تأليف: ريشار جاكمون ترجمة: بشير السباعي
علي كثرة الكتب التي أصدرها المستعربون حول الأدب المصري الحديث تحليلا وتنظيرا وتقعيدا، تتميز محاولة المستعرب الفرنسي ريشار جاكمون بكونها الأشد حميمية ومعايشة واقترابا من الجوهر. فريشار ليس مستشرقا جاءنا من عند الخواجات محملا برؤاهم ودهشتهم الساذجة من عالم ألف ليلة الحسي والشرق الساخن جنسيا، بل هو مستعرب، قضي في مصر نحو خمسة عشر عاما، صديقا للعشرات من الكتٌّاب والفنانين من كل الأجيال والاتجاهات. والفرق بين المستشرق والمستعرب واضح كما يري القارئ.
ولا يعني هذا أنه ليس منحازا، علي العكس، ينحاز ريشار للحرية واستقلال الأدباء والأدب عن الدولة ومؤسساتها وعن الرقابة الذاتة، حيث يتوقف طويلا عند احتكار الثقافة وقانون الحريات المتناقضة ورقابة الشارع والنشر والسوق والهيمنة والهوية وهامش الحقل الشرعي والأجيال والجماعات والشلل. تلك العناوين السابقة مجرد مثل علي الجهد التحليلي والتنظيري الذي استخدم ريشار من خلاله منهج عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيير بورديو ليكشف لنا عن حقائق مدهشة وجديدة علينا أن نقرأها بعناية.
ومنذ السطور الأولي لكتابه يتضح انحيازه للاستقلالية في جميع حقول الإنتاج الثقافي، وانحيازه في نفس الوقت وقناعته ب'عالمية قيم الحقيقة والحرية التي يتعين علي العالم والفنان معا أن يدافعا عنها متضامنين، مهما كان انتماؤهما الوطني أو الديني أو العرقي' حسبما كتب في مقدمته. وأضاف أيضا: 'إن فكرة استقلالية حقول الإنتاج الثقافي تعد، عند بورديو وعند من ينحو منحاه مفهوما تحليليا لدراسة ما يدور من صراعات في حقل ثقافي ما، ومشروعا سياسيا وأخلاقيا في أن واحد، هو الدفاع عن المثقف الحر، المستقل ضد كل أشكال السلطة التي تهدد استقلاليته: سلطة الدولة، سلطة الدين، سلطة السوق، بل وسلطة الآخر المهيمن ثقافيا (الآن) وسياسيا (أثناء الاستعمار).. حسبما كتب ايضا في مقدمته. وفي بداية حواري معه حول هذه القضايا قلت له:
علي الرغم من أن كتابك أكاديمي وملتزم بكونه أكاديميا، إلا أنه مع ذلك يتميز بالحيوية الشديدة، فقد أخلصت للواقع الذي تعمل عليه من أجل فهمه وتحليله، فكيف جمعت بين الأكاديمية وما يشبه السيرة الذاتية شبه السرية للأدب المصري الحديث. أنا محظوظ جدا إذا قارنت بيني وبين زملائي المستعربين لأني عشت في الوسط الذي حللته أكثر من عشر سنوات، وهي مدة قلما تتوافر لباحث أجنبي، ثم أنني عشت في هذا الوسط ليس كباحث يستكشفه من الخارج ولكن كشريك عمل أتعامل مع الناشرين والكتٌّاب والمترجمين في ظروف مهنية وليست بحثية. ومحظوظ أيضا لأنني درست العلوم الاجتماعية قبل أن أدرس اللغة العربية والنقد الأدبي، وهكذا وقعت علي بيير بورديو الذي أعتبره أهم عالم معاصر في علم اجتماع الثقافة، لأنه أخرج الدراسات الأدبية من الثنائية العقيمة.. ثنائية القراءة الخارجية للأدب، أي الأدب بوصفه مرآة للتاريخ أو المجتمع، الوقراءة الداخلية أي الأدب بوصفه نصا مكتفيا بذاته يقرأ بالمقارنة مع نصوص أخري بعيدا عن أي اعتبار اجتماعي أو تاريخي واستبدل بورديو هذه الثنائية بالجمع بينهما عندما توصل إلي مفهوم الحقل الأدبي. والأخير يعني الوسط الاجتماعي الذي ينتج فيه الأدب. هذا الوسط له تاريخه الخاص ومؤسساته الخاصة وقيمه الخاصة، ودراسة تاريخ هذا الحقل هي التي تعطينا المفتاح لفهم تطور الإبداع وديناميته الخاصة.
هل هناك مثال محدد استبدلت فيه مثلما فعل بورديو هذه الثنائية بمفهوم الحقل الأدبي؟ الدليل الأوضح علي وجود الحقل الأدبي وفعاليته هو فكرة التجديد. إن كل جيل جديد من الكتٌّاب يستمد مشروعيته من أنه جدٌّد في النوع الأدبي أو الفن الذي تخصص فيه. هذه الفكرة فرضت نفسها في مصر في بداية القرن العشرين، وأعتقد أن أول تعبير واضح عنها هو ما نجده في مقدمة الديوان التي كتبها العقاد والمازني وطالبا فيها بحقهما في تجاوز نموذج القصيدة الاحيائية، أي أنه لأول مرة يطالب الكاتب الشاب بحقه في الوجود الأدبي عن طريق 'قتل الأب'. ثم تكررهذا بعد ذلك مع كل جيل من الشعراء، مما أوصل الشعر العربي لتجاوز القصيدة التقليدية للرومانسية للتفعيلة وأخيرا قصيدة النثر. هذا التطور لا يفسره التاريخ الممتد للتحولات الكبري في المجتمع، ولا تفسره كذلك علاقة النصوص ببعضها، وإنما تفسره الدينامية التاريخية الخاصة بالحقل الشعري.
هل تقصد أن هناك دينامية خاصة للحقل الشعري منفصلة عن التحولات الكبري في المجتمع؟ نعم.. بل هي منفصلة عن الدينامية الخاصة بالحقل الروائي، بدليل أن الأجيال الكبري التي غيٌّرت مجري تاريخ الشعر لا تتزامن مع مثيلتها في الرواية. فنحن مثلا نتحدث في الشعر المصري عن جيل الخمسينيات وجيل السبعينيات، بينما نتحدث في الرواية عن جيل الستينيات، أما الستينيون في الشعر فهم تابعون لرواد الشعر الحر، مثلما هو الحال بالنسبة للسبعينيين في الرواية. لكن ما يضلل النقاد أن الأجيال الأدبية الكبري تزامن ظهورها مع أحداث تاريخية كبري، ثورة 1919، ثورة 1952، هزيمة 1967، حرب الخليج الأولي.. مما يعطي انطباعا أن هذه التيارات الأدبية مجرد رد فعل لظرف تاريخي معين.
