أدب وثقافة - البوابة 14 أغسطس 2005
اوهي كاتبة روائية مصرية تكتب بالإنجليزية. قرأنا لها رواية خارطة الحب التي ترجمت إلى العربية عام 2001، بعد صدورها باللغة الإنجليزية عام 1999. وفي هذه الرواية للفن تركيب خاص، ينبني فيه السرد في حركة توالد حيث تأتي الكتابة من الكتابة (هكذا تأتي كتابة الراوية «أمل غمراوي» من كتابات «آنا ونتربورن»)، ولا تنفصل حركة توالد الكتابة هذه عن فعل النسيج أو الحياكة. بما هو توالد للخيوط. بمعنى آخر، إن الخيط الذي منه تنسل خيوط أخرى، هي التي تحرك الرواية. وحركة النسل/النسج هذه، تحيل أسطورياً وعملياً فعليا) إلى عمل الأنثى. في رواية «عائشة» وهي ثاني عمل روائي للكاتبة، يترجم إلى العربية، ثمة بنية سردية مختلفة، ترصد حياة عائشة عبر ماضيها وحاضرها.. طفولتها في مصر ثم شبابها وقد عاشت جزءاً منه في انكلترا، حيث ذهب والدها للدراسة، ثم عودتها إلى مصر وزواجها.
حياة عائشة بكل مراحلها حاضرة في الرواية وإلى جانب هذا ثمة حضور لأجيال ثلاثة تربطهم بعائشة علاقات مميزة، هناك: جدتها ـ والداها بالإضافة إلى «صافي» والدة صديقتها ماريان ـ أصدقاء عائشة من جيل الشباب.
وفي هذه الرواية ترمي أهداف سويف إلى زعزعة مفهوم الراوي البطل الذي ألفناه. لذا، نراها تستخدم وسائل لغوية توهمنا، وعلى مستوى المتخيل طبعاً، بأن الراوي ليس راوياً يختبئ خلف بطل ليروي عنه (بضمير الغائب)، أو ليس راوياً ٍ يتماهى في شخصية تروي مباشرة بنفسها (بضمير الأنا). هكذا يتقدم الراوي في «عائشة» على أنه (هو) و (أنا) و(عائشة) في الآن نفسه.
منذ البداية، يبدو الراوي متلبساً كأنه بهذا الالتباس يبغي إيهامنا بأن لا موقع مهيمناَ له. على أن هذا الالتباس الذي يولده التركيب اللغوي، أو الصياغة الأسلوبية، هو نفسه الفني الذي يريد أن يوهم بأن لا صوت يحكم الأصوات الأخرى. أصوات الشخصيات المروي عنها، وأن لا موقع مهيمناً وبطولياً منه يقود الراوي فعل القص باتجاه بطولة ما.
نكاد نتوهم في بداية الرواية أن السرد يدور حول «عائشة» وأنها كشخصية تشكل محوره وأساسه.. ولكن التمعن في فصول الرواية، يشير بأن لا موقع بهوية مهيمنة تخلق من الراوي بطلاً، أو شخصية رئيسية، يتموج القص حولها، ويجعل منها محوراً أساسياً، أو بؤرة مركزية.
يفتتح الراوي الكلي المعرفة السرد بفصل (العودة) أي وصول عائشة إلى وطنها بعد غياب سنوات، ليرصد لنا عبر السرد بضمير الغائب ومن خلال علاقة عائشة بالمكان، التحولات الجذرية التي طالت الأمكنة والمجتمع والناس ولاسيما في الحي الذي تقطنه عائشة، تغيرات لحقت بالفضاء وبساكنيه فالحديقة الخضراء ذات الأشجار المنتشرة والزهور والطرق المغطاة بالرمل الأحمر ـ حل محلها مبنى جامع كبير وخلفه بناء قيد الإنشاء هو أول معهد إسلامي في الجيزة، شغلا خمسة أسداس الحديقة، أما في المساحة المتبقية فكانت الأشجار مغطاة بالغبار، وكان العشب متفرقاً وأصفر والمكان بأكمله مكسواً بالقرميد وهناك أكياس اسمنت وقضبان فولاذ ومتاريس رملية. ليبدو الأمر وكأنه تدمير عوضاً عن تشييد: الحديقة الفضاء المختصر بشكل عنيف والجامع والمعهد الإسلامي، كلها تساعد في دفع نظرية التطور نحو الأمام.
