فى صباح يوم 26 سبتمبر 1962، أذيع نبأ قيام انقلاب فى اليمن «السعيد» بقيادة الزعيم (العقيد) عبدالله السلال ومقتل الإمام محمد البدر، خلال قصف قصر البشائر (قصر الحكم) فى صنعاء وقيام نظام جمهورى فى البلاد. كانت إذاعة «صوت العرب» هيأت الأذهان لقيام الثورة، ودعت قبل أشهر الشعب اليمنى للانتفاض ضد الإمام أحمد حميد الدين، وقبل الثورة بأسبوع واحد فقط، كان قد أعلن فى اليمن عن وفاة الإمام أحمد الذى حكم البلاد لنحو ثلاثين سنة، ولم يعرف أحد على وجه الدقة كيف مات، بل إن الكثيرين شككوا فى أنه مات قبل إعلان وفاته بيوم واحد كما زعم ابنه الإمام البدر، والأرجح أن ذلك كان قد حدث قبل ذلك بفترة، وأن الإمام البدر الذى كان وليا للعهد عندئذ أرجأ إذاعة الخبر حتى يتمكن من ترسيخ سلطته أولا. بدأت معارك الإذاعة بين البلدين (مصر واليمن ) عندما بث راديو صنعاء فى بداية سبتمبر 1961 هجوما شديدا على عبدالناصر فى قالب قصيدة شعرية من 64 بيتا من تأليف الإمام أحمد حميد الدين، ولم تمضِ أسابيع حتى كال عبدالناصر للإمام الصاع صاعين فى خطبة الاحتفال بعيد النصر. كان الإمام أحمد يحتفظ بمفتاح الإذاعة فى خزينته الخاصة، وكان المهندس المختص يأخذ منه مفتاحها كل يوم ليفتتح الإرسال ثم يعيد المفتاح إليه بعد ذلك، وكانت مواعيد الإرسال تعتمد على مزاج الإمام وعلى ارتباطاته ومواعيده. كان عبدالله جزيلان مدير الكلية الحربية ومدرسة الأسلحة هو الذى خطط للهجوم على قصر البشائر، وزود بعض الفصائل التى شاركت فى الثورة فى صنعاء بالسلاح. وكان المتوقع من الإمام البدر أن يسلم إذا ما حاصرت القوات القصر، لكنه أمر الحرس بإطلاق النار على المهاجمين، وأوفد قائد الحرس الزعيم عبدالله السلال للتفاوض مع الثوار، فأعلن انضمامه لهم ونصَّبوه قائدا عاما للقوات المسلحة باعتباره صاحب أكبر رتبة عسكرية (هكذا يمكن اعتباره نجيب الثورة اليمنية إذا ما قارنا الوضع بالثورة فى مصر). وفى حين أعلنت الإذاعة مقتل البدر فى الهجوم، كان قد تسلل عبر سرداب تحت القصر فى ملابس أحد الحراس، وهرب فى اتجاه السعودية. استولت «حركة الضباط الشبان» على حامية قصر البشائر وعلى صنعاء على الفور، ولم تستخدم فى ذلك سوى 13 دبابة و6 مدرعات وبضعة مدافع منها اثنان مضادان للطائرات، وكذلك سيطرت فى الوقت نفسه على حامية كل من تعز والحديدة. وكانت كل من السفارة المصرية والبعثة العسكرية المصرية فى اليمن على صلة وثيقة بالضباط الشبان، وعلى دراية بالتحضير للثورة ثم بتوقيت إعلانها، ومع ذلك فعندما قامت الثورة أرسل السلال إلى القاهرة برقية نصها: «تسلم فورا إلى قائد العروبة سيادة الرئيس جمال عبدالناصر.. نبلغكم بقيام الجيش بإعلان الثورة والإطاحة بحكم آل حميد الدين».