لكن واقع القصة القصيرة علي سبيل المثال.. يشير إلي ما يتناقض مع ما تقوله. فالقصة ارتبطت علي نحو غير ميكانيكي بالطبع بالهبات والانتفاضات الكبري في المجتمع. فمثلا جيل المدرسة الحديثة هو جيل ثورة 1919 بامتياز، ويوسف إدريس ابن انتفاضة 1946، والقصة في الستينيات بلغت ذروتها عشية وبعد هزيمة ..1967 وهكذا.. فما رأيك؟ طبعا لا أنفي وجود تفاعل بين الكاتب والأحداث الكبري خاصة في مجتمع يعتبر فيه المثقف نفسه مكلفا بالتعبير عن مجد الأمة، ولكن هذا التفسير هو المعروف والشائع، وهو غالبا ما أعطاه النقاد أهمية مبالغا فيها أو جعلوا منه التفسير الوحيد لحركة الإبداع. لذلك وجدت من الضروري (لوي العصا في الاتجاه المعاكس) حسبما عبٌّر بورديو ويعني اللجوء إلي نوع من المبالغة لإثبات فكرة تناقض التيار السائد. فبالنسبة للقصة القصيرة نستطيع أن نقول أنها مرت منذ جيل المدرسة الحديثة، وحتي جيل التسعينيات بمراحل تشبه المراحل التي مرت بها القصيدة، أي التطور التدريجي والتخلي عن القيود الخاصة بالمضمون الواقعي أو بالشكل السردي، إلي أن أصبحت تشبه الآن في بعض الحالات قصيدة النثر، بل إن هناك كتابات يصعب تحديد جنسها: هل هي قصة قصيرة أم شعر منثور؟
لاحظت أنك تتعامل مع الدور الذي يكاد الكتٌّاب أن يجبروا إجبارا علي الانخراط فيه في مصر وهو دور يقترب من السياسة بشدة، لاحظت أنك تتعامل معه أحيانا بوصفه جانبا سلبيا قلل الكثير مما كان ممكنا أن يتطور إليه الإبداع.. هل هذا صحيح؟ هذه هي الإشكالية الأساسية في الكتاب. هذا الدور المفروض علي الكتاب، هو أيضا دور يسعون إليه. أي أنه قيد وفرصة معا، إنه يقيد حريتهم في التعبير الأدبي، وفي نفس الوقت يحميهم من مزالق التجريب من أجل التجريب أو الفن للفن أو البرج العاجي. لذلك اعتبرت أن الجماليات السائدة حاليا في الحقل المصري، وهي الجماليات التي فرضها جيل الستينيات هي محاولة للإمساك بطرفي العصا: أي أن تكون الكتابة ملتزمة أي مرتبطة ارتباطا وثيقا بقضايا المجتمع، وفي نفس الوقت تكون متحررة تماما من كل القيود والتي يفرضها هذا الالتزام. وأنا كقارئ أنحاز دائما للأعمال التي تقترب من هذه المعادلة الصعبة: أي بعبارة أخري تبنيت الجماليات السائدة في الحقل الأدبي المصري. لكن الواقع أن الأعمال التي تقترب من هذه المعادلة المعجزة ليست سوي قلة قليلة ما يصدر، والغالب هو وقوع العمل الأدبي في الذرائعية، أي أن الأدب ليس غاية، بل فقط مجرد وسيلة أو ذريعة للتعبير عن رسالة سياسية أو أيديولوجية، وهذا نتاج للواقع الاجتماعي المهني الذي يعيشه معظم الكتٌّاب، هو ما سميته ثنائية الكاتب بالمعني القديم، أي الموظف الكاتب، وبالمعني الحديث الفنان الحر من كل قيد. ومن هنا عنوان الكتاب 'بين كتبة وكتٌّاب' وهذا لا يعني أن هناك كتبة من ناحية، وكتاب من ناحية أخري، بل الظرف التاريخي والاجتماعي الذي يجد نفسه فيه.
لاحظت أنك أوردت ملحقا للفائزين بجوائز الدولة منذ انشائها.. ما السبب؟ هذا الملحق قد يبدو غريبا علي القارئ، إلا أنه ليس ملحقا للكتاب بل لفصل رقابات ورقباء. وفي هذا الفصل حاولت أن أبين أن الدولة تساهم في تحديد المعيار الأدبي ليس فقط بالسلب، أي عن طريق نبذ ما تراه خارجا عن معاييرها هي، ولكن أيضا بالإيجاب فدرست الدور الذي يقوم به المجلس الأعلي للثقافة، أو للفنون والآداب سابقا، لفرض معيار معين عن طريق جوائز الدولة، وكذلك درست المناهج المدرسية التي تقدم الأدب الحديث بشكل محدد وبذلك تحاول هي الأخري فرض معيارها.
لماذا تلجأ شأن نقاد مصريين آخرين لإطلاق صفة جيل كل عشر سنوات.. ألا تري أنه ليست هناك أمة في التاريخ تستطيع أن تنجب جيلا أدبيا كل عشر سنوات؟! أنت بذلك تخلط بين تعريفين لكلمة جيل: التعريف الديموجرافي والتعريف الجمالي، وهذا يدلل علي المشاكل التي يمكن أن تثيرها هذه الكلمة. وأشير هنا إلي الفصل المنشور في هذا العدد من الكتاب والذي يتناول تحليل هذه الكلمة، ورأيي أن السبب الأساسي لشيوعها هو عدم وجود سوق حقيقية للأدب بالمعني الاقتصادي، فالموارد والمزايا التي يمكن للكاتب الحصول عليها لا تأتي من بيع كتبه، بل من الدولة، وتتعامل الدولة مع الكاتب مثلما تتعامل مع أي موظف آخر، أي أنها ترقيه وتكافئه حسب أقدميته!! وإذا قارنت ما يحدث في الحقل الأدبي بما يحدث في الفنون التي تحظي بسوق أوسع، ستجد أن عنصر الجيل لا يلعب نفس الدور فيها مثل الموسيقي والتمثيل أو الإخراج السينمائي.
في نهاية كتابك تشير إلي أن الفترة القادمة لن تشهد ما يسمي بموت الكاتب الكبير، أي سقوط المثقف التنويري بوصفه ضمير الأمة، بل علي العكس ستستمر هذه المعاني مادام نسق العلاقات بين الكتاب والدولة والجماعة القومية والخارج لن يطرأ عليه تحول جوهري.. ما تنبؤك تحديدا؟ هذا هو موضع الخلاف بيني وبين أصدقائي من كتٌّاب التسعينيات وكما تعلم المقولة السائدة الآن بينهم هي سقوط الدور التنويري والجماعي للكاتب والعودة إلي الذات الفردية والإعلاء منها. وأنا أري أن جيل التسعينيات يكرر إلي حد بعيد، أو قل إلي حد أكبر مما يتصورونه تجربة جيل الستينيات. بدأ الستينيون ثائرين علي نموذج الكاتب الناصري، ثم تحولوا إلي المزج بين الالتزام والتجريب، أو ما أسميته 'الازدواجية السحرية'، وفي رأيي أن العديد من عناصر الثورة التي نجدها عند التسعينيين اليوم تعود إلي موقعهم الحالي، أي كونهم مازالوا مبتدئين ومايزالون محرومين من الموارد. وإذا كانت الدولة ستجبقي نفس السياسات، أي ضبط واحتواء المثقفين، وإذا كان سوق الأدب سيظل محدودا كما هو الحال الآن، وإذا كان الخارج سيظل مهيمنا كما هو الآن، فأعتقد أن الشباب الطليعيين الثائرين الذين نقرأهم الآن سيمرون بتطور لا يختلف كثيرا عن الذي مر به آباؤهم.
