رّحلة الخلود في مناصِ النَّص ”نَّهر النعاج“ [¹]
للقاصة الكويتية استبرق أحمد
”نّهر النعاج“ للقاصةِ الكويتية ”استبرق أحمد“، من النُصّوص العميقة برؤيتها، والغنية بعوالمها، وبما تحيل إليه من مرجعياتٍ، تستفز فعل التأويل.
فالتيمَّة المركزية التي ينهض النَّص على عاتقِها، هي ”فكرّة الخلود“، التي داعبت أحلام البشر منذ آلاف السنين، إذ لم يكن ”جلجامش“وحده، الذي سعى للحصول على الحياةِ الأبدية والشباب الدّائم. فكثيرَّة هي القصّص والأساطير، التي تحدّثت عن سعي الإنسان الدؤوب، للوصول إلى سِّر الشباب الدّائم، والحيَّاة الأبدية.
درجنا في عددٍ من قراءاتِنا، على البحثِ إبتداءً في ”عتباتِ النَّص“ لما تشكّله هذه ”المداخل/العتبات“ من مصادِّرِ إلهامٍ، في سعينا الحثيث لفضِ مغاليقه، وهتك الأستار التي تغلِّف كنّهه، وكشف انفعالاتِ فتنتهِ، ومركز غَوَّايته وبوحهِ.
فنلاحظ هنا أن جسم هذا النَّص، يتكون من ثمانيةِ فقراتٍ، تفصل بين كل منها (علامة الضرب ** asterisk، النجمّة) فهي رّمز التضاعف. و(العلامة *) نفسها تدل على كل فقرّة، فتشير لتضاعُف محتوّاها، لتهيئنا للبحثِ عن هذا التضاعف، والتغّير في محتوّاه، والتغّير في تلقينا لهذا المحتوى.
وهذه الفواصل تلعب الدّور نفسه، الذي تؤديه ”علامات الترّقيم“، في صياغةِ بناء الأثر الدّاخلي، إضافة إلى استوائها محلاً لإمرار جملة من وظائفٍ فنيّة ودلاليّة، على صلةٍ بجماليّة النصّ وإنشائيّته.
فلئن قرأنا العُنوّان ”نّهر النعاج“ من موقعِ كونه عنصراً فاعلاً، في تأمينِ وجوده المادّي، من حيثِ تبادل ”سِّر وجوده“ بين ”البدّوي وبعضِ العارِّفين“ ”وتّداولُ هذه المعرفة بينهما“، يقع على عاتقِنا الكشف عن هذا الوجود، فيما أنتجه من أدواتِ الثروة، والخلود في حيَّاةِ هذا البدّوي.
وهكذا تتخطى الفواصل بين الفقراتِ الثمانية، موقع الرَّمز، الذّي يتّصل بأسلوبِ القاصّة، في تنظيمِ نصّها وطرائقها في توجيهِ القارّئ، إلى انخراط هذا القارّئ في قدرَّاتِ هذه الفواصل، على توجيهِ الدّلالات والمعاني التي ينميها بنفسهِ، في إنتاج مناصاً لمناصنا! فيكشف عن طاقةِ تحمل النَّص وقدرّته على التفجرِ، بالمزيدِ من الدّلالاتِ والمعاني.
الفقرَّات الثمانية التي يتكون منها هذا النَّص، كوحداتٍ منفصلة، متدرجة في تضاعيفِ ”البناء الكلي“، مقرونةً بـ”العُنوَّان“ الذي حمله النَّص من ناحية، ومع الأبنية الدلالية من ناحية أخرى، باعتبار أن للعنوان إمتداداً معنوياً متشذراً، في كلّ فقرَّة من الفقراتِ الثمانية، التي تمثل، نوافذ يطل منها الرَّاوي، إلى خارج النَّص، يؤشر منها للقارئ على الاحالاتِ والمرجعيات، في الأساطير والتاريخ البشرّي.
في العتبةِ الأولى (الإستهلال) نسمع صّوت الرَّاوي الخفّي عبر تقنيةِ الـ Flash Back فلاش باك، والتي لا نكتشفها كتقنية تم توظيفها، إلا في المشهدِ السابع. بعد إدراكنا أن المشاهد الخمسة الأولى، هي في زمنٍ استرّجاعي، وأن زّمن الإستهلال هو اللحظة الرّاهنة، التي ينطلق منها المشهد السابع.