فى اليمن الثائر فى أول أكتوبر سافرنا بطائرة إلى اليمن، كنا مع عدد من كبار ضباط الجيش الذين ذهبوا فى البداية لتقدير الموقف، ورسم الخطط اللازمة قبل أن تبدأ قوات الصاعقة وغيرها سفرها فى اليوم التالى إلى كل من صنعاء وتعز، كانت طائرتنا متجهة إلى صنعاء، وكان مهبط الطائرات فى المطار مجرد طريق ممهد بالكاد، ولا أعتقد أنه كان مرصوفا بالأسفلت، وكان يجاوره كشك صغير لا بد أنه برج المراقبة. كان تدبير أمور معيشتنا وترتيبات عملنا أمرا صعبا وخاصة ما يتعلق بوسائل النقل، وقد نصحنى محمد عبدالواحد؛ المسئول الوحيد فى السفارة فى ذلك الوقت، أن أتوجه إلى «الزعيم» السلال شخصيا، ولم تكن هناك صعوبة فى تحديد لقاء معه فى اليوم التالى. قال السلال إنه للأسف لا توجد سيارة يمكن الاستغناء عنها لدى الحكومة، وإن أسرع حل أمامه أن يخصص لى سيارة الإمام البدر. عندما لاحظ ترددى قال: «هذا هو الحل الوحيد لديَّ الآن»، وهكذا لم يكن أمامى سوى القبول شاكرا، وقد نبهنى يومها إلى أنه لا يمكننا الحصول على بنزين للسيارة إلا بتوقيعه شخصيا، لكن تلك لم تكن أسوأ مفاجأة. المفاجأة الأسوأ كانت عندما تسلمت السيارة، وكانت سيارة أمريكية فارهة من أحدث طراز فى شركة «شيفروليه» على ما أذكر، وكانت لافتة للنظر إلى حد بعيد؛ لذلك كنت أحاول تفادى ركوبها كلما استطعت. عندما حضر أنور السادات إلى اليمن لتوقيع اتفاقية التعاون العسكرى بين البلدين، سلمت السيارة لمكتبه؛ إذ لا يليق أن يتحرك مسئول مصرى فى مكانته بسيارة متواضعة فى حين أركب أنا شيفروليه، واستلمتها عند سفره. حضرت إحدى جلسات السادات خلال هذه الزيارة، وكان يجلس مع بعض شيوخ القبائل اليمنية، ويبدو أن الحديث كان يدور قبل دخولى عن تدخل الإنجليز فى حرب اليمن وعن ذكريات السادات عندما كان يشارك فى المقاومة ضد القوات البريطانية فى القناة أثناء احتلالها لمصر، أذكر أنه قال: «أنا بإيدى خلصت على أذنابهم فى مصر، وكمان دوختهم فى معسكراتهم فى القناة.. كل يوم آجى لهم من حتة.. دوخينى يا لمونة كده» (ربما كان يقصد اتهامه بالاشتراك فى مقتل الوزير الوفدى أمين باشا عثمان رئيس جمعية الصداقة المصرية البريطانية فى عام 1946)، وكان يستخدم يده كما لو كان يعصر بها شيئا. التفت إلى الشيوخ فلمحت فى عيونهم نظرة دهشة؛ ربما لأنهم لم يستوعبوا تماما ذلك التعبير الغريب على آذانهم، ويبدو أن السادات انتبه إلى ذلك فاعتدل فى كرسيه، وقال: «يعنى إنجليز دخلوا الحرب، الجن الأزرق دخل الحرب، أنا باقول لكم، أنا مش سايب كرسيّه ده إلا لو طلعوا الإنجليز من عدن، يعنى مابنخافشى من الإنجليز، ولا إنتو حتخافوا من الإنجليز ولا من الجن الأزرق»، عندئذ هلل واحد من الشيوخ، ورفع رشاشه بيده، فأخذ السادات يكرر: «يعنى اطمنوا.. اطمنوا تمام». بعد أن سجلت رسائلى الأولى مع وحدات الصاعقة، بدأت أجرى أيضا أحاديثَ مع شخصيات يمنية، لعل أطرفها كان الحديث مع محمد حلمى العراف الخاص بالإمام الذى كان يلقب بالفلكى، وكان الإمام لا يقدم على قرار أو يتحرك إلى مكان قبل أن يدله ماذا تقول النجوم فى ذلك. يومها قال لى إن حسابات الفلك كانت قد أكدت له أن ثورة ستقوم فى اليمن، ولكنه خشى أن يبلغ الإمام أحمد حتى لا يأمر بحبسه أو إيذائه، وقد صدر حكم بإعدام حلمى بعد الثورة بتهمة الفساد، وسجن فى تعز انتظارا لتنفيذ الحكم، وأفرج عنه قبل تنفيذه. عندما تحركت مع الوحدات المقاتلة خارج صنعاء كان القتال لا يزال حاميا بين الملكيين والجمهوريين، وتوسعت ساحة المعركة فى أنحاء متفرقة فى اليمن، وكان السعوديون لا يكفون عن التدخل بالمال والسلاح، ولكن البعض أخذ على القيادة العسكرية المصرية والسفارة