أخيرا.. أصبحت الترجمة إلي اللغات الأجنبية الآن أحد المعايير الأساسية التي يتم بموجبها صعود الكاتب والاعتراف به.. فهل تري أن هذا أثٌّر علي الكتابة ذاتها، وبأي معني؟ هذا ليس جديدا، فمحمود تيمور كان في الثلاثينيات، والأربعينيات يدفع من جيبه الخاص للمترجم، أما الجديد فهو أن السوق الخارجية تعد الآن أكثر انفتاحا علي الآداب المهمشة سابقا، أو آداب الأطراف، وبالتالي يفكر الكاتب اليوم في الترجمة أكثر مما كان يفكر فيه أيام الناصرية. لكن المهم هو علاقة التبعية التي تربط بين الثقافة العربية الحديثة والثقافة الغربية، والتي تفسر الأهمية التي يوليها الحقل الأدبي للترجمة. ومن الطبيعي بالتالي أن يؤثر هذا علي الكتابة، ولكن هذا التأثير غالبا ما يعتبر سلبيا في الوسط الأدبي العربي، لكنني أري أن له مع ذلك وجها إيجابيا عندما يكون حافزا للكاتب علي الإجادة. فالكتابة للتصدير كما يقولون لا تعني فقط كتابة الموضوعات المطلوبة عند الغرب، لكنها تعني أيضا صناعة منتج أدبي قابل للتصدير بمعايير الجودة العالمية، وليس بمعايير الهيئة المصرية العامة للكتاب!! لذلك كانت علاقة الكاتب المصري بالخارج دائما لها وجهان: الوجه الإيجابي لأن الحقول الأدبية السائدة عالميا تحظي في الواقع باستقلالية أوسع من الحقل الأدبي العربي، وبالتالي يكون اللجوء إلي الخارج في أحيان كثيرة طريقا مشروعا للهروب من القيود الداخلية. أما الوجه السلبي فيتمثل في الرؤية الاستشراقية المتعالية للثقافة الغربية التي ماتزال مؤثرة كثيرا في الغرب، وكنت آمل أن تتقلص هذه الرؤية الزائفة في الثمانينيات والتسعينيات بفضل الترجمات والنشاط الأدبي والنقدي للتعريف بالثقافة العربية، كما هي في الواقع، حتي جاءت أحداث 11 سبتمبر لتعيدنا إلي الوراء لمدة قرن علي الأقل.
ففي المقام الأول، يسهم هذا المعيار المزدوج في زيادة تسييس الحقل بأشكال مختلفة. فالكٌتاب يستخدمون، في صراعاتهم الرمزية، خطابا مستعارا من الحقل السياسي ويستثمرون رأس مال اجتماعيا جرت مراكمته في هذا الحقل. وفي اتجاه مقابل، يستثمرون الحرية الأوسع التي تهيمن داخل الحقل الثقافي لكي يستوردوا إليه الصراعات والمناقشات التي لايمكن أن تدور بحرية في الحقل السياسي، وذلك بإلباسهم قناعا لهذا الصراعات والمناقشات. وهكذا تصبح الكتابة الأدبية، بفضل خصائصها النوعية، أداة ممتازة لإبداء النقد السياسي والاجتماعي. وفي عهد عبدالناصر، كان الإبداع والنقد الأدبيان، بالنسبة لمثقفين عديدين، بديلا للفعل السياسي أو امتدادا طبيعيا له. ولم تكن هذه الظاهرة جديدة: فمنذ الأربعينات بالفعل، نجد أن الحركات السياسية التي تدور في الفلك الماركسي، والمحظورة بصفتها هذه، قد أنشأت جمعيات ومجلات أدبية صاغ فيها مثقفوها بشكل علني الصيغة الأدبية أو الفلسفية أو الفنية لإيديولوجيتهم ولصراعاتهم السياسية السرية . والحاصل أن هذا التقليد الخاص بالتداخل بين الطليعية الأدبية أو الفنية والطليعية السياسية سوف يستمر بعد عام 1952، ولن نرصد إلاٌّ في التسعينيات قطيعة مع هذا النموذج القديم علي شكل عزوف شامل من جانب الطلائع الأدبية الجديدة حيال الفعل السياسي، العلني أو السري. وفي نسق الأفكار نفسه، ولعب الالتزام النضالي دورا جوهريا في التكوين الثقافي، بل والأدبي، لكتٌّاب عديدين تممت 'مدرسة الحزب' تكوينهم المدرسي والجامعي. حيث كان هذا التكوين بالغ الكفاءة، وذلك بفضل الوقت الذي كان يجب شغله كما بفضل تنظيم منهجي للعمل. وعلي الرغم من المكابدات البدنية والنفسية التي تحملها ضحايا القمع السياسي، إلاٌّ أنه كان مولٌّدا لاستعدادات ولأعمال أدبية ربما ما كانت لتري النور لولاه.
والحال أن المعيار المزدوج الذق فرضته السلطة إنما يرغم الكتاب علي استحداث لغة مزدوجة ذات أشكال ومضامين متغيرة وذلك بحسب الوضعية المزدوجة، الأدبية والسياسية، لكل كاتب. ومع الاعتراف بمشروعية المطلب، الذي غالبا ما عبٌر عنه الكتٌّاب، والخاص بوجوب الحكم عليهم (بما في ذلك في سياستهم) استنادا إلي العمل الأدبي وليس إلي خطابهم غير الأدبي، إلا أنه يبقي أننا لايمكننا أن نفهم هذا العمل فهما كاملا بإغفال النظر إلي هذا الخطاب، وبشكل أعم، إلي موقف وإلي مسيرة كاتبه في حقل السلطة.
وإذ تقارن سيزا قاسم الكتابين اللذين كرسهما صنع الله إبراهيم (ولد في عام 1937) لسد أسوان العالي، والذي يعد ملحمة قومية بامتياز لزمن عبدالناصر إنسان السد العالي (1967)، وهو عبارة عن ريبورتاج اشترك معه في تحريره صديقاه كمال القلش ورءوف مسعد (ولد في عام 1938)، وروايته نجمة أغسطس (1974، الترجمة الفرنسية: 1987)، فإنها تبين كيف أن الريبورتاج الذي يقدم نفسه بوصفه خطاب صدق 'إنما يعمل في اتجاه تضليل للقراء عبر الإجراءات المألوفة لخطاب التخييل'، في حين أن الرواية، 'بتجريدها اللغة من الوهم، تجرد الواقع من بداهته'. وهي تستنتج أن 'الفن صدق، بينما الريبورتاج خديعة'. وهو تحليل نافذ، لكن معناه لايكتمل نظرا إلي عجزه عن تحديد ظروف إنتاج هذين الكتابين: فإبراهيم والقلش ومسعد، وهم مناضلون شيوعيون سابقون، نزلاء للمعتقل من عام 1959 الي عام 1965، عندما حل حزبهم نفسه وانضوي تحت راية النظام. وفي عام 1968، يغادر ابراهيم مصر إلي ألمانيا الشرقية ثم إلي الاتحاد السوفييتي: بما يشكل أخذ مسافة جسدية وفكرية سوف تخرج منه نجمة أغسطس، المكتوبة في معظمها في موسكو والمنشورة في دمشق في عام .1974 وبعد عشرين عاما من ذلك التاريخ، يفسر 'لغته المزدوجة' علي النحو التالي: أعددت أنا وصديقاي علي عجل كتاب رحلات عن تجربتنا أسميناه إنسان السد العالي. تعاملنا معه كواجب ثقيل يجب الانتهاء منه بأقرب فرصة (000) . ولم يكن هذا الكتاب يختلف في لغته وبنائه، كما هو واضح في العنوان، عن الخطاب الدعائي الحماسي السائد، لكني لم أشعر بأني أكذب، لقد كنت ببساطة أقوم بما خلته واجبي، مبررا لنفس أن أتقصي الحقيقة علي مهل، معطيا لنفسي الحق، بعد ذلك، في أن أعبر عن نفسي بحرية، أن ألعب لعبة الفن كما أشاء (5).