وهكذا يبدأ الرَّاوي في الإستهلالِ، يصف لنا مكان الحدَّث ”نظرَّت فوجدت الموت ماثلاً في الصّحراءِ الواسعة بلا رائحة. التفتت تجاه الخيام البعيدّة“ حيث تقف الشخصية المركزية الأولى ”إبنة البدّوي“ تتأمل النعاج النافقة، فينتابها شعور متناقض، إذ تسعد لذّلك، ومن ثم ينتابها خوّف ”تذّكرت جملة والدها: ”حلالنا وكيفنا فيه“. قالها غاضباً حين طلب إِلَيْهِ الجياعُ نّحر ذبائحه لهم. فكرَّت بالبيداءِ التي تمتصّ الكلمات ولا تغّفر أبداً“ فنجد تفسير شعورها المتناقض بالفرحِ والخوّف، في علاقتِها المعقدَّة بأبِيها، فهي تُسَّر لموتِ نعاجه وحزّنه عليها، لما تحمله تجاهه من ضغينةٍ، وفي الآنِ نفسه يخيفها أن يكون موت النعاج نذّير شؤم!
وهكذا إبتداءً من العتبةِ الأولى يطلعنا الرَّاوي على شخصياتهِ الأساسية (البنت وأبيها-كشخصيتين مركزِّيتين) ويلمِّح لنا أنهما ليسا على وئامٍ، وأنهما يسكنان في الصّحراءِ، وتحيلنا الخيام إلى بيئتهما البدّوية، وما تعنيه الأغنام بالنسبة للبدّوي، فهي ليس مصدر عيشه فحسب، إذ ترتبط بالنظرَّة الإجتماعية، فكلما زادت ثروّة البدّوي من الماشيةِ كلما، زاد مقدار سلطته في مجتمعهِ، وكلما نقصّت انحسر ظِّل سُلطته بالمقدارِ نفسه.
وهكذا نجد أن ”النَّهر“، و”النِعاج“، و”القُربان“ و”فكرَّة العارِّفين“ الذّين أسّروا للبدّوي ”شخصية النَّص المركزية الثانية“ بسِّرِ ”النَّهر الغامض“، جميعها ما هي إلا تمثيلات ”الذَّاكرة الجماعيّة“ للبدّو عن ثقافتِهم ومخيالهم الأُسطورِّي، الذي يستعيض عن ”الإنتاج“ بـ”الإستحوّاذ“.
فالبدّوي في بيئتهِ القاحلة -لعدم وجود ما هو مادّي للإستحوّاذ عليه- يلجأ للأساطيرِ والخرّافات، التي يستحوّذ على أسّرارِها، عن طريقِ ما يُسِّر به إليه "العارِّفين“، ليستحوّذ بهذهِ الأسّرار، على ما يمكن أن تطاله يده من خيرَّاتٍ مادِّية.
لقد وظفت القاصّة عدداً من ”العتباتِ“، سننتقي منها ”دلالة النَّهر“ في الأساطير، كـ”عروسِ النّيل/القرّبان“ و”الحورّيات“ كدلالةٍ متصلة بفكرةِ عرّوس النّيل، ومصادِّر المياه/”النَّهر“، خاصة أن النَّهر هو المكوِّن الأول لـ”العُنوّان“ كعتبةٍ أولى، وكذّلك سنتناوّل دّلالاتِ ”النعجة“ في الأسّاطيرِ والأحلام، وفي واقعِ حيَّاة البدّوي، لما تحمله هذه العتبات المنتقاة، من معانٍ وشفرَّات تتصل بـ”البُنيَّة الدَلالية“ لهذا النَّص الغنِّي.
