات مضنية لانقاذ هذا الحب من الموات. فالحب مثل النبات يرغب دائما في مساحة من الشمس والضوء والهواء والماء ليكبر وينمو ويترعرع. لكن هيمنة النظام القمعي حتى على عقول الناس منعت عنهما الهواء والشمس، فراحت اشجان ترى الوطن المسجون والمقيد عبر جدران البيت حتى انتهى كل شيء الى جفاء وبالتأكيد البشر كانوا جزءا من المنظومة القمعية للرواية، هم انفسهم مشوهون ومسجونون داخل جلودهم، لا حرية لا عدل لا احساس بأي جمال وكانت أشجان ترى حتى الاطفال لا يبتسمون وقد عمرهم الحزن والجميع استراح لتلك الصيغة التي شمل التواطؤ معها الجميع. * كيف ترين المشهد النقدي وبخاصة أن بعض النقاد والمجلات الثقافية تتعامل مع جيل التسعينيات وكأن الأدب في مصر بدأ بهم؟ ـ ليس جيل التسعينيات فحسب فالمؤسسات الثقافية هي نفسها مؤسسات ساهمت في افساد المثقفين، الكثيرون من جيل التسعينيات موهوبون ولكن زيادة الضوء على النبت الصغير تعجل بموته، فكل كائن حي لا بد ان تتوافر له شروط النضج في زمن معين ولو أدت عنصر الماء أو الشمس أو الضوء لسرعة انضاجه تكون قد عجلت بموته. هذا ما حدث ويحدث بشكل منظم لمواهب كثيرة تظهر وتقوم الدنيا ولا تقعد ثم يكون مآلها الى الفراغ. فضلا عن رغبة هذه المؤسسات الثقافية والاعلامية في تفريغ كل انتاج أجيال ما بعد جيل الستينيات من أي مضمون انساني ونفى ارتباطه بقضايا الواقع ربما لكي يظل جيل الستينيات هو الجيل الاوحد الذي أنتج أدبا له قيمة. يتبدى هذا على أرضية الواقع فالمهيمنون على محلات وجرائد كثيرة هم كتاب ينتمون الى تلك الحقبة الستينية وعلى الرغم من تقديري لانجازهم إلا أنني أراهم يهيمنون بشكل وبآخر على المؤسسات والمجلات والصفحات الثقافية، وبيدهم سلطة النفس والاقصاء والاستقطاب وبعضهم يتعامل مع المكان الذي يترأسه باعتباره اقطاعية وليس مطلوبا من مصر أن تقدم أي منجز أدبي إلا من خلال هذا الجيل وليس غيره، فضلا عن أن طابور الجوائز لا يقف الا كل من هو ستيني. ان هذه المؤسسات لا تدفع المثقفين لمناقشة قضايا عامة تخص راهنية الواقع المصري أو المأزق العربي لكنها تدفع المثقفين للحديث عن انفسهم وتجاربهم الشخصية وكأنها تتعامل مع كل مثقف باعتباره الصندوق الاسود الذي لا بد من فتحه والوقوف على الأسباب التي جعلته يفكر هكذا وليس بطريقة اخرى، مع انه يجب على المؤسسات دعم هؤلاء المثقفين الحقيقيين لانهم ذخيرتها في الحياة في مواجهة التهديد القادم من الخارج. ولهذا كله فعلى المبدع الحقيقي أن يواصل الكتابة ولا يبقى مهموما إلا بها وبتجويدها وتطويرها في اطار ما يستجد حولنا من ظروف معرفية جديدة واتجاهات وتيارات وما يستجد أيضا في تغيير ذائقة القارئ. وأنا لا أرى نفسي منفية عن أقلام النقاد الحقيقيين فمنذ مجموعتي القصصية الاولى «نصف امرأة» ومرورا بـ«العاشقون» و«ارتحالات اللؤلؤ» حتى «ضلع اعوج» وروايتي «اشجار قليلة عند المنحنى». وأنا أرى القليل من النقاد الموضوعيين يتناولون اعمالي بقدر من الاهتمام منهم د. حامد أبو أحمد ود. محمد الرميحي ود. فاطمة المحسن ود. سيد البحراوي وصافيناز كاظم وفريدة النقاش ود. فتحي أبو العينين ود. رمضان بسطويسي ومن الشباب د. منى طلبة ود. مصطفى الضبع وغيرهم. * تبدين في الكثير من أعمالك وكأنك مسكونة بالحكاية الشعبية بل يبدو هذا الهم وكأنه مراوحة لشهوة الكتابة الاولى كيف ترين ذلك؟ ـ الحكاية الشعبية جزء من موروث كبير جئت به من قريتي وأعتبره رافدا اساسيا للمعرفة. ومن البديهي ان يظهر تأثيرها الواضح على ابداعاتي سواء في القصة أو في الرواية. وعلى الرغم من أن حكايات جدتي لم تكن ممتعة على الاطلاق بل كانت شديدة الايذاء لخيالي وخيال جميع اطفال العائلة، لما تحويه من عفاريت وحيوانات شرسة وشرور وعنف واضح، الا انها دفعتني دفعا لفعل الحكي كأحد اشكال مقاومة قهر الأب والجدة، فكنت آخذ حدوتة جدتي كمادة خام لاشكال اخرى من الحكي فساعدني ذلك على إعادة انتاج حواديت خاصة بي وربما بأطفال القرية فنمّى ذلك القدرة على نسج تفاصيل وشخصيات وعوالم تقارب الواقع. وكان الحكي نفسه مثل مضخة تطرد العادم من حكايات شديدة القسوة والضراوة لمخيلة طفلة في السابعة وتجعلني استحلب طعما جميلا لحياة كتابتها كتابة ممتعة. * هل التوق الى الحرية هو الذي جعلك تهتمين بالكتابة خارج النوع الأدبي أم هو استجابة لمقولات نقدية أم هي فكرة التجريب؟ ـ لم اقصد كتابة خارج النوع فهذا مصطلح وأنا أرفض الانسياق تماما خلف بعض المصطلحات لأن اغلبها مراوغ وفضفاض، يستخدمة نقاد «الشنطة» مثل اساليب تبريرية ليصعدوا بكاتب أو كاتبة ويبررون حتى لحظة الهبوط منه. أنا اكتب بخبرة التجربة المعاشة واستدعي كل روافد المعرفة التي خبرتها عبر الفنون الاخرى والموروث الشعبي وموقف من العالم. اتصور انك تقصد «ارتحالات اللؤلؤ» تحديدا. كانت كتابة «ارتحالات اللؤلؤ» مغامرة محفوفة بالمخاطر كما كانت التجربة المعاشة التي أفرزتها أن تذهب امرأة وحيدة تماما لتعيش في مدينة سكنية جديدة تماما ما زالت برائحة الرمل والزلط والاسمنت، مدينة بلا بشر ولا عصافير ولا شجر عدا بعض الكلاب والبوم والغربان وفي مواجهة هذه الحياة كتبت «ارتحالات اللؤلؤ» كشكل من اشكال المقاومة فجاءت كتابة اقرب إلى قصيدة النثر ولكن بنفس «عدة» القصة القصيرة، وكان لها مذاق خاص. اما بالنسبة لفكرة التجريب فهي لا تمر بخاطري كثيرا لكن بالنظر حولنا نجد هناك تغييرا فادحا في مفاهيم القيم والأخلاق، فضلا عن ازدواجية المعايير في العالم من حولنا، مثلا خذ فعل المقاومة حين يهبط عليك عدو فتقاومه لا يسمى «هذا الفعل مقاومة بل اصبح يسمى ارهابا، وبالتأكيد هذه الاشتراطات تخلق شكلا من اشكال التناقضات ومحاولة احداث التفاعل بين كل هذه المتناقضات لحساب الحقيقية، والفن سوف يفرض بالتأكيد على الكاتب والمبدع نمطاً مغايرا للتفكير أولا ثم الكتابة، يمنحه القدرة على أن يحلق لآفاق اكثر رحابة وسعة، ربما نتج عن هذا معرفة جديدة وبالتالي اذا كان الأدب مرآة عاكسة لكل تجاربنا فلا بد من أشكال فنية جديدة تساهم في نقل ادراكنا بهذه التجارب الى الملتقى حتى تصل الرسالة جيدا. وعموما الآن كل الاجناس الادبية تتداخل فنجد القصة القصيرة الآن تحمل الكثير من روح الشعر وتكثيفه وتجسيده لصور وجماليات اللحظة أو الحدث أو الموقف وغنائيته احيانا لذلك ابحث عن كتابة اكثر املا وبهجة لان شروط الواقع صارت شديدة القسوة والضراوة وأنا أكتب دائما بشروط الممكن وليس بشروط المستحيل لأحقق نوعا من الدهشة أو المتعة الصغيرة على الاقل لنفسي».
* جمعت المعلومات عن أول عريس قدموه لي وكتبت أول قصة في حياتي
* بسؤال نعمات البحيري متى بدأت الكتابة أول مرة، اجابت: ـ كنت في الجامعة اكتب المقال في مجلات الحائط ثم حدث ان جاءني عريس وكانت أمي تدفعني دفعا للزواج فجلست ووضعت كل المعلومات الإنسانية والاجتماعية التي جمعتها عنه وكل الكلام الذي قاله لي في المرات القليلة التي جلست فيها اليه في كتابة شملت كل التفاصيل التي جرت بيننا وواصلت الكتابة فإذا بها تصب في شكل اقرب الى القصة وعندما اعدت على نفسي قراءة ما كتبت وجدتني استشرف حياتي مع هذا الشخص فإذا بي اكتشف جرم ما سأفعله بنفسي اذا ما تزوجته. فرفضته دون الامتثال لقرار أبي وأمي. تكشف لي فيما بعد أن ما كتبته هو قصة قصيرة بمعنى حداثي قصة «نصف أمرأة» بالنسبة لقياسات القصة القصيرة في ذلك الوقت في نهاية السبعينيات، اللعب بالزمن وتحاور ازمنة ثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل لانتاج دلالة واضحة وحين قرأها الدكتور سيد البحراوي والدكتورة أمينة رشيد قالوا انني اكتب بشكل مغاير وصدقتهما وبعدها وجدتني أتناول كل قصاقيص الحياة في قصص قصيرة وروايات ورحت أقرأ وأقرأ وألتهم كل ما يقع تحت ناظري من كتابات وإذا بالقراءة خبرة مضافة للخبرة المعاشة بمقدورها أن تدعم ادوات الكاتب.