من كتاب : " العولمة والاسلام السياسى " كتاب الأهالى 2009

حتى لا تصبح المعرفة مزيفة أو ناقصة أو مشوهة

       ألغيت الحمايه البريطانيه على مصر سنه 1922. ثم وضع الانجليز على رأسها ملكا عرف بالفساد والغطرسة . وفي السنه التاليه اصبح للبلاد دستور ، وأحزاب ارادوا ان يحكموا من وراءها باسم الاستقلال . كانت خطوة حققتها ثورة 1919 . لكن ظلت البلاد مستعمرة.

     ولدت في ذات السنه ثم مرت خمس سنين فارسلني ابي الى المدرسه . كانت مدرسه ارساليه انجليزيه .  وكان المدرسون الانجليز ،  ينظرون الي وكانني من جنس ادنى متخلف . يضعون انفسهم في اعلى سلم الحضاره  ، ويطلون علينا من فوقه .

    فحاولت ان أتشبه بهم .  حفظت اشعار رديارد كييلينج  ، وتغنيت بأمجاد الامبراطوريه وشمسها الساطعة  التى تؤكد امتيازهم .  لكن مرت الايام كبرت وذهبت الى الجامعه  . اصبحت طالبا في كليه الطب . تعلمت اشياء عن الصحه والمرض قليله الفائده ، مفصوله عن المجتمع  ، وعن صله العقل بالبدن والاعضاء ببعضها  . لكننى اخذت اطل على اشياء تحدث في البلد ، صور تكتشف بالتدريج ان سمه صله ، بين المظاهر ، بين السياسه والاقتصاد والدين والقيم  الثقافية السائدة . فكلما تظاهر الطلبه ضد جنود الاحتلال ، اطلقت الحكومه عليهم قوات امنها ، وذهب الاخوان المسلمون على الهتاف الله اكبر ، ثم مهاجمتهم بالجنازير والخناجر.

   في سنه 1946 تخرجت طبيبا  . وفي عنابر المستشفى الجامعي المسمى فؤاد الاول ،  ادركت ان المرض والفقر مرتبطان ان الصله بينهما لا تنفصم  . وكانت الخطوه التاليه هي ان ادرك الصله بين الفقر وحكم الاستعمار والملك ودور الطبقات في المجتمع وعلاقه الاقطاع بالاجنبي واسعار القطن الهابطه  ، واستيلائه على الاراضي الزراعيه وانتزاعها من ملاكها وعلاقه الافكار بكل ما يحدث . هكذا اصبح محور حياتي ، هو  اكتشاف الصلة بين الظواهر فبدونها تظل المعرفه مزيفه او مشوهه او ناقصه . تلك المعرفه التي تخفيها  كل السلطات ،  السلطات السياسيه كانت او فكريه او دينيه . والهدف هو ألا نصل الى الحقائق ،  وحتى نظل ندور معصوبي العينين  ، مسلوبى الإراده ، عاجزين عن الابداع او التجديد او اجراء تغيير حقيقي في بلادنا.

وفي عصرنا هذا حدث تغيير شامل ، وهو ان العلاقات خرجت من نطاقها المحلي او القومي او الاقليمي ، الى العالم الواسع ومن حوله ، الى الكون في الفضاء اللانهائي .  اصبحنا نعيش في عالم يخضع لنظام واحد ، اسمه العولمة ، أو الكوكبة  .

  ان كل ما يدور في بلادنا وفي حياتنا من احداث ، يرتبط ارتباطا وثيقا بما يدور في العالم ، ولا يمكن فهمه ،  الا بإدراك مختلف عناصر هذا الترابط  .

    كانت سنين ما بعد الحرب العالميه الثانيه ،  بالنسبه الى الشعوب محملة بآمال كبيره فالكثيرون امنوا بالاشتراكيه  ، وظنوا انها تحققت بالفعل في ثلث العالم . ولم يروا بوادر الانهيار الذي حدث فيما بعد في الاتحاد  السوفيتي وبلاد شرق اوروبا . والكثيرون آمنوا بالنظم المسماه ديمقراطيه وباحتمالات التقدم التي تتيحها ،  او تفائلوا بمستقبل بلدان اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينيه ،  السائره بخطوات سريعه في طريق الاستقلال.

    ولكن انهارت هذه الامال الكبيره تحت ضربات الاستعمار الجديد ، المتعدد الجنسيه ، المهيمن على السوق العالمي السائر بخطوات سريعه في كوكبه النظام الاقتصادي والعسكري والثقافي ،  والتي تشكل اهم ظاهره في هذه المرحله من التاريخ .

    لقد أدى  ضياع الآمال،  وفشل الحركات الشعبيه ، وتدهور أحوال المعيشة في ظل الاوضاع الاقتصاديه الحاليه ،  والهجوم الكاسح الذي يشنه النظام الكوكبي على مصالح الشعوب وتاريخهم وثقافتهم وحريتهم  ، الى حدوث رد فعل عميق . ففي غيبه الحركات الاجتماعيه السياسيه الشعبيه ، كان من الطبيعى احياء الثقافة ، والعادات والافكار التي ظلت تشكل جزءا من التكوين العام .  

   في وقت الازمه،  يبحث الناس عن الاطمئنان عن الاستقرار عن المعروف والمالوف ، فى عهود ماضية . هكذا تتحول الحركه الاجتماعيه المتجهه الى الامام ،  الى حركه تتجه الى الخلف  ، إلى الماضي .

          هكذا تقوى وتتدعم كل الحركات السلفيه  ، التى تركن الى الاسره المغلقه والجماعه المغلقه ، الى العرق والطائفه  ، الى التطرف القومي والديني ، والى كل ما يميزها عن الاخر ، دون النظر الى الشيء المشترك بينها وبين غيرها .

         ان الهويه والاصاله والجذور ،  اشياء مهمه في حياه الافراد وتاريخ الامم ، وهى وضروريه للتطور والازدهار .  لكنها تصبح مدمرة ،  اذا ما اصابها الانغلاق والعزلة ، واذا لم تتفاعل مع القوى الأخرى .