ولا شك أن لهذهِ العتبات ”سياقات تارِّيخيّة ونصيّة ووظائف“، تختزل جانباً مركزياً من منطقِ النَّص، وهو يبني أفق انتظاره، فيما نبني كقراءٍ آفاق توقعاتنا، ونحن نتنقل في جغرّافيا السَّرد، نتأمل معمارِّيته الأنيقة، في هذا الفضاء البصرِّي المتسع، بحرّكة شخصياته في الصَّحراء بكلِ دَلالاتها، التي يقول فيها البروفيسور السُّوداني الرَّاحل عبد الله الطيب:
”ولا يزال أخو الصحراء، يتلفت بقلبه إلى مكانِ أقامةٍ تركه وراءه، أو آخر ينتظره من أمامه، وما الدنيا عنده إلا معالم بين هذّين الطرّفين“ [²] وعلى ضفةِ النَّهر، بكلِ عوالم صياديه، ومزارّعي جروفه، وعشاقه الذّين يئدون شظف الحب في المواويلِ والأغاني، ليؤول شغفنا بهذهِ الرِّحلة إلى ”مناصٍ“ منحتنا إياه هذه العتبات، التي كل منها بمثابةِ نَّص قائم بذّاته، غير مكتفٍ بها، في اتصالهِ بالعتباتِ الأُخرّى، ليفضي معها إلى نَّصٍ موازٍ أو نَّص على النَّصِ ”نَّهر النعاج“.
فهي عتبات كحوِّريات يجبن بطيوفِهن مضارّب البدّو، في أحلامِهم، حيث يتجلَّين عن ”الغنائمِ“ بكلِ توارِّيخها الضّاربة في جذّورِ ”الغزّوات“، وكما يقول جيرار جينيت في هذا السياق ”الدّلالة ليست معطىً جاهزاً في ذّاته. إذ لا تكون دون تأويل، ولا تنشأ بمنأى عن الخطابِ، ولا تتشكّل إلاّ أوان اشتغال العناصر والبنى التركيبيّة داخل النصّ [³]
وعند خوضنا لجُة أولى العتبات، في الطريقِ المفضي إلى(النَّهر)، نجده يُشكِّل رافداً غنياً لإشباعِ حاجات النَّص، في الكشفِ عن طفولتهِ، وأُلفته إذ يستنهض فيه الخفِّي من الأحاسيسِ والرّؤى والمشاهداتِ، المختزنة في بُنيتهِ القاعدِّية.
فالنَّهر وّطن الطقوس الميثيولوجية، والأسّاطير والحَكَّايات، التي استنبتها العقل البشرّي، وسط بيئاتٍ مفعمة وغنّية بالرُّموز الدَالّة، التي استطاع أن يؤسس من خلالِها مقوّلات ومعتقدّات، أصبحت موروثاً علىٰ مدىٰ الأزّمان.
وتتسامى الحَكَّاية، في هذا الفضاء الرُّؤيوي الجَرد ”نظرت فوجدت الموت ماثلاً في الصّحراءِ الوّاسعة بلا رائحة. التفتت تجاه الخيام البعيدّة“ فالسَّرد يبحث عن زُخرُفِهِ، فيما حوله من صوَّى سارّي أو علامة طريق، تستحيل إلى رموز ومدلولات، تستوطن الأساطير والحَكَّايا.
ونحن نعبر الصَّحراء جهة ”النَّهر“ هذه ”الدَّالة“ على حرّكةِ الحيَّاة، ونمو وتطوّر الفعاليات. وطاقة التعبير عن الأفكارِ والهواجس، بما للنَّهر من قُدرَّةِ إستجابة عالية للكوّامن الأيروتيكية والنفسية. ولأحلامِ الطفولة المخبأة والضامرَّة، في ثنايا طمِّي الذَّاكرَّة، بما تحيل إليه الدَّلالة.
بالتالي يؤرخ النَّهر حيَّاة الشخصيات، ويمنحها قُدرَّة على التأثيرِ والخلق، والوجود الفاعل في الواقعِ.
فالنَّهر مصدّر إخصاب الفحولة والأُنوثة، ونهوضها واكتمالها، وهو بالتالي منعطف لإدرّاك الأشياء، والظواهر الخفيَّة.
وبذّلك يكون هذا الارتباط، إرتباطاً حياتياً يؤشر الصيرورَّة عند الشخصيات[⁴] ولحركةِ النَّهر وقوَّة جرّيانه، دّلالات تعبر عن الزَّمنِ، خاصةً الزَّمن الصعب، فسرعةِ جرّيانه أو بطئها، تؤشر على إيقاعِ الزَّمن في سرعتهِ أو ثقله على النفسِ وتشكيلها السايكولوجي.
