"يا عزيز عيني”: يحيل هذا النداء على الفور إلى اللحن الشعبي والفولكلوري الشهير ”يا عزيز عيني، ونا نفسي أروح بلدي”، وبالتالي إلى عمق الإحساس بالغربة وشجن البعد عن الوطن. ولذا، فإن حسام فخر يصدِّر روايته الجديدة التي تحمل هذا العنوان بالبيت الشهير لأمير الشعراء أحمد شوقي: “وطني لو شغلت بالبعد عنه، نازعتني إليه في الخلد نفسي”، وبمثل لاتيني يقول: “حيث رغد العيش يكون الوطن”. وأضيف هنا أيضا المثل الأجنبي الذي يقول: “إذا كنت تريد أن تشعر بأنك في وطنك، ابق في وطنك”. فهل يريد المؤلف أن يميز بين موقفين، أحدهما “شرقي” عاطفي، والآخر “غربي” عملي (ربما يتجسد أيضا في المثل الأجنبي القائل: “إذا أردت أن تشعر بأنك في وطنك، ابق في وطنك”)؟ أم أنه يريد أن يلغي الهوة بين هذين الموقفين ويختزلهما إلى مجرد صدى أو تعبير عن الإحساس بالغربة دون أن يشكل أي من الموقفين تعارضا مع الآخر أو استبعادا له؟ على صفحات الرواية القصيرة التي تربو صفحاتها على المائة بقليل، يقع يوسف ”المصري” في حب اسبرانسا “المكسيكية” منذ أول لقاء جمع بينهما في حفل أقامته باربارا، صديقته الأمريكية العجوز التي تحب الحياة وتهوى إقامة الحفلات التي يحضرها الكثيرون ممن لا تعرفهم لا لشيء إلا أنها تحب البهجة والضوضاء والموسيقى ورائحة الشواء وطعم النبيذ وصوت الضحك. وفيما عدا باربارا، التي تعيش حياتها على أرض وطنها، بالطول والعرض، مستمتعة بكل لحظة وفاتحة صدرها للجيران وجيران الجيران بل وضيوفهم وزوارهم، فإن جميع شخصيات الرواية من المغتربين الذين تنعكس محنة اغترابهم على حياتهم الشخصية. من بين قائمة طويلة من رسائل البريد الإليكتروني التي تلقي الضوء على اهتمامات البشر في أرض الأحلام الأمريكية كما يظهر من عناوين الرسائل (رحلات مجانية، مقويات جنسية، دعوات للحب، تأمين على الحياة، الحق في حمل السلاح، وما إلى ذلك)، تستوقف الراوي رسالة من مطولة صديقه روبرت (الذي يبدو أنه أيضا أسير الحلم الأمريكي المتمثل في اقتناء سيارتين ومنزل كبير وحساب مطمئن في البنك)، الذي عجز عن تحقيق حلم وحيد في أن يكون له طفل، ويلجأ مع زوجته جانيت إلى تبني طفلة تدعى ناديا (وهي من ضحايا الاضطرابات العرقية التي اجتاحت شرق أوروبا). وبعد أن يستفيض روبرت في شرح المعاناة التي تحملها هو وزوجته في تبني الطفلة، يسأله سؤالا عابرا عن مشروع “رواية تاريخية” تستحوذ على فكر الراوي بعنوان “يا عزيز عيني”. وعبر صفحات الرواية يطرح الراوي أشكالا متعددة لهذا المشروع، فهو تارة رواية تاريخية، وتارة فيلم سينمائي، وتارة مسرحية تاريخية. ويورد الراوي مقاطع من كل هذه المحاولات، فيتصور مشروع الفيلم السينمائي كإنتاج مصري مكسيكي مشترك، بطولة سلمى حايك، ويدرك على الفور مدى استغراقه في خيال محض، فيقول لنفسه: “بطَّل دلع واستهبال وشوف شغلك”. لكنه في طرحه لأفكاره عن هذا المشروع، وإصراره على إنجازه، بعد أن اشترطت حبيبته اسبرانسا ذلك للاقتران به، يتنقل بين تاريخ مصر والمكسيك (مستعينا في ذلك بمراجع تاريخية هامة على رأسها مؤلف عبد الرحمن الرافعي “عصر اسماعيل”)، ويعرض لقصة حب نشأت أيضا بين أحد أفراد الكتيبة المصرية وفلاحة مكسيكية، أعطاها الراوي أيضا اسم اسبرانسا، ربما تخليدا لقصة حبه الخاصة. يتزوج يوسف المصري من اسبرانسا المكسيكية، التي يطلق عليها اسم “أمل” وهو الترجمة العربية لاسمها باللغة الإسبانية. ورغم الحب القوي الذي ربط بينهما، فإن كلا منهما كان في النهاية أسير ثقافته وهويته الخاصتين. وحينما أراد يوسف أن يفاجئها ذات يوم بدعوة إلى متحف المتروبوليتان الشهير في نيويورك، تصورت أنه فعل ذلك لوجود معرض لفنانة مكسيكية، لكنه جذبها إلى الناحية الأخرى من هذا المعرض بالذات، متوجها إلى الجناح المصري. وباستثناء بعض الوجبات المكسيكية التي أصبح يتقنها، فإنه أخضع كل شيء في حياتهما لذكريات بلده وتاريخها، بل إنه أخضع تاريخ المكسيك نفسه لتلك الحقبة التي أوفد فيها خديوي مصر كتيبة من الجنود المصريين إلى المكسيك لمؤازرة نابليون الثالث إمبراطور فرنسا. يدعو روبرت صديقه يوسف وزوجته اسبرانسا لقضاء أحد أعياد الميلاد للتعرف على طفلتهما بالتبني والتي لم تتأقلم أبدا على الحياة مع روبرت وزوجته، وكانت تغرق دائما في حالات من الشرود والتفكير في الملجأ الذي انتزعت منه وصديقاتها اللاتي لم يفارقن خيالها. وبعد أن أغدقوا عليها الهدايا في ليلة عيد الميلاد فوجئوا بها ليلا وقد تعرضت لأزمة عصبية حادة أفقدتها النطق. في ذات الليلة، يفاجأ يوسف بثورة اسبرانسا عليه وهما في غمرة لقاء جسدي عارم، وهو يردد على مسامعها: “أمل، أمل حياتي، أحبك”. فتصرخ فيه بقوة: “كفاية بقى. إسمي مش أمل. إسمي اسبرانسا.. اسبرانسا.. فاهم؟!!” وفي ثورتها العارمة تواجهه بأوهامه: “بطَّل أوهام وكدب على نفسك. لا أنا وطنك، ولا انت عايش في نيويورك. نروح المتحف تجري جري على الجناح المصري، تقول لي الغروب في القاهرة، وطعم الطماطم في مصر، وتعالي اطبخ لك طبخة مصرية، وطول النهار مشغل لي الولية اللي بتقر وتعيد وتزيد وتقول أمل حياتي. انت أكتر واحد أناني شفته في حياتي.” وفي الصباح افترقا. وبانفراط عقد حياة اسبرانسا وناديا اللتين لم تتحملا الانسلاخ عن هويتهما، بل ويوسف نفسه، الذي تصور أن استغراقه في الربط بين بلده مصر والمكسيك بلد محبوبته قد يعمق الصلة بينهما.
حسام فخر في "يا عزيز عيني" بين لوعة الاغتراب وصراع الهوية
بقلم: فتحي أبو رفيعة - في: الأربعاء 18 أكتوبر 2017 - التصنيف: عرض كتب
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...