والحاصل أن تردد إبراهيم حيال ريبورتاجه ، الذي يجري التقليل من قدره في البداية ('واجب ثقيل') ثم يجري تبريره بعد ذلك بسطور قليلة ('واجبي')، إنما يشير إلي أن اللغة المزدوجة لاتفسر فقط بالرقابة وبالاستخدام الذرائعي للكتاب، بل هي أيضا ترجمة رمزية لهوية مزدوجة للكاتب الذي هو في آن واحد 'مثقف عضوي' و'فنان مستقل'، وهي هوية يجري اتخاذها أو المطالبة بها إلي هذا الحد او ذاك بحسب الأفراد.
قانون الحريات المتناقصة 'إن حرية (التفكير والإبداع) حق طبيعي لكل مفكر ومبدع (000)، لكن هذه الحرية لايمكن أن تكون مطلقة، بل يجب أن تكون مشروطة بشرطين: الأول امتلاك الصنعة والآخر حضور الضمير. حرية الفكر ليست حقا إلا لمفكر يستطيع أن يكتب فيقدم لنا أفكارا واضحة كاشفة مبنية علي أساس منطقي سليم. نتفق معه أو نختلف، لكننا لانستطيع الا التسليم بانه مفكر حقيقي فحرية الابداع ليست حقا الا لشاعر يستطيع ان يكتب فيقدم لنا قصيدة تهزنا وتمتعنا (الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي (ولد في عام 1935)، الأهرام، 6 يناير 1993). 'إنه لمن أعز أمانيٌّ أن يحظي الفكري مطلقة وأن يقتصر الخلاف فيه علي المناقشة العلمية الموضوعية (000) ومما يشجع علي شرعية هذه الأماني أن الفكر الحقيقي يدور في أوساط الصفوة من الراشدين، الذين لايخشي عليهم من الانبهار بالباطل. أما التعبير فالموقف مختلف. التعبير الفني أشمل من الفكر. إنه يعبر عن التجربة الإنسانية بجوانبها الفكرية والعاطفية والغريزية، ودائرة التعامل معه أوسع بكثير من المتعاملين مع الفكر. إضافة إلي ذلك فإنه كثيرا مايعرف سبيله إلي وسائل التعبير الجماهيرية، فيصل تأثيره إلي الأميين أنفسهم. من أجل ذلك يجب أن يراعي الحياء والأدب والذوق. ولن يضير الفن أن يراعي ذلك' (نجيب محفوظ، الاهرام، الأول من سبتمبر/ ايلول 1994). 'إن الذين ينظرون إلي مجتمعات الفلاسفة في الماضي قد غاب عنهم مانحن عليه اليوم من تقدم في وسائل المواصلات والاتصالات والإعلام مما يسر انتشار المعلومات الصالح منها والطالح ويصعب تنقيتها مما يضر المجتمع. فلا محل إذن للاحتجاج بالماضي في هذه الحالة، فقد كانت حلقات الفلسفة تتم بين العلماء والمتخصصين ولاتخرج إلي عامة الناس (الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيح الأزهر، الأهرام، 17يناير/ كانون الثاني1992).
من شأن الجمع بين هذه الأستشهادات المنقولة عن مثقفين ذوي انتماءات شديدة التباين أن يسمح لنا بإدراك الخاصية الرئيسية للنظام القومي لمراقبة نشر الإنتاج الثقافي: نخبويته. فنادرون هم أولئك الذين يطالبون بحرية مطلقة وغالبا ما تتردد الفكرة التي تذهب الي أن حرية التعبير إنما تجد حدا لها في المسئولية الاجتماعية للمثقف من حيث هو مبدع ومرب: والحال أن الخطابات المعاصرة إنما تندرج دوما في التمثيل الذي صيغ في عصر النهضة، وهو التمثيل الذي يذهب إلي أن مهمة الكاتب هي إيقاظ الضمائر وتهذيب الأذواق. وعلاقته بالجمهور ليست علاقة منتج بمستهلك بقدر ماهي علاقة استاذ بتلميذ: ولا يجري النظر إلي المسافة الثقافية بوصفها اختلافا، وإنما بوصفها هيراركية، ويتم إبقاء 'الجماهير' في نوع من القصور (بالمعني الحقوقي) لاعلاج له.
وهذه النخبوية التقليدية تجد ترجمة لها في نظام رقابة يعد اقتصاد العام واحدا قبل وبعد .1952 فالابتكار المهم الوحيد الذي أدخله نظام الضباط الاحرار يتعلق بالتعبير السياسي، والذي اصبح منذ ذلك الحين تحت رقابة صارمة. أمٌّا في المجال الأدبي والفني، بالمقابل،. فإن النظام لم يفعل سوي تثبيت نظام الرقابة الذي أنشيء في اوائل القرن من جانب الملكية الدستورية والمحتل البريطاني. ويتمحور هذا النظام حول نوع من قانون حريات متناقصة: فكلما كانت وسيلة النشر قادرة علي الوصول إلي جمهور واسع، خضعت لرقابة أشد. حرية قصوي للكتاب، الوسيلة ذات الجمهور الأكثر محدودية: وهكذا ألغيت الرقابة المسبقة في عام 1977 ولم يعد النشر يخضع لأي تصريح مسبق إذ لا يمثل الإيداع القانوني سوي إجراء شكلي، ناهيك عن أنه نادرا ما تتم مراعاته بالشكل الأمثل. حرية نسبية أيضا للصحف اليومية والدورية: وكانت الرقابة المسبقة علي الصحف قد ألغيت من الناحية الشكلية منذ عام 1974، لكن حرية التعبير في الصحف لم تصبح فعلية إلاٌّ اعتبارا من عام .1982 أمٌّا فيما يتعلق بالقيود التي تطال نشر الدوريات، فهي لاتمنع الكتٌّاب من قيامهم، منذ أواخر السبعينيات، بالنشر الغزير لعديد من النشرات والمجلات قصيرة العمر إلي هذا الحد أو ذاك، ثم حرية أقل لجميع الوسائل السمعية البصرية (المسرح، السينما، الكاسيتات ، الفيديو كاسيتات، إلخ)، والتي تخضع كلها لرقابة مسبقة تتولاها وزارة الثقافة وجري مؤخرا توسيعها ومنهجتها في حقل تطبيقها (القانون رقم 38 لعام 1992). ثم حرية من أدني حد أخيرا للإذاعة وللتليفزيون، وهما احتكاران للدولة مزودان برقابتهما الخاصة، والتي تتولاها وزارة الإعلام، وهي أكثر قسوة بكثير، بما في ذلك في مجال إنتاج القصة (الأعمال الدرامية، المسلسلات الأفلام).