والنَّهر باعتبارهِ المنشأ الأول لطفولةِ الإنسان، فهو المصدَّر للمعتقداتِ والطقوس، إذ يمثل نوعاً من التسلطِ، الذّي يؤسس وَّعي الأبنية الفكرية والإجتماعية والسياسية. كما أنه المصدَّر لاكتمال أنسنةِ هذه الأبنية.
وعندما نتوَّغل عميقاً في خضَّم هذا النَّهر نتخلل عشباته الطّافية، ربما نلمح طيفاً لحورّية ”إبنة البحر، إبنة الماء أو عرّوسة البحر“ المشتهاة، فالنَّهرِ منبع طيوّف حوّرياته الأسطورِّيات، وأفكارنا الملهمّة عن سحَّرهن.. حورية البحر Waterhouse a mermaid فالنَّهر، كالبحرِ موطنها.. موطن الحورّيات اللاتي يجمعن بين صفاتِ البشر والأسماك، تلكن الجميلات الساحرَّات، اللاتي حيكت حولهن الحَكَّايا المجنحة، في أمسياتِ العشق اللحوح، وليالِ الوجد والدّنف.
والحُوريَّة صفة إسمية، من إسم (حوراء) مفرد الحور، وهي تعني الأُنثى الحسناء، شديدّة بياض العين(Mere، البحر، الماء البحيرة) (maid، الفتاة الشابة العذراء، العزباء)[⁵] وأولى قصص الحورّيات ظهرّت عام ألف قبل الميلاد عندما أحبت الآلهة أتارجاتيس Atargatis أم الملكة الآشورية سميراميس، أحد البشر ثم قتلته بغيرِ قصد، فألقت بنفسِها في البحيرّةِ، لتصبح على هيئةِ سمكّة. لكن المياه لم تخف جمالها الإلهٰي، فأخذت صورّة حورية/إنسانة [⁶] رسولة كتاب الحب، إلى جموع المؤمنين من العشاقِ في ليلِ الهجر البشرّي.
وفي قصصِ التراث العرّبي، تضمن كتاب ”ألف ليلة وليلة“ بعض الحَكَّايات، عن أناسٍ بحرّيين (مثل جُلنَّار بنت البحر). وتختلف تلك المخلوقات عن الحورّياتِ البحرّية في أنها كالبشرِ العاديين (الأرضيين) لكنهم كما حدثتنا شهرزاد ألف ليلة وليلة، قادرون على التنفسِ والعيش تحت الماء، والتزاوج مع البشّر العادّيين [⁷]
فأساطيرِ الحورّيات، تتصل بالعقلِ البشري نفسه، الذّي أنتج أسطورّة عرّوس النيل الفرّعونية، التي تعتبر حقاً أصيلاً ”لإله الخير“ فيسعى النَّاس لإرضاءِ النيل، بتقديم ”القرّابين“، كي لا يكف عن الجرّيان، ويظل يمدهم بأسبابِ الحيَّاة، لكونهِ الباعث الرّئيسي للحضارّة المصرية، فمصر هبة النيل بتعبير هيرودوت.
لذا كانت تُقدم له أغلى ما يملكه الفراعنة.. بناتهم العذرّاوات الجميلات، حيث يتم اختيار واحدة منهن يوم الفيضان من كلِ عام، ويطلق عليه ”يوم وفاء النيل“، فيتم تزيينها وتُلقب بـ "عروس النّيل"، ثم تُزّف إليه، كنوعٍ من التضحيةِ البشرية لإله الخير [⁸]
ثمّة عتبة أُخرّى لا تقل أهمية عن دلالتي ”النّهر وفكرّة الحورّية/القرّبان“.. تتمثل فيما تمثله ”النعجة“ في هذا النّص، وبالإحالة المعجمّية نجد أن ”ذكر الغنّم“ يسمى ”كبش وخروف“ والأنثى ”نعجة“ وصغيرهما ”حمل“. و”النعجة“ ذات أثر كبير في ثقافة الإنسان وتارِّيخه الزرَّاعي.
ونجدها حاضرَّةً في الأساطيرِ، كما توليها الأديان أهمية كبيرّة، خاصة الديانات الإبراهيمية. وهي القرّبان الذي يفضله المسلمون في عيدهم الكبير.
وفي الدين المصري القدّيم نجد الإله ”خنوم أو غنوم“ Xnum الذّي يتم تصويره على هيئةِ كبش، أو رّجل له رأس كبش بقرنينِ، وطبقاً للمعتقد المصري القدّيم، قام (خنوم) بعملية الخلق المادّي للإنسان، من طمِّي النيل على عجلةِ الفخار.
