سامح عيد التحرير 5 يناير 2017
انتهيت من قراءة الرواية الأهم للكاتب والأديب إبراهيم عيسى، وهى تحت عنوان «رحلة الدم.. القتلة الأوائل»، بدأها بمشهد مقتل على بن أبى طالب على يد عبد الرحمن بن ملجم، وكيف قبض عليه بعد قتله لعلى بن أبى طالب، ثم ذهب الكاتب بالقارئ فلاش باك لعمرو بن العاص أثناء فتح مصر، وكيف أرسل لهم عمر بن الخطاب، اليمنى عبد الرحمن بن ملجم كى يعلمهم القرآن فقد كان حافظًا وقارئاً للقرآن وحلل شخصية عبد الرحمن بن ملجم فى سياق روائى مفعم بالحيوية ومتطرق لسياق تاريخى من الأحداث المدونة بكتب السيرة والتاريخ. وأعتقد أن هذه الرواية سيكون لها تأثير كبير على الوجدان وخاصة لو تم صناعة فيلم تاريخى، أو سلسلة أفلام، لأن الرواية لم تنته من حيث ابتدأت، لكنها وقفت عند مقتل عثمان بن عفان، وتولى على بن أبى طالب الخلافة، بما يوحى بوجود جزء ثان أكثر صخبًا، يتعرض لأحداث الفتنة الكبرى، وصراع على بن أبى طالب مع جيش طلحة والزبير بقيادة أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، ثم صراعه مع معاوية بن أبى سفيان فى موقعة صفين، وما تلتها من أحداث جسام انتهت بمقتل على بن أبى طالب فى النهاية، وسيطرة الأمويين على الحكم. من الأمور الهامة التى تسربها الرواية، تلك الحالة الإنسانية عن هذا الجيل، ونزع القداسة والمثالية المبالغ فيها عن هذا الجيل، وكيف تطور الصراع على السلطة وعلى المال، كأى مجتمع إنسانى، وخاصة عندما تدفقت الأموال بغزارة من كل صوب وحدب، بسبب الحروب العسكرية والغزوات، كثافة الجوارى والأموال والدور التى تم الاستيلاء عليها بعد كل معركة وبعد كل غزو.
كيف صارت الأحقاد، والغضب والحقد والحسد، وكيف تطور الأمر إلى المؤامرات الداخلية والقمع من قبل الأنظمة الحاكمة الذى وصل بحاشية عثمان إلى الاعتداء على كبار الصحابة مثل عبد الله بن مسعود، وكذلك عمار بن ياسر، وكيف تم نفى أبو ذر وغيره من الصحابة عندما تمردوا على الولاة وعارضوهم، وكيف تولى أقارب عثمان الولايات، وكانوا أحداثًا وليسوا على مستوى المسؤولية وكيف اصطدموا مع كبار الصحابة، وكيف كانت تجبى الأموال من أطراف الإمبراطورية وخاصة من مصر وتتدفق على مركز الخلافة، وهى المدينة كى توزع كعطايا ومخصصات مالية لكبار الصحابة وأمهات المؤمنين، وعامة المسلمين وخاصتهم فى المدينة، وكيف أضحت المدينة مدينة ثراء وعز، كثرت فيها الجوارى وما فرغ بيت من جارية أو أكثر للخدمة والسقاية.
كيف حوصر عثمان، وكيف تألبت عليه الرعية بقيادة كبار القراء وأبناء كبار الصحابة مثل محمد ابن أبى بكر، أو محمد بن أبى حذيفة الذى تربى فى بيت عثمان نفسه وفى كنفه، وكيف غضب عمرو من عزله عن ولاية مصر، وكيف تألب غيره بسبب منعهم من الولاية أو ضعف العطايا، وكيف اتهم هؤلاء القراء عثمان نفسه بالكفر، وقُتل وبقرت بطنه ومُثل بجسده، وقطعت أصابع نائلة زوجته، وكيف تُرك ثلاثة أيام بدون دفن، وكيف رُفض دفنه فى مدافن المسلمين وهاجم الغوغاء الجنازة بالحجارة وسقط الجثمان على الأرض وانتهك جسده، وكيف دفن فى النهاية فى مقابر اليهود، وكيف تخلى معاوية الأموى عن خليفته ومنزله محاصر لمدة أربعين يوما ولدى معاوية الجيوش التى تحمى، وكيف تخلى عنه كبار الصحابة أمثال على بن أبى طالب وعمار بن ياسر والسيدة عائشة، بل على العكس كانت الأخبار تقول إن السيدة عائشة كانت تؤلب عليه، وتقول اقتلوا نعثلاً فقد كفر، ولم تحاول ردع أخيها محمد عن التأليب عليه والمشاركة فى قتله، وكيف ذهبت إلى مكة بعيدًا عن مسرح الأحداث عندما اشتدت، الكل تخلى عنه، لكنهم بعد ذلك طالبوا بدمه من على بن أبى طالب.