كما تراقب وزارة الإعلام استيراد الكتب والدوريات، والذي يخضع دائما لرقابة مسبقة . ومن المؤكد ان هذه المراقبة للحدود تسترخي بفضل الانفتاح المتزايد للبلد علي الخارج، في الوقت الذي أصبحت فيه عديمة الجدوي بفضل الميديا عبر القومية الجديدة (قنوات التليفزيون الفضائية، الانترنت، إلخ). لكن حرية انتقال الصور والنصوص غير المادية، لاتفيد السلع الثقافية المادية، التي يظل دخولها وخروجها تحت رقابة صارمة. وعلي هذا المستوي مراقبة الحدود ، نجد أن رهان الرقابة رهان سياسي بالدرجة الأولي: فالدولة تجتهد في السيطرة علي صورة مصر كما تبديها للخارج وصورة مصر المصاغة في الخارج والتي يعاد استيرادها محليا. والمسألة علي جانب كبير من الحساسية بقدر ما أن الانتلجنسيا المصرية تحيا، منذ العصر الكولونيالي، في الشعور بأنها قد ججردٌِت من 'حقها' الطبيعي في تمثيل مجتمعها: ثم إن 'الإساءة إلي سمعة مصر' تستخدم كذريعة لتدابير مصادرة كثيرة يوافق عليها بل ويطالب بها مثقفون مصابون بالحساسية القومية المفرطة
ومن الوارد الظن بأن الكتٌّاب لم يعودوا، منذ عام 1977، معنيين بهذا النظام لتأطير الإنتاج الفكري والفني. لكن هذا سوف يكون إغفالا لواقع أن الكتاب في مصر، كحاله في أي مكان آخر إن لم يكن بأكثر مما في أي مكان آخر، ليس الركيزة التي ينشر بها الكاتب عمله. فهذه الرواية أو تلك المجموعة القصصية سوف تظهر في الصحف، قبل أن يتسني نشرها علي شكل كتاب. وهذه الرواية الاخري سوف تكون موضوع إعداد للمسرح أو السينما أو للإذاعة أو التليفزيون. وهذه الانتقالات، الضرورية لتوسيع الحضور الاجتماعي للكاتب، إنما تعد مناسبة لكل أنواع التدخلات التي ترجع أحيانا إلي الرقابة السافرة (الصريحة والمباشرة والعلنية)، أو ترجع في الأغلب إلي رقابة ضمنية: رقابة السوق والأذواق والموضات، إلخ، والتي يترتب عليها أن نوعا ما من الأعمال سوف يكون أنسب للشاشة بأكثر مما هو ممكن لعمل آخر، وسوف يخضع لهذا التحويل أو ذاك. ثم إن قصصا أو روايات تنشر بحرية علي شكل كتاب لم يتسن نشرها في الصحف، ومسرحيات نشرت دون مانع واجهت الحظر علي خشبة المسرح. وتحت ستار من البراءة لم تفقد الرقابة علي المسرح شيئا من فاعليتها منذ الستينيات إلي اليوم. أمٌّا فيما يتعلق بكتٌّاب السيناريوهات الإذاعية والتليفزيونية، فلا مفر أمامهم من الانصياع لنظام محظورات بالغة الصرامة من شأنها، في زمن الأقمار الاصطناعية، أن تعطي لبرامج مصرية عديدة شكلا متخلفا أكل عليه الدهر وشرب، في حين أن عددا من الأفلام المستمدة من أعمال أدبية، مع استهدافها بالفعل من جانب رقابة وزارة الثقافة، يجري تشؤيهها عند انتقالها إلي الشاشة الصغيرة أو يجري منعها من التليفزيون منعا باتا.
واستمرار هذا النظام القمعي التوجيهي يفسر أن رفض رقابة الدولة، والذي غالبا ما يعبر عنه الكتاب ، انما يفضي في غالبية الاحوال إلي ماطلبة ليس بالغاء هذه الرقابة وإنما بالأحري بالإدارة الذاتية لها. فالكتاب الشبان الرافضون المجتمعون في الزقازيق في عام 1969 قد طالبوا بأن يقوم علي الرقابة 'مثقفون علي مستوي المسئولية، وأن يجحتكم عند الخلاف مع الرقابة إلي لجنة من الأدباء والفنانين'. وفي عام 1994 أيضا، طالبت النخبة الأدبية المجتمعة في أتلييه القاهرة في بيان لها ب'إلغاء حق أي جهة أيا كانت في مصادرة الاعمال الأدبية أو الفكرية أو الفنية وطالبت ب'اعتبار الرقابة علي المصنفات الفنية مهمة مقصورة علي منظمات الفنانين المستقلة وهكذا، ففي مواجهة رقابة دولة يشتبه دوما بانعدام كفاءتها او انعدام فهمها، وان كان ايضا في مواجهة حرية كاملة قد تنتهك 'ثوابت المجتمع'، نجد أن المثل الاعلي الأوسع مشاطرة هو المثل الأعلي المتجسد في طائفة أدبية وفنية تتولي بنفسها مهمة انضباطها الذاتي.
وتقدم قضية علاء حامد تصويرا جيدا لهذا الموقف. فقد حجكم علي هذا الكاتب في عام 1991 بالسجن لمدة ثماني سنوات وبدفع غرامة قدرها 2500 جنيه (حيث طالت العقوبات نفسها موزع وطابع كتابه)، وذلك بسبب رواية رؤي انها تزدري الأديان . والحاصل أن هذا الحكم قد استثار صدمة شديدة وذلك بقدر ما أنه قد صدر عن محكمة استثنائية، في غياب سجال يعارض هذا الحكم ودون طعن ممكن. إلا أنه عندم حجكم علي هذا الكاتب نفسه، بعد ذلك بشهور قليلة (يونيو/حزيران 1992)، بسبب رواية أخري، بالحبس لمدة سنة مع التنفيذ، من جانب محكمة عادية، لم يحدث رد فعل من جانب أحد تقريبا: ففي نظر أقرانه الشرعيين ، نجد أن علاء حامد، وهو كاتب مغمور لروايات منشورة علي نفقته، ليس كاتبا. وكان لابد من انتظار تأييد هذا الحكم في محكمة الاستئناف وحبس حامد كيما ترتفع بالاحتجاج أخيرا بعض الاصوات.