وبعض الرّوايات تقول أنه كان يُشكِّل الأطفال الصغّار، من طمِّي النّيل المتوفر عند أسوان، ويضعهم في أرحام أمهاتهم. وقد نلمح هنا صلة الخلود بالقدرَّةِ على الخلقِ.
وقد عُبد ”غنوم“ في أماكن مختلفة في مصر مثل أسوان وإسنا وممفيس (منف) باعتبارهِ الإله، الذي أتي بالنيلِ ليُقيم الحيَّاة على ضفافهِ [⁹]
وعندما نسوق هذه الأغنام، لترّعى عُشب الحَكَّايا، بعيداً من حقلِ الأساطير والأديان، ونرحل بها إلى سهول ومرَّاعي الأحلام، حيث يلوح وجه ذّلك البدّوي الذي يسعى إلى حتفه حثيثاً، فيما يظن أنه حصل على الخلود ”أنها أحلام اليقظة التي تجعل كل الناس متفقين عليها، طالما أن الحالم يقول في نفسه عند رؤيته للعثة وهي خاضعة –للانتحاءِ الضوئي– لغريزّةِ الموت الكامنة فيها:(لم أكن أنا الذي يحترّق!) [¹⁰] تطالعنا النعجة بعينيها الماكرتين، لتوهمنا بنبؤة، غنيمة متوقعة، فحسب ابن سيرين في تفسيرِ الأحلام "أن من رأى أنّه يسوق غنماً كثيرّة وأعنزاً، فإنّها ولاية. وحلبه ألبانها وأخذه من أصوافها وأوبارها، إصابته الأموال. ورؤية القطيع من الغنّم في المنامِ دوام سرور، والشاة الواحدة سرور سنة واحدة. ومُلك الأغنام زيادّة غنّيمة، فإن رأى أحدكم كأنّه مرّ بأغنامٍ فإنّهم رجالٌ غنّم (نعاج) ليس لهم أحلام“.
وعبر تقنيةِ الاسترجاع في المشهدِ الثاني، نكتشف أن إبنة البدّوي فقدت ثلاثة من أشقائِها، في إحدى رّحلاتهم.. غرقوا في ”النَّهر الغامض“، الأمر الذي أصاب أبيها بحزنٍ شدّيد ”حين وُلوجِهِ، لفظ ثلاثةً من أخوتِها الأقوى تباعاً جثثاً مفرّغة العُيون. تَذْكُر جيداً.. والدها في غيبوبة مشادّات مع أخوتها الموتى، لثلاثِ ليالٍ، ينطق بإسمِ أحدهم، فيحضر في الحُلمِ ويجادلُهُ“ يختار في صباح اليوم الرابع، أحب أبناءه إليه، يقدمه قرّبانا للنَّهر، ليكتمل هذا المشهد في المشهد الثالث ”غاب القرّبان في النَّهر.. ولم يظهر لليلةٍ كاملة. غاب.. ولم يجزّع والدها. غاب.. لتطلع نعجة مبللة، حدّق والدها بعطيةِ النَّهر، احتضنها، وأمرهم برحيلٍ متعجل“
فقد أصاب البدّوي نعجة في الخطِ الفاصل بين الحُلم والواقع، ففي الحُلم إصابة النعجة، تعني وفقا لابن سيرين، إصابة امرأة شرّيفة القدر مخصبة، ومن رأى أنه يرّعى غنَّماً من الضّأنِ، فإنه يلي على الناسِ وإن رّأى أنه أصابها أو مَلَكها فإنه يصيب غنيمَّة كثيرّة.
وهكذا في أحلام يقظتنا ومنامنا تسرّح بنا الأغنام، بدلاً عن أن نسرّح بها!.. وكون (الغنِّيمة) من (الغنّم) فما أشهر ”غنّمِ إبليس!“.