المصرية هناك أنهما أيضا قاما بتوزيع أموال على رجال القبائل لشراء ولائهم. كانت اليمن مجاهل لم يكتشفها المصريون من قبل، ولم تكن هناك خرائط طوبوغرافية يمكن الاستعانة بها فى العمليات العسكرية، وكانت طبيعة الأرض الجبلية مختلفة تماما عما ألفه المصريون، وقد أنهك ذلك القوات الجوية كما أجهد القوات البرية وواجه الضباط والجنود متاعب عديدة فى التعامل مع اليمنيين الذين لا يعرفون طبائعهم وعاداتهم، وكذلك فى التأقلم مع المناخ، خاصة عندما تتباين درجات الحرارة بين النهار والليل أو بين مناطق الجبال والوديان. حدثت مفاجأة كبرى فى أوائل أكتوبر؛ إذ أرسلت السعودية طائرة تحمل عتادا عسكريا إلى القوات الملكية فى اليمن، ولكن قائد هذه الطائرة توجه بها إلى مطار أسوان. وجهت الخارجية السعودية عندئذ خطابا إلى مصر تطلب إعادة الطيارين والفنى الذى كان يصاحبهما إلى الرياض باعتبار أنهم فارون من الخدمة العسكرية، لكن مصر تجاهلت الخطاب وأعادت شحن العتاد إلى قوات الثورة فى اليمن. وكانت القاهرة قد رصدت فى ذلك الحين وجود جنود من الحرس الوطنى السعودى ضمن قوات الملكيين، وكذلك عناصر إيرانية (أثناء حكم الشاه عندئذ) وبعض المرتزقة الفرنسيين الذين حاربوا فى الجزائر، والإنجليز الذين حاربوا فى عدن وروديسيا، والبلجيكيين أيضا، وكان يقال وقتها إن هناك ضباطا إسرائيليين همهم الأول هو مراقبة القوات المصرية عن قرب ليتعرفوا على مدى كفاءتها ومواطن ضعفها. أما الدعم البريطانى فكان مكشوفا ومتوقعا؛ ذلك أن بريطانيا كانت تخشى أن تتسلل الثورة إلى محميتها فى عدن، كما أنها كانت تود الانتقام من جمال عبدالناصر الذى كان يهاجم حلف بغداد. فى نهاية أكتوبر كانت قوة الجيش المصرى فى اليمن بكاملها تكاد لا تزيد على ألفى جندى، وكان عبدالناصر معارضا فى البداية للتوسع فى التدخل العسكرى، على الرغم من أنه كان يود أن يستعيد مكانته بعد انفصال سوريا عن دولة الوحدة، وأن يساند الثوار فى اليمن الجنوبى، ويهز أركان حكم الملك سعود، ويؤكد زعامته للأمة العربية. وكانت هناك أفكار بالاعتماد على متطوعين، ليس من مصر فقط وإنما من دول عربية أخرى، لكن المشير «عامر» كان يضغط، كما فهمت، لدخول مصر بثقلها حتى تستطيع أن تسيطر على منافذ البحر الأحمر من باب المندب فى الجنوب حتى قناة السويس شمالا، وتغلبت وجهة نظره فى النهاية، وأجمع المجلس الرئاسى فى القاهرة على الحملة العسكرية، فبدأت ألوف أخرى فى التدفق. وعندما تحسن الموقف العسكرى فى نهاية إبريل 1963، نصح اللواء أنور القاضى قائد القوات المصرية فى اليمن بعودة الجانب الأكبر من قواته إلى مصر خاصة أن الجيش اليمنى كان قد بدأ بناؤه، كما أن عددا من الجبهات كان قد هدأ. وبدأت القوات تعود إلى مصر بالفعل وتقام الاحتفالات لاستقبالها، إلَّا أن الموقف سرعان ما تبدل فتورطت القوات المصرية فى وحل اليمن مرة أخرى حتى إن المراقبين الأجانب سموها «فيتنام مصر»، ويقال إن عدد القوات وصل إلى ذروته فى منتصف عام 1965 عندما بلغ 70 ألفا، بقى جانب منهم هناك حتى ما بعد انتهاء نكسة 1967. أما أنا فكنت قد عدت إلى القاهرة مع بداية 1963. انقلاب فى 8 فبراير 1963 دق جرس الهاتف فى بيتى وكان المتحدث