لكن النخبوية المحورية المسيطرة علي الحقل الأدبي إنما تتجلي بأوضح شكل علي نحو خاص في موقفها من النتاجات الكبري للمجال التجاري (السينما، الأغنية). فالنزاع التقليدي بين 'الثقافة الرفيعة' و'الفن المبتذل'، وهو النزاع الذي كان قد جري إسكاته للحظة، في عهد عبدالناصر، تحت وطأة التمثيلات الإجتماعية التي فرضتها الإيديولوجية القومية وأجهزتها الرقابية، قد عاود الظهور واكتسب إتساعا جديدا اعتبارا من السبعينيات، عندما ردٌّ النظام إلي صغار وكبار منتجي الصناعة القومية في حقول السينما والمسرح والأغنية حريتهم. ومن سجالات أتاحت لها الوقوع آنذاك مسرحيات كمدرسة المشاغبين (1971) أو بعد ذلك بعدة سنوات، أغاني أحمد عدوية، إلي اليوم، نجد أن النجاح الجماهيري لمسرحية أو لفيلم أو لأغنية لاتتماشي مع 'ذائقة' النخبة 'الرفيعة' إنما يتيح بصورة منتظمة مجالا لمداخلات من جانب المثقفين علي اختلاف مشاربهم يترافق فيها نقد 'الفن المبتذل' مع مناشدات للرقباء بمزيد من اليقظة أو من الصرامة.
والخلاصة أن المكتوب وبالأخص الكتاب، الذي تنجه وتستهلكه نخبة، كان ومايزال الركيزة الأقل تعرضا للمساس من جانب الرقابة، لكنه ايضا، وبشكل مفارق، الركيزة التي يعد تدخل الرقابة فيها الأكثر مدعاة للرفض الصاخب: ومن جهة أخري، في المناقشة حول الرقابة، تعد مسألة ما يجوز أو مالا يجوز ثانوية بالقياس إلي مسألة من الذي يقرر ما هو جائز وما هو غير جائز. فالواقع أن النخبة المثقفة المصرية، علي اختلاف فصائلها، إنما تشترك في هاجس واحد يعلي من شأن ما هو مكتوب، وتشترك في إعلاء واحد من قيمة الكلمة المكتوبة: وهي تميل ميلا مسرفا إلي اعتبار كفاءتها النوعية، إجادة الكتابة، تعبيرا ممتازا عن المخيال القومي بحيث إن هذه الكفاءة تتيح لها مدخلا إلي مواقع السلطة الرمزية حيث يمكنها السيطرة بكفاءة علي مجمل جهاز إنتاج المخيال الاجتماعي وتوجيهه بكفاءة، كما سوف نري.
بين المطالبة بالحرية واتخاذ موقف سلطوي هكذا تطرح الأمثلة السابقة مسألة الحدود بين الرقابة الخارجية والرقابة الداخلية في الحقل، أو بين التقييم النقدي والرقابة في داخل حقل أدبي استقلاليته محدودة، حيث تنفرد الصراعات من أجل الرمزية بموقع الفاعلين في داخل حقل السلطة إلي حد بعيد. فكتٌّاب الافتتاحيات الصحافية ورؤساء التحرير والمشرفون علي السلاسل أو دور النشر التابعة للدولة، وأعضاء لجان القراة بالمسارح أو بالإذاعة أو بالتليفزيون وهم أنفسهم، في الغالب، شعراء وكتٌّاب وكتٌّاب سيناريوهات، إلخ يوجهون ويراقبون الإنتاج الأدبي والفني بتطبيقهم معايير محددة إلي هذا الحد أو ذاك، حيث يكون كل قرار ثمرة موازنة معقدة بين القيود الخارجية (السياسية، الايديولوجية، إلخ) والرهانات الداخلية في داخل الحقل، أو ، وهو ما يؤول إلي الشيء نفسه، يكون تعبيرا عن موقع مزدوج، رمزي (في داخل الحقل الأدبي) وسياسي (في داخل حقل السلطة)، لصاحبه، ووطأة نظام الرقابة الضمنية هذا تفسر مفارقة العهد الناصري، حيث كان الإبداع الأدبي والفني أكثر عرضة للرقابة المشددة وحيث كانت حالات المنع المعلنة نادرة نسبيا. وهكذا تشير دراسة حديثة للرقابة المسرحية إلي التباين بين اعوام 1955 1968، حيث لم يجر رفض أية مسرحية، والعقدين التاليين، حيث كان هذا الرفض متكررا، وهو ما يفسره الكاتب بنوعية لجان القراءة في الستينيات، حيث كان عمالقة الثقافة المسرحية يقومون ب 'عملية تقطير وتصفية للنصوص المسرحية قبل أن تجرّاقٌّب من قِبّل الرقابة نفسها'.
والإغراء عظيم دائما، بالنسبة لفاعلي الحقل الأدبي، لكي يلعبوا علي المستويين، أي لأن يلجأوا إلي رأسمالهم الرمزي لكي يفرضوا في داخل الحقل القيم الخاصة التي يدافعون فيه عنها. وكلما تمكن كاتب من تنمية هذا النوع من رأس المال، كان قادرا علي فرض نفسه في مواجهة سلطات الرقابة وكلما كانت حريته في التعبير والنقد أعظم. والمثال الكلاسيكي في هذا الصدد هو مثال نجيب محفوظ، المحمي من جانب محمد حسنين هيكل الذي يحصل من عبدالناصر مباشرة علي التصريح بمواصلة نشر أولاد حارتنا في الأهرام (1959)، ثم المحمي من جانب ثروت عكاشة،وزير الثقافة، الذي كان آنذاك رئيسه في هيراركية الوزارة، والذي يتفادي بالشكل نفسه الرقابة علي رواية ثرثرة فوق النيل (1966، الترجمة الفرنسية: 1989) ولئن كانت كل رقابة تميل إلي أن تكون أكثر صرامة تجاه الكتاب الأقل شهرة والأقل فوزا بالاعتراف مما تجاه الكتاب المكرٌّسين، فإن ذلك لايزال أصدق بقدر ما أن هؤلاء الكتٌّاب المكرٌّسين، كما في مصر المعاصرة، يتحركون في المجال الاجتماعي الواحد الذي يتحرك فيه من سوف يراقبون أعمالهم.