يفتحنا النَّص إذن على التساؤلِ، فقرّابين الأنهار ارتبطت بالشعوب البحرّية والنَّهرية، فما الذي يدفع بهذا البدّوي ساكن الصَّحراء، بالتقرّب إلى النَّهر وهو ليس من مفردات بيئته، وما الهدّف من هذا القرّبان، هل يخفي هذا البدّوي سّراً تجلى في تقبلِ النَّهر لقربانهِ، بقرينةِ هذه النعجة التي رَّمى بها إليه؟ ومن ثم ينقلنا الرَّاوي إلى المشهدِ الرابع:
”كلما دخلت وجدتهم يأكلون من النعجةِ النَّيِّئة، التي لا ينضّب لحمها ولا ينتن، وتعود مكتمّلة في اليومِ اللاحق. كلما مرّوا بقربِ قافلة، تلحقهم بعد ليالٍ نعجةٌ أُخرّى. كلما أسرّعوا لدّيارِهم وجدت والدها يقوّى ويشتدُّ عود ثروته، هو الضَّعيف، المكلوم بفقرِّهِ“ إذن هذا هو السِّر الذي يخبئه والدها، فقد اشترى السُلطة والنفوذ بـ”دَّمِهِ“.. بحيَّاةِ أبنائه.. أرواحهم!
وهكذا يقودنا الرَّاوي لاكتشافِ العالم، الذّي يحكي عنه خطوَّة فخطوَّة، فيطلعنا في المشهدِ الخامس على معلوماتٍ أكثر، فنعرّف أن ابنته متوجسة من أمرِ هذه النعجة، وأن زوجته التي يحبها هجرّته، ورّحلت لتقيم مع أهلها، ليستعيدنا إبن سيرين إلى تأويلاته، هامساً:
من رأى أنه أصاب كباشاً دون العشرَّة، أو رآها في دارِّهِ، فإنه إن كان يلي شيئاً، أو كانت عنده امرأة، فليس يُقيم في ذلك العمل، ولا تقيم عنده تلك المرأة حتى تموت أو يفارقها.. فهذا الرّجل البدّوي، يحب زوجته حباً شديداً لكنها هجرّته!
ليس هذا فحسب، فقد جاءته إبنته في الحُلم تستأذنه، أن تقيم في خيمةٍ نائية، فأذن لها، ما يحيلنا إلى أنه يعيش في أحلامهِ، وليس ثمَّة فاصل بين أحلامه وواقعه الحقيقي! فمساحة الهجر بينه وزوجته ومساحة النأي بينه وبين إبنته، تحيل إلى الانفصالِ عن الواقعِ الفعلي!
وهكذا في المشهدِ السادس نرى إبنة البدّوي، في موقعِ المرّاقب من –موقعِ العُزّلة المرّكبة– عزلتها الدّاخلية وعزّلتها في المكانِ ”تكبر وتدركُ أنَّ عزّلتها صحّوتها، تكبر وترى أباها وأخوتها فتياناً لا يشيخون. تكبر وتعرّف أن الجياع، كلما رَجوهم كان لوالدها الرأيُ الفصلُ في العطايا ومَنْعِها“
وهنا يقودنا النَّص إلى جيبٍ زَّمني تتدّاخل فيه الأزّمنة، فنحن لا ندري متى اتخذّت قراراً بالعزلةِ: قبل أن يبتلع النَّهر أشقائها، أم بعد أن منح النَّهر أبيها النعجة الأُسطورية؟ هذا الجيب الزَّمني، يلفظنا إلى حيَّاةِ هذه الأسرَّة، ويستحيل في المشهدِ السابع، إلى بؤرةٍ زّمنية لزَّمن ممتد كممرٍ تضيئه مشاعل باهتة، نرى خلاله شبح والدها مع سرَّيان الزَّمن/الممر، قد تضاعف جشعه وكسله.
لكن الزَّمن لم يؤثر في شبابهِ وفتوته، فيما هي أصبحت عجوزاً، ليعيدنا الرَّاوي إلى لحظةِ الإستهلال، حيث الزَّمن الذي بدأ الرَّاوي يحكي فيه (ما جرى) فيفتحنا على حدّسِها الخفّي، الذّي دفع بها في الماضي البعيد للتوجسِ من النعجةِ، واعتزالها والدها وحياته بعيداً في خيمةٍ نائية.