الدكتور حاتم، قال: «تعلم أن انقلابا تم فى العراق.. اليوم تذهب إلى السيد سامى شرف، وتنفذ ما يقوله لك».. ذهبت إلى سامى شرف فقال إن وفدا إعلاميا مصريا سيسافر فى اليوم التالى إلى بغداد وإننى سأكون ضمن هذا الوفد مع مصور اختاره، ولكن وجود المصور معى سيكون للتعمية حتى نوحى بأن المهمة هى تغطية الأخبار.. «مهمتك الأولى هناك هى إقناع المسئولين بإذاعة إنتاج التليفزيون المصرى على شاشة بغداد.. طبعا لن تقول ذلك صراحة.. اعمل ما تراه مناسبا، وإذا احتجت إلى مساعدة اتصل بفخرى عثمان السكرتير الثالث بالسفارة»، وأردف أن الدكتور حاتم سيتابع تنفيذ المهمة، وأن الطريقة الوحيدة للاتصال به هى إملاء الرسائل فى مكتب الملحق العسكرى، حيث ترسل بالشفرة من هناك.. فى اليوم التالى تجمَّع فى حديقة مكتب معلومات الرئاسة فى منشية البكرى وفد الصحفيين المصريين، وأعطانى سامى شرف مظروفا صغيرا به رسالة توصية موجهة منه إلى فخرى عثمان السكرتير الثالث فى السفارة. فى بغداد عندما وصلنا بغداد يوم 10 فبراير كان إطلاق النار لا يزال مسموعا بوضوح فى بعض شوارع العاصمة العراقية، التى كانت تعج بالدبابات والمصفحات المجهزة بمدافع الماكينة، وخاصة فى منطقة ميدان «باب المعظم»، حيث توجد وزارة الدفاع التى كانت معقل عبدالكريم قاسم، وكان قاسم قد أعدم مع ابن خالته رئيس محكمة الثورة العقيد عباس المهداوى فى استوديو التليفزيون الذى نقلا إليه تحت الحراسة فى اليوم السابق لوصولنا. وضعنا حقائبنا فى غرفتنا بالفندق، وانطلقت مع زميلى المصور رشاد القوصى إلى وزارة الدفاع.. كانت بقايا المعارك لا تزال تدور هناك، وكانت هناك سيارة «جيب» تربط خلفها ضابطا من الموالين لقاسم وتسحله على الأرض.. وعندما اقتربنا من وزارة الدفاع دخلنا مرمى النيران المتبادلة التى كادت تفتك بنا، وكانت النيران لا تزال مشتعلة فى جانب من الوزارة بدا كما لو كان قد حطم تماما، وأمامه مظاهرة محدودة لمجموعة من البعثيين تهتف بسقوط الشيوعية. كانت الأوضاع حينئذ قد بدأت تستتب، وبدأت القيادات الجديدة البعثية والقومية تتولى إدارة مؤسسات الدولة.. كانت الإذاعة والتليفزيون من نصيب عبدالستار الدورى، وهو قيادى بارز فى فرع حزب البعث فى بغداد، وعندما تولى مسئوليته الجديدة لم يكن قد دخل التليفزيون من قبل.. عندما ذهبت إليه استرحت له ويبدو أنه استراح لى كذلك، وتوطدت العلاقة بيننا بسرعة حتى إننى خاطرت وصارحته فى اللقاء الثالث بيننا بمهمتى، فقال بحماس ظاهر: «عز المنى.. أنا فى الانتظار». هكذا ذهبت إلى مكتب الملحق العسكرى لأبلغ الدكتور «حاتم» بالنبأ، وأطلب منه إرسال ما يريد من برامج.. كان الملحق العسكرى المصرى فى بغداد فى ذلك الحين هو العقيد عبدالمجيد فريد الذى أصبح فيما بعد سكرتيرا عاما لرئاسة الجمهورية فى القاهرة، أما مساعده فكان المقدم السورى طلعت صدقى الذى كنت قد التقيته قبل سنوات فى دمشق، ولكن كليهما كان قد طرد من العراق.. كانت العلاقات المصرية العراقية قد توترت أيام حكم قاسم الشيوعى إلى حد بعيد، وكانت سفارتنا فى بغداد مقصدا معتادا للمظاهرات المعادية، وهكذا فعندما تولى عبدالسلام عارف الرئاسة تنفست القاهرة الصعداء على الرغم من أن