وعدم التحدد النسبي للحدود بين الرقابة والنقد إنما يظهر في السجالات الأدبية العديدة حيث ينحط نقد عمل من الأعمال إلي دعوة سافرة إلي هذا الحد أو ذلك إلي حظره، وعلي خلاف التثميل السائد الذي يوجد تعارضا مانويا بين رجعيين أو اصوليين يلعبون دور الرقباء وتقدميين أو علمانيين يلعبون دور المدافعين عن الحرية، يبين التاريخ المعاصر انه في داخل كل من هذين المعسكرين، بل وفي النزاعات الداخلية في كل معسكر منهما، هناك دائا كتٌّاب مستعدون لاستخدام موقعهم في داخل حقل السلطة لإخراس من لا يشاطرهم آراءهم من أقرانهم. وفي الستينيات، قام المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب باتهام انصار الشعر الحر مستخدما عبارات تكاد تكون سافرة بالخروج عن الدين ثم نشهد نقادا يساريين يهاجمون أعمالا أدبية أو درامية متهمة بأنها تبذر بذور التشكك والريبة في اللقاء الثوري الذي يتم في بلادنا بين مختلف القوي الاجتماعية المؤمنة بالتقدم والاشتراكية. وفي عهد السادات، نجد أن كتابا محافظين جري تصعيدهم إلي مواقع السلطة في داخل الحقل سوف يحبذون نوعا مصريا من المكارثية، كما فعل ذلك الشاعر صالح جودت (1912 1976) الذي أعلن أن ساحة الصحافة المصرية قد أصبحت في حاجة ملحة إلي التصحيح لتتطهر من العقارب. ثم يرتد البندول في التسعينيات: فالكتاب المرتبطون بالمؤسسة الساداتية، وقد أصبحوا مهمين في الواقع السياسي والاعلامي الجديد، يحتجون علي استبعادهم... وبتعبير الناقد جابر عصفور (ولد في عام 1944): آية ذلك ما رأيناه (....) من حالات دالة (....) علي تحول العلاقة بين المثقفين إلي ما يشبه العلاقة بين 'الأخوة الأعداء (....) في مناخ يعيد إنتاج القمع الواقع علي المقموعين بما يحيل المقموعين إلي قامعين (....) بأكثر من معني من معاني الارهاب (....) والمفارقة الدالة أن هذا النوع من المثقفين لايزال يتحدث عن حق الاختلاف الذي لايحترمه في ممارساته اليومية، ويطالب بالحرية التي يحرمها علي غيره، ويرفع راية الحوار الذي يرفضه باندفاعه الي لغة الاتهام القمعية. ولذلك أصبح الوجه الآخر من 'المكفراتي'.
وهذا التباين بين خطاب تهيمن عليه إشكالية الحريات وممارسات سلطوية ليس مقصورا علي الحقل الأدبي: فهذا الحقل لايفعل سوي أن يعيد بأسلوبه انتاج قاعدة اللعبة سارية المفعول في مجمل حقل السلطة. فبالنسبة للنخب السياسية والاقتصادية، تسمح الايديولوجية الليبرالية بتجريد المعارضة الاسلامية من الشرعية كما تسمح لها بتكوين صورة عن نفسها تتماشي مع توقعات أو مطالب الفاعلين السياسيين والاقتصاديين الأجانب. وفي الحقل الثقافي، من المؤكد أن خطاب الحريات يساعد علي توطيد مطلب الاستقلال الذي يعبر عنه الفاعلون الأكثر تمسكا بالقيم الخاصة للفن أو للفكر أو للأدب: إلا أن هذا الخطاب ينحط أيضا إلي رطانة يستخدمها الفاعلون استخداما ذرائعيا في صراعاتهم من أجل السيطرة في داخل الحقل ومن أجل الوصول إلي موارد السوق الدولية. وهذا هو السبب في ان المؤسسات التي تمارس رقابة فعلية أو قانونية تسعي الي اخفاء تدخلاتها، في حين ان الفاعلين، بالمقابل، يلجأون إلي استراتيجيات تصوير درامي مثير حيث نجد حوادث عادية من حوادث الحياة الأدبية (رفض النشر أو تأخيره، تدخلات المسئولين عن النشر في النصوص المعروضة للنشر. إلخ) وقد تحولت علي أيدي ضحاياها المزعومين إلي أحداث كبري مرئية للجميع.
الصياغة المؤسسية للمعيار الأدبي في فعل الدولة الخاص بتعريف وبفرض معايير وقيم الأدب، لاتقوم فقط بالمنع: بل هي تتولي التوجيه والتشجيع والمكافأة عن طريق مجموعة من المؤسسات التي تشترك بأشكال مختلفة في صياغة المعيار الأدبي. وبين هذه المؤسسات، يعد مجمع اللغة العربية، الذي انشيء في عام 1932، واحدا من المؤسسات القليلة التي نجت من تغيير النظام في عام 1952 (فهو لم يخسر من جراء هذا التغيير سوي صفته 'الملكي'). ومع أن من المفترض فيه أن يضم الشخصيات الثقافية القومية الأرفع مكانة، والتي تعين فيه إلي آخر العمر، إلا أن الجامعيين قد أضيفوا إلي الأدباء فيه منذ زمن بعيد وقد تأثرت مكانة المجمع تأثرا سلبيا بالتعيينات التي ترجع إلي المجاملة. وكان المجمع قد اجتهد، في بداياته، في لعب دور في الحياة الأدبية، إلا أنه انكب أساسا، منذ الخمسينيات، علي المسائل اللغوية وحل محله المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب في دور الراعي الرسمي هذا للأدب.
والحاصل أن هذا المجلس الذي انشيء في عام 1956 وتحددت له مهمة رسمية قوامها تنمية وتشجيع الفنون والآداب كان في البداية فترينة لانتماء النخبة المثقفة لزمن ما قبل 1952 إلي نظام الضباط الأحرار. وفي مقابل دعمهم، وفر المجلس لعباس محمود العقاد (1889 1964) ولعزيز أباظة (1898 1973) ولمحمود تيمور (18941973) ورفاقهم امكانات قيامهم الي الستينيات بترويج معايير لغوية وجمالية تحيد الي حد بعيد عن ايديولوجية النظام كما عن المفاهيم السياسية والجمالية للأجيال الجديدة من الشعراء والكتاب. ففي الستينيات، في زمن الواقعية الاشتراكية، رفض مجلس رعاية الفنون والآداب الاعتراف بالشعر الحر وخاض معركة مؤخرة ضد استخدام العامية في النثر القصصي.
وفي عام 1993، بعد عقدين من السبات، نجد أن المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب، والذي أعيدت تسميته في عام 1980 بالمجلس الأعلي للثقافة، قد قام من رماده الي الحياة مرة اخري. الحاصل أن فاروق حسني، وزير الثقافة، قد قرر أن يجعل منه الأداة الرئيسية لسياسته الثقافية وقد عهد بهذه المهمة إلي جابر عصفور. وهذا الجامعي، القريب من الأوساط الأدبية اليسارية في عهد السادات، وصاحب أبحاث مرموقة حول الشعر والنقد العربيين الكلاسيكيين ورئيس تحرير فصول، مجلة النقد الأدبي، هو اليوم واحد من الممثلين الرئيسيين للنقد الشرعي. وبحفز منه، نجد أن المجلس، الذي جري تزويده بامكانات جديدة، قد أصبح الأداة الرئيسية للسياسة الجديدة المتمثلة في ضم جميع الاتجاهات الفكرية إلي أحضان الدولة، وإن كان المجلس يريد أيضا أن يكون الفترينة الثقافية للبلد وأن يكون التعبير عن الإشعاع الاقليمي والدولي لمثقفيه.