فينفتح النَّص ثانيةً على كلِ مخبؤاته، فنتعرّف للمرَّة الأولى، على سِّر تلك التضحية الكبيرّة بأبنائهِ، وانعكاساتها على علاقتها بوالدها ”جيف نعاج كثيرّة بلا رّائحة، تُسدد نظّرها إلى السماءِ، بأعدادٍ مهولة. في اليومِ الرابع: ازداد المشهد تعقيداً، إذ رّأت النعجة الأولى ممددّة أمام خيمتها. تراه يقترب حثيثاً، يصل لاهثاً، لم يتغّير مطلقاً، أبوها الذّي بدأ الرّحلة عندما أسرّ له أحد العارّفين بوجودِ النَّهر المخبوء قبل أن يلفظ أنفاسه، أخذّهم في رحلةِ المصير وخسر بعض الأبناء كاسباً الغنى الذّي لا ينتهي“.
بعد كل هذه السنوات، وهو يرى كل شئ ينهار أمامه، يأتي يستجدّي غفرّانها، وضع نفسه بين خيارّين: الاستمرار في التضحيةِ بمن يحب، في سبيلِ إنقاذ نفوذّه وتكريس ذّاته، ومد عمره بخسارّة عمر أبناءه، لكنه هذه المرَّة يرحل إلى النَّهر الغامض، نَّهر الخلود.
لا ليقدّم إبنه الذي يحب، بل يجهزها هي من موقعٍ نقيض لتجهيز عروس النيل، بتنكير أنوثتها، فهو نَّهر لا يسعى في طلبِ الإناث، بل الذّكور، وهكذا يجهزها أبيها على هيئةِ ذكر، ليقدّمها قرّباناً لفداءِ عالمه وشيك الإنهيار:
”أحضرها، قصَّ شعرها، ألبسها ملابس الرّجال، احتضنها، ودفعها إلى النَّهر، هكذا بعد ليلة عادت مع النَّعجة، ورحلوا سريعاً، لم يدرك أن النهر أمهله معجباً بجسارّة خطته، فردّ له جثتها وأضاف الأُعطية وانتظر،كان نَّهراً آسن القلب، يكرّه أبناء الترّاب“.
وهكذا يتمدّد الزَّمن في ممرهِ، في المشهدِ الثامن والآخير، ليكشف لنا النَّص عن حكمتهِ الفلسفية العميقة، حوّل رّغبة الإنسان في الخلود، مهما كانت التضحيات جسيمة، ما يحيلنا لفضاء الأساطير، و”سيدوري“ ساقية الآلهة، تسعى جاهدة لإقناع جلجامش ملك أوروك السومري، بأن يستمتع بحياته كما هي، بدلاً من إضاعةِ الوقت في البحثِ عن الحيَّاةِ الأبدية.
لكن ”جلجامش“ الذي سيطرّت عليه فكرّة الخلود يتجاهل الحسناء ”سيدوري“ كما تجاهل البدّوي زوجته فرّحلت، ويمضى جلجامش في رّحلةِ اللانهاية، متحدياً المخاطر –مثلما تحدى هذا البدوي غريزة الأبوة– في سبيلِ الحيَّاة الأبدية، ليكتشف في خاتمةِ المطاف، خيبته.
ولم تكن فكرّة الخلود بعيدّة عن أذهانِ أباطرّة الصين، الذين أعتقدوا أن تناول الزئبق الأحمر سيمنحهم الخلود، فأصيبوا بالتسمم الذي قضى على حياتِهم.
ويحدثنا التاريخ عن حجمِ الإنفاق الهائل لفراعنةِ مصر القدّيمة، على بناءِ القبور الخالدّات ”الاهرّامات“، كقصور يعيشون فيها حيَّاة أبدية في العالمِ الآخر.
وتقول الأسطورّة المصرية القديّمة إن ”تحوت“ إله المعرّفة عند المصريين القدماء، و”هرمس الهرّامسة“، تناولا قطرّات من الذهبِ السائل، الذي منحهما الحيَّاة الأبدية والخلود.
كذلك شاعت فكرَّة الخلود في أوروبا، باجراءِ التجارّب المعملية والأبحاث، لإيجادِ إكسير الحيَّاة، وما فكرَّة مصاصي الدماء Vampires إلا مظهراً من مظاهرِ هذه الفكرَّة، التي شغّلت الجنس البشري عبر التارِّيخ.
وأخذت كذلك مظاهرها في الرّواية للمرّة الأولى، عندما جعل الروائي الإنجليزي برام ستوكر من شخصية السفاح المسيحي ”فلاد الثالث دراكولا“، أشهر مصاص دماء في روايته الخيالية ”دراكولا“.