حزب البعث العربى الاشتراكى هو الذى كان له الدور الأبرز فى الانقلاب، ولم تكن أيام عارف كلها مريحة بالنسبة إلى مصر؛ إذ نجح البعثيون فى السيطرة عليه وزحزحته عن القوى القومية الأخرى حتى مقتله فى 1966، إثر سقوط طائرته الهليكوبتر فى حادث غامض.. فى اليوم التالى اتصل بى مكتب الملحق العسكرى لإبلاغى أن رد الدكتور حاتم وصل، ولما اطلعت عليه كدت أقفز من السعادة لأن المواد ستصل بعد 24 ساعة من القاهرة فى طائرة مصر للطيران.. أبلغت الدورى الذى لم يكن أقل ابتهاجا، وأصدر أوامره بإعداد قاعة عرض خاصة حتى أعود من المطار لنشاهد معا ما أرسلته القاهرة، وعندما عدت بالصندوق الذى يحتوى على الشرائط أطفئت أنوار القاعة، وجلست إلى جانب الدورى وحدنا.. كانت المفاجأة عندما بدأ العرض.. كان أول ما شاهدناه أغنية «ناصر كلنا بنحبك».. ياللغباء، دعاية سافرة على هذا النحو، هكذا قلت لنفسى، ولكن المصائب تتالت بعد أن شاهدنا ثلاثة شرائط أخرى كانت كلها أفلاما تسجيلية عن عبدالناصر وثورته.. اعتذرت للدورى.. قلت إن خطأ ما لا بد أنه حدث، وإننى سأبلغ القاهرة على الفور، وكنت واثقا من أن الأمر سوف يتم تصحيحه على نحو السرعة. هكذا عدت ثانية إلى مكتب الملحق العسكرى حيث كتبت رسالة سريعة إلى الدكتور حاتم بأسلوب تلغرافى: «وصل الطرد.. الشرائط التى شاهدتها مع مدير الإذاعة والتليفزيون كلها تتحدث عن سيادة الرئيس وعن الثورة بشكل مباشر وربما مستفز للمسئولين البعثيين هنا.. أرجو تفضلكم بإرسال مواد أخرى تحمل الرسالة الإعلامية التى نريد إبلاغها تدريجيا.. احترامى».. لم يأخذ الدكتور حاتم وقتا طويلا فى الرد على رسالتى؛ إذ جاءت لى منه رسالة فى المساء، وعندما استدعانى مكتب الملحق العسكرى لاستلامها وجدتها مختصرة تماما وواضحة جدا: «يحضر حمدى قنديل إلى القاهرة، ويحل محله ممدوح زاهر (كبير مندوبى الأخبار)، ولا ينتظر حمدى وصول ممدوح»، وهكذا عدت إلى مصر فى اليوم التالى. الحجر الصحى فى مطار القاهرة انتظرتنى مفاجأة أخرى، أننى لم أحقن بلقاح ما كان علىّ أن أتناوله قبل سفرى من بغداد، أو هكذا أبلغنى الرجل الذى قادنى إلى الحجر الصحى.. اتصلت بمكتب الدكتور حاتم لأحيطهم بالمشكلة لكن أحدا لم يتحرك.. حاولت الاتصال بالدكتور النبوى المهندس الذى كان وزيرا للصحة، ولكن منزله أبلغنى أنه يحضر حفل أم كلثوم، وكان اليوم بالفعل يوم خميس؛ فاضطررت إلى الاستسلام للحجر الصحى حتى انتهى بعد أيام، وعندما ذهبت إلى الدكتور حاتم فى مكتبه انتظرت ساعات وساعات يوما بعد آخر دون أن يأذن بالمقابلة على غير ما اعتدت. بعد نحو أسبوع استقبلنى الوزير، وما إن دخلت مكتبه حتى قال: «يعنى تفضحنا كده عند الرئاسة».. سألت: «فضيحة إيه يافندم.. رئاسة إيه يا فندم؟».. قال: «ألا تعرف أن البرقيات من مكتب أى ملحق عسكرى تمر بالرئاسة أولا، وهى التى توزعها بعد ذلك على أصحابها؟».. قلت إننى لم أعرف ذلك من قبل، وتعليمات السيد سامى شرف تقضى بأن أوجه رسائلى من مكتب الملحق.. «طيب اتفضل دلوقتى».. عاد الدكتور حاتم بعد أيام فأبلغ إدارة الأخبار بالسماح لى بقراءة النشرات بعد أن عوقبت على فضح الإعلام لدى الرئاسة.. كانت هذه حكاية زيارتى الأولى إلى العراق.