وقائمة الحاصلين علي جوائز الأدب القومية تشكل مؤشرا جيدا علي علاقات النظام بالنخبة الأدبية. وكانت الجوائز القومية قد انشئت منذ عام 1946 بما يعد مثالا آخر لاستمرارية السياسات العامة للثقافة قبل وبعد .1952 وتكتسب منظومة الجوائز اتساعا جديدا مع القيام في عام 1958 بإنشاء مجموعة كاملة من جوائز الدولة في مجالات الفنون والآداب والعلوم، مقسمة إلي جوائز تقديرية تشكل تتويجا لمسيرة عمل وجوائز تشجيعية تمنح لكاتب عن عمل بذاته. وإذا كانت الجوائز التقديرية، في الستينيات، والتي كرست 'عمالقة' جيل 1919 وخلفائهم المباشرين (يحيي حقي 19051992)، الفائز بها في عام 1967، نجيب محفوظ، الفائز بها في عام 1968)، قلما كانت محل نزاع، فإن منح الجوائز التشجيعية، حيث حبذ المجلس أشكال الكتابة الأكثر تقليدية، غالبا ما أدي الي سجالات بما يشكل علامة علي أن الجوائز قد تمتعت بمكانة لها قدرها في الحقل الثقافي. وقد انهارت هذه المكانة في السبعينيات وأدي إصلاح عام 1980، بزيادته عدد الجوائز، إلي الإسهام في تقليل قيمتها.
فالجوائز التقديرية سوف تشكل عندئذ مكافآت عن خدمات سياسية مهمة (يوسف السباعي، الذي فاز بها في عام 1973 عندما كان وزيرا للثقافة، وحملة مباخر الساداتية أنيس منصور (ولد في عام 1924)، الفائز بها في عام 1981 وثروت أباظة، الفائز بها في عام 1982): وبشكل أكثر اتساعا، يقوم الجامعيون المهيمنون علي المجلس بتكريس أنفسهم بأنفسهم ويتداركون نسياناتهم الأكثر إثارة بجوائز يجري منحها لأسماء راحلين (صلاح عبدالصبور، 1981، إحسان عبدالقدوس، 1989) أو بجوائز قبل رحيل الفائزين بها عن عالمنا بوقت قصير (لويس عوض، 1988)، يوسف إدريس، 1990). في حين أن قائمة جوائز تشجيعية عديدة للغاية، منحت في الأجناس الأدبية الأكثر تنوعا، تكشف أن المجلس قد تجاهل جميع الأعمال الرئيسية في هذه الفترة، باستثناء عدد نادر منها.
والحال أن تحول السياسة الثقافية للدولة في منعطف التسعينيات إنما يتجلي بشكل شفاف في قائمة الجوائز التقديرية الموزعة منذ ذلك الحين بشكل متوازن الي هذا الحد أو ذاك علي مختلف الاتجاهات السياسية الأدبية: إذ يجري 'رد الاعتبار' إلي ضحايا الساداتية المكرسين أكثر من سواهم (ألفريد فرج ولد في عام 1926، جائزة 1992، فتحي غانم (19241999)، جائزة 1994، لطيفة الزيات (19231996)، جائزة 1995، غالي شكري (19351998)، جائزة 1996، بهاء طاهر وأحمد عبدالمعطي حجازي، جائزة 1997، إلخ)، مع مواصلة مكافأة جامعيين وأعمدة المؤسسة السياسية الاعلامية علي اسهام محدود القيمة من الناحية الأدبية.
وفي أوروبا، غالبا ما تكون القيمة المالية للجوائز الأدبية ثانوية، إما لأن الأدباء يسعون إليها بسبب قيمتها الرمزية بالأحري، أو لأن قيمتها المادية تقاس من زاوية المكاسب التجارية التي سوف تترتب علي الفوز بها. أما في مصر، خلافا لذلك، فإن ضعف السوق يدفع الفاعلين إلي قياس مستوي التزام الدولة حيال الثقافة بالحجم المالي للجائزة. والحاصل أن تأكل قيمة العملة المصرية قد جعل هذا الحجم مثيرا للسخرية علي مر السنين، لكن إعادة التقييم المنتظرة منذ زمن بعيد قد حدثت: ففي عام 1999 (الجوائز عن عام 1998)، زيدت قيمة الجوائز التقديرية والجوائز التشجيعية عشرة أضعاف، وجري إنشاء جائزة انتقالية بين هذه وتلك (جائزة التفوق)، بينما جري إنشاء جائزة مبارك فوق هذه الجوائز الثلاث، وهي جائزة تمنح لفائز واحد في كل حفل: وقد ذهبت جائزة مبارك للآداب أول ما ذهبت الي نجيب محفوظ، المشمول بالفعل بكل آيات التقدير، ثم ذهبت ثاني ما ذهبت إلي أنيس منصور، بما يعد نذير سوء بالنسبة للمستقبل.. ويجب أن نشير أخيرا إلي ما يعد علامة علي تضخم وصاية الدولة وتضخم الآمال التي يعقدها الفاعلون عليها، وهو العجز المزمن لهؤلاء الأخيرين عن إنشاء جوائز موازية كان يمكن ان تنبثق منها هيراركية أدبية أخري غير الهيراركية التي يفرضها المجال الرسمي.
حماة ورعاة ورقباء عرب رأينا في الفصل السابق كيف أن الكتاب المصريين قد اضطروا، اعتبارا من السبعينيات، إلي إعادة تحديد استراتيجياتهم المهنية ردا علي تراجع راعيهم الرسمي، الدولة المصرية، وتجاوبا مع إغراءات القوي الإقليمية الجديدة. وهؤلاء الفاعلون الاقليميون، الرسميون أو شبه الرسميين، إنما يميلون إلي أن ينشئوا مع اولئك الكتاب عين النمط من العلاقات الذي انشأته معهم الدولة المصرية، من الرعاية النزيهة الي الاستخدام الذرائعي والقمع، كما يميلون إلي أن يفرضوا سلبا (عن طريق الرقابة) أو إيجابا (عن طريق الرعاية والحماية) معايير أدبية معينة.
فقد انشأت دول عربية متباينة جوائز أدبية وعلمية تستلهم إلي هذا الحد أو ذاك نظام جوائز الدولة المصرية: جائزة فيصل في المملكة العربية السعودية وجائزة صدام في العراق، وجائزة الكويت للبحث العلمي، إلخ. وفي السنوات الأخيرة، حذا حذوها فاعلون خاصون، هم من حيث الجوهر رجال أعمال من بلدان الخليج يخصصون جانبا من ثروتهم الشخصية لهذه الرعاية بإنشائهم 'مؤسسات': مؤسسة سعاد الصباح (الكويت)، مؤسسة البابطين (الكويت)، مؤسسة سلطان العويس (الإمارات العربية المتحدة)، إلخ. وهذه الجوائز، التي يجوز منحها لمن لايتمتعون بجنسيات هذه البلدان، وهي جوائز غالبا ما تكون ذات قيمة مالية ضخمة، إنما تفيد الي حد بعيد مثقفين ومبدعين مصريين وتعمل كتبادل لرأس مال رمزي برأس مال مادي: فالحاصل علي الجائزة، بقبوله ربط اسمه بها، إنما يخلع هيبة وشرفا علي مانحها.
أما تنوع أنظمة الرقابة من بلد عربي إلي آخر فيمكن أن يكون قيدا تارة وتارة اخري فرصة للكاتب العربي. وتاريخيا، غالبا ما تمكن من جعلها