ومص الدماء هنا يأخذ بُعداً معنوياً في الجشعِ عند هذا البدّوي ”حلالنا وكيفنا فيه، قالها غاضباً حين طلب إِلَيْهِ الجياعُ نحر ذبائحه لهم. فكرّت بالبيداءِ التي تمتصّ الكلمات ولا تغّفر أبداً.. تكبر وتعرّف أن الجياع، كلما رَجوهم كان لوالدها الرأيُ الفصلُ في العطايا ومَنْعِها“
كما ارتبط السحر والشعوذة عند العرب، بفكرةِ الخلود بعبادةِ الزئبق الأحمر، وقد اعتقد الأمير الأموي ”خالد بن يزيد بن معاوية“، بوجود إكسير الخلود ووصف الزئبق الأحمر بأنه إكسير الحيَّاة، وأطلق عليه في كتابه ”فردوس الحكمة في علم الكيمياء“ [¹¹] إسم زيبق الشرق.
فيما ينشغل العلماء في عصرنا الحالي في ايجاد علاج لشيخوخة الخلايا.. وهكذا تحيلنا العتبة الأخيرَّة في ”نَّهر النعاج“ إلى مرجعيات فكرَّة هذا البدوي عن الخلودِ في التارِّيخ الإنساني، وفيما هو وحده كان يعلم أن إبنته التي ضحى بها لأجل الخلود، شاخت وماتت بالفعلِ، كان كل شئ حوله يؤول إلى الإنهيار، والأقدار تسخر منه.
لتنتهي القصة خروجاً من عالمِ الأساطير، إلى فضاءِ الواقع، حيث يتفجر ”النفط“ وتغمر الثروات الجميع، فتتحقق كل رّغباتهم، إلا الخلود ”وحده والدها كان يراها، تخرج من قبرها تحادث أخوتها الموتى، يقترب يخرسون ولا تُحدِّثُه عن خديعتهِ… اليوم وهو يسعى إليها طالباً الحل إزاء اقتتال ما بقي من أبنائه، توقفت طويلاً أمام المشهد: رأت النعجات، والنعجة الأولى أعطية النهر ترمقها بعين منافقة. بالبدايةِ، شعرّت بضحكةٍ ساخرّة، حارّقة، تنطلق من أعماقِها، سريعاً استبدلتها بشهقةِ الخوّف… لتجيبه: أجمع نعاجك الضّالة يا أبتِ، وارِ جيفتها… بعد أيام قلائل شق نَّهر أسود الصَّحارى، واهباً العطايا بعينٍ ماكرة“.
هوامش:
[¹] استبرق أحمد، نهر النعاج، رابطة الكتاب السوريين ”عن موقع الكتابة“، ٧ أكتوبر ٢٠١٩
[²] بروفيسور عبد الله الطيب، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها (٥مجلدات)، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، ١٩٨٩
[³] عبد الحق بلعابد، عتبات جيرار جينيت ”من النص إلى المناص“، الدار العربية للعلوم ناشرون ”منشورات الاختلاف“، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى ٢٠٠٨
[⁴]جاسم عاصي، دلالة النهر في النص، دار الشؤون الثقافية، بغداد ” سلسلة “الموسوعة الثقافية“، ص: ١٣٠.
[⁵] نقل إلى العربية قاسم الشواف، ديوان الأساطير ”سومر وآشور وآكاد“، إشراف أدونيس، دار الساقي، لندن، الطبعة الاولى ١٩٩٦
[⁶] السابق.
[⁷] ألف ليلة وليلة، طبعة نادرة على نفقة سعيد علي الخصوصي، صاحب المطبعة والمكتبة السعيدية، وفقا لطبعة مطبعة بولاق ١٨٦٣م
[⁸] اسماعيل حامد، موسوعة الاساطير الفرعونية، النافذة، ٢٠٠٨
[⁹]السابق.
[¹⁰] غاستون باشلار، ترجمة دكتورة مي عبد الكريم محمود، لهب شمعة ”دراسات فلسفية“، أزمنة للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الاولى ٢٠٠٥، ص: ٦٠
[¹¹] محمد حماد، خسر الخلافة وخلدته الريادة العلمية، صحيفة الخليج، ٧/٨/٢٠٢٠