إنه التاريخ مجسَّد فى رواية سهلة القراءة وبلغة جزلة وثرية وفى سياق روائى ممتع، لن تبدأ الرواية حتى تنهيها، ومشاعرك كلها تتحرك مع الأحداث سلبًا وإيجابًا، ولكنك فى النهاية تخرج بانطباعات تقبع فى الوجدان، وتدفعك إلى التقبل العام لزلات البشر وهناتهم، لأننا لا نعيش فى مجتمع مثالى، ولم يكن الجيل الأول بهذه المثالية التى يريد المتطرفون الهجرة الحقبية إلى هذا الزمن الجميل كما يظنون، لم يكن جميلًا بالقدر الكافى، ومن مات من الصحابة الكبار ومن الجنود المسلمين عشرات الآلاف فى معارك بينية بين كبار الصحابة، وفى باطنه خلاف على سلطة وعلى أموال وعلى نفوذ، ويحتمل على ضغائن إنسانية بين أنداد.
أيضًا لا تختلف شخصية ابن ملجم المتطرف عن أشخاص يعيشون بيننا ويقلبون حياتنا جحيمًا، بسبب رؤيتهم للآخر والمغاير، وقناعتهم المطلقة بالحق المطلق الذى يمتلكونه، ويعطون أنفسهم سلطة باسم الله يمارسونها على البشر، نفس السلوك والطريقة هى من كفرت عثمان ورفضت دفنه فى مدافن المسلمين، وكفرت عليًّا واندفعت لقتله، ثلاثة من الخلفاء الراشدين تم قتلهم، حتى عمر بن عبد العزيز تم قتله بالسم، وهناك شكوك كثيرة للقتل بالسم لآخرين كثر، لأن موتهم تم بطريقة غامضة ومفاجئة.
ولهذا نفهم لماذا لا يريد الفقهاء من العامة الاطلاع على تلك الأحداث، وروجوا لمقولة هذه فتنة منع الله منها سيوفنا، فلنحمِ منها ألسنتنا، نظام اكفى على الخبر ماجور، لأنهم أسسوا لمفهوم فى منتهى الخطورة وهو عدالة الصحابة، والتى بنى عليه أهم علم وهو علم الرجال وعلم الحديث، ولو تم انتهاك هذه الحقبة معنويًا، سيهدم هذا الحصن المنيع الذى بناه أهل السنة لتأسيس دين جديد مغاير للدين الأول يستجيب لمصالح متغيرة. فإذا كان الشيعة من جهتهم جعلوا الوحى ممتدا عن طريق الإلهام الذى يأتى للأئمة والأولياء والآيات والفقهاء -دولة الفقيه- فإن أهل السنة جعلوا الوحى ممتدا بالكذب على النبى ووضع الأحاديث التى تؤسس لأغراضهم بالمدح والذم والأمر والنهى والقتل والغزو، ولكى يسربوا هذا الحمل السياسى وضعوه فى سياق كبير يحتوى على الفقه والطهارة والصلاة وكثير من الأمور الأخرى، حتى تتم مداراة الحمولة السياسية من طاعة الإمام وعدم الخروج عليه وأولوية قريش فى الإمامة والصبر على الفقر وعلى الظلم والانصياع التام للأنظمة الحاكمة، والسماح لقتال الناس وغزوهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، حتى يعصموا دماءهم، وأن رزق الرسول جعل تحت ظل رمحه، وأن الجهاد لتكون كلمة الله هى العليا وهو جهاد الطلب، هو ذروة سنام الإسلام، وتم تأسيس النص الثالث وهو الفقه على تلك الحمولة السياسية، بما أوقعنا فى مأزق غير قادرين على الخروج منه حتى الآن، وما زال يفاجئنا كل يوم بالإرهاب والقتل، هى رواية فى طريق الوعى الذى افتقدناه.