أما منزل عائشة أو فضاؤها الخاص، والذي كان في الماضي القريب يطل على الحديقة، أصبح الآن يطل على جزء من الحديقة المطوقة بشقق سكنية متراصة قللت من قيمتها وجعلتها تبدو جرداء. هذا التحول لم يقتصر على الفضاء، وإنما طال ساكنيه أيضاً، الجيران تطل من النوافذ.. قسم من النساء مغطى باللباس الإسلامي الأبيض، الذي بات ينتشر بسرعة، ويعلن عن الانتماءات الجديدة لساكني المنطقة.. وفي فضاء المنزل، يتحرك السرد بين الماضي والحاضر إذ تخيلت عائشة وباستمرار تفاصيل مشهد عودتها إلى المنزل في بداية السنة الأكاديمية، ولكنها صدمت إذ لم يتحقق شيء من هذه التفاصيل على أرض الواقع، ثم نتعرف الى تفاصيل علاقتها بزوجها وعدم التواصل في العلاقة ما كان يؤدي بها غالباً إلى حبس نفسها خلف باب الحمام، لتبكي حتى ينقطع نفسها.. كانت غرف الحمام في كل أنحاء العالم تشهد عليها وهي تقفل على نفسها الباب، وتتجه نحو المرحاض وتبكي، أو ببساطة تجلس على الأرض الرخامية وتقرأ طوال الليل، بينما زوجها نائم وحده، جاهل بما يحصل، لا بطل في هذا الفضاء الرمادي، الذي يغرق فيه الناس، كل الناس.. في هذا الفضاء الذي بلا لون، الفضاء الذي تغيم فيه الأشياء، وتغيب الرؤية، فتتداخل المرئيات.. يحكي الراوي، الراوي (الكاتبة)، يحكي قليلاً، ثم، يترك الكلام للمروي عنه ليحكي هو بضمير الأنا ويصير بذاته راوياً. هكذا تروي «عائشة» في فصل «1964» لتقول حكايتها الخاصة بسفرها إلى انكلترا مع والديها اللذين يحضران أطروحة الدكتوراه، وهناك تعي وهي تتعذب مظهرها الغريب، لاسيما في المدرسة إذ كانت كارثة بالنسبة لها، فالفتيات البيضاوات يعشن في عالم من السحر والرفاق الشبان حيث لا يسمح لها بالدخول، والفتيات السوداوات يعشن في عالم أقليات حيث الهمسات، وكن ينظرن إليها بكره مفعم بالشك.
وبعد قرارها بعدم العودة إلى المدرسة، يتحول المنزل إلى مملكتها الخاصة من الصباح حتى المساء، وقد أنتج تمردها هذا ربحاً من الطراز الرفيع، إذ كانت تقضي سنتها الخامسة عشرة في أحلام من اللوتس، غارقة في الكرسي ذي الذراعين، تهتز لسماع موسيقا «الستونز» ،تقرأ بشكل شهواني لتقول «لقد قمت باجتياز امتحاني الخاص». تروي عائشة بضمير الأنا، وكأن الراوي (الكاتبة)، لا يريد أن يتدخل، رغم تداخله مع من يروي، أو، كأنه ليس بإمكانه أن يتدخل. إنه المختلف في كل ما يرى. يرى أكثر مما يرون، أو يرى ما لا يرون، فيختلف.. يختلف ويتداخل معهم. هكذا يتراجع إلى حيز الشهادة.. إنه يشهد على ما يجري، هكذا في فصل (المولد) يشهد على علاقة عائشة بفرح، ويشهد على زواج «سحر» المسيحية ابنة عم ماريان من رجل مسلم.. وزواج ماريان بعد أحلام وردية بالحب، من رجل في الأربعين...
ولكن هذا الراوي يترك الكلام لعائشة، وزينة.. ليفسح مجالاً للقص التذكري، وعلى أساس من هذا ينحو فعل القص بنطق يأتي من الذاكرة، تتذكر عائشة في فصل «المعرفة» مرة أخرى جزءاً من حياتها في إنكلترا في الستينيات وهي ابنة الخامسة عشرة، عندما تكتشف أن والديها ليسا كليّي القدرة ولا كُليّي المعرفة، وفي تلك الفترة لم تكن تريد أن تفعل شيئاً سوى القراءة، تقرأ وتقرأ وتؤلف المزيد من القصص، ليصبح عالمها آهلاً بالشخصيات الفاتنة وطافحاً بالمغامرات.. كان كل كتاب بمنزلة اكتشاف كنز، إضافة إلى أنها لعبت دوراً في كل قصة أو